خلال رحلتي العلمية التي قمت بها في صيف 2010 بموجب دعوة تلقيتها من معهد علوم المواد وتكنولوجيا الاسطحInstitute for Materials & Surface Technology-IMST بمدينة كيل في ألمانيا، عملت على استخدام حبيبات ثاني اكسيد التيتانيومTiO2 النانوية بعد تحويله لفيلم سميك على شريحة من الزجاج بتقنية السول جيل كمحفز ضوئي في ازالة تلوث المواد العضوية من الماء، والذي اعطى فعالية كبيرة في تحويل الماء المختلط بصبغة عضوية (ميثيل اورانج) الى ماء نقي خلال 4 ساعات من تعرض الماء الملوث لاشعة فوق بنفسجية مسلطة على المحفز الضوئي المغمور في الماء. ترتكز هذه التقنية على عملية التحفيز الضوئي Photocatalysis والتي لها تطبيقات عديدة مفيدة في مجال الحفاظ على البيئة.
ما هي عملية التحفيز الضوئي وكيف تعمل وما هي اهم تطبيقاتها التقنية الحالية والمتوقعة في المستقبل القريب؟ كل هذا سوف نتعرف عليه من خلال هذا المقال من سلسلة مقالات كيف تعمل الاشياء.
التلوث الحادث في البيئة يعتبر من المشاكل الاساسية التي تواجه العالم باسره ولا سيما وان هذا التلوث الذي يؤثر سلبا على حياتنا اليومية في تزايد مستمر، حتى اصبحت مشكلة التلوث من المشاكل الخطيرة التي لا يمكن ان تهمل بدون وضع علاج لها. ونذكر من امثلة التلوث البيئي على سبيل المثال:
ـ تلوث المياه بسبب مخلفات المصانع والمنازل.
ـ تلوث الهواء بأكاسيد الكبريت والنيتروجين والتي تسبب امراض في الجهاز التنفسي.
ـ تلوث هواء الغرفة الناتج عن المركبات العضوية التي تدخل في تركيب المنزل واثاثه
ـ مركبات الدوكسين السامة الناتجة عن رماد المواد الصمغية.
في الواقع وجد ان استخدام الطاقة للتخلص من هذه المصادر المتعددة للتلوث البيئي سبب مشكلة اخرى وهي زيادة نسبة انبعاث ثاني اكسيد الكربون في الجو والتي سببت ارتفاع درجة حرارة الكرة الارضية والتي تعرف باسم global warming ، ومن الحكمة هنا ان لا نستمر في استخدام الطاقة كوسيلة مضادة لمكافحة التلوث لأنها بالفعل سببت في مشكلة اخرى لا تقل خطورة عن مشكلة التلوث وفي نفس الوقت لا يمكن ايقاف النهضة التكنولوجية والصناعية.
وفي مثل هذه الظروف لابد من البحث عن بديل لحل هذه المعضلة من خلال ايجاد مادة جديدة لا تسبب ضرر اضافي للبيئة وفي نفس الوقت تعمل على اعادة الظروف البيئية لوضعها الاصلي باستخدام مصادر الطاقة الطبيعية مثل اشعة الشمس والتي هي جزء من التوازن البيئي ومصدر رخيص لطاقة لا تنضب. من هنا جاءت اهمية عملية التحفيز الضوئي photocatalysis .
ما هي عملية التحفيز الضوئي photocatalysis؟
كلمة تحفيز ضوئي photocatalysis هي كلمة مركبة من جزئيين الجزء الاول photo وتعني الضوء والجزء الثاني catalysis وتعني التحفيز.
تعتمد عملية التحفيز على مادة تعمل على زيادة معدل تحول المواد المتفاعلة بدون ان تتأثر هذه المادة او ان تستنزف. تعرف هذه المادة باسم الـ catalyst أي المحفز. وتقوم بزيادة معدل التفاعل عن طريق تقليل طاقة التنشيط اللازمة له. وبالتالي فان عملية التحفيز الضوئي هي عبارة عن تفاعل يستخدم فيه الضوء كمنشط للمادة التي سوف تعمل على زيادة معدل التفاعل الكيميائي بدون ان يكون لها دور في التفاعل نفسه.
لتوضيح الفكرة اكثر نأخذ مثالا من الطبيعة فمثلا مادة الكلوروفيل Chlorophyll في النباتات هي محفز ضوئي طبيعي. والفرق بين الكلوروفيل والمحفز الصناعي هو ان الكلوروفيل يقوم بامتصاص ضوء الشمس لتحويل الماء وثاني اكسيد الكربون إلى اكسجين وجلوكوز، ولكن المحفز الصناعي يعطي مركب مؤكسد قوي جدا يعمل على كسر روابط المواد العضوية السامة والبكتيريا عند تعرضه لضوء الشمس او الضوء العادي ويحولها إلى ثاني اكسيد الكربون وماء كما هو موضح في الشكل.
على اليمين في الشكل يوضح دور الكرورفيل في عملية التحفيز الضوئي وعلى اليسار يوضح دور ثاني اكسيد التيتانيوم في التحفيز الضوئي.
ويمكن استخدام هذا المبدأ ايضا في معالجة المياه وتنقيتها، وكذلك تحلل اكاسيد النيتروجين السامة في الهواء، وتنقية الهواء في غرف المنازل واماكن العمل وغيرها من التطبيقات المفيدة.
دور المحفز الضوئي واستخداماته يمكن ان نقسمها لفئات اساسية هي:
ـ تنقية المياه.
ـ منع التلوث.
ـ مضاد للبكتيريا.
ـ التخلص من الروائح الكريهة.
ـ تنقية الهواء.
كل هذه التطبيقات تعتمد على ضوء الشمس او الاشعة فوق البنفسجية من أي مصدر في وجود مادة التحفيز الضوئي فما هي المادة السحرية التي سوف تقوم بهذه الاعمال مستفيدة من اشعة الشمس هذا ما سنوضحه في الجزء التالي من هذا المقال.
أي من المركبات مرشح كمحفز ضوئي؟
لقد وقع الاختيار على اشباه الموصلات semiconductors لتكون محفز ضوئي لان مواد اشباه الموصلات تمتلك فجوة طاقة صغيرة بين حزمة التكافؤ وحزمة التوصيل. ولكي تتم عملية التحفيز الضوئي تمتص مادة شبه الموصل طاقة من اشعة الشمس مثلا او من مصدر اشعة فوق بنفسجية مساوية على الاقل لفجوة الطاقة فتنتقل الكترونات من حزمة التكافؤ إلى حزمة التوصيل فيصبح لدينا الكترون في حزمة التوصيل وفجوة موجبة في حزمة التكافؤ. الفجوة الموجبة تعتبر مؤكسد قوي يمكنه اكسدة الجزئيات.
مسحوق ثاني اكسيد التيتانيوم TiO2
من بين مواد اشباه الموصلات الممكن استخدامها كمحفز ضوئي مادة ثاني اكسيد التيتانيوم Titanium Dioxide والذي له الرمز الكيميائي TiO2 وفجوة الطاقة في TiO2 هي Eg=3.2eV وهذه الطاقة تعادل طاقة فوتون له طول موجي يساوي 388nm وهذا الفوتون يقع في مدى الاشعة فوق البنفسجية. ويعتبر ثاني اكسيد التيتانيوم الانسب للاستخدام كمحفز ضوئي لعدة مزايا منها على سبيل المثال ان ثاني اكسيد التيتانيوم خامل، مقاوم للتأكل ويحتاج الى معالجة وتحضير اقل من غيره من اشباه الموصلات، وهذا يجعله متوفرا بسعر منخفض التكلفة. كما يمكنه التفاعل في ظروف عادية.
حزم الطاقة في ثاني اكسيد التيتانيوم
عندما يمتص ثاني اكسيد التيتانيوم الاشعة فوق البنفسجية من اشعة الشمس او من أي مصدر ضوئي يعمل في مدى الاشعة فوق البنفسجية فان طاقة الاشعة فوق البنفسجية كافية لتحرير الكترون وفجوة موجبة.
يصبح الكترون حزمة التكافؤ في ثاني اكسيد التيتانيوم مثارا عند امتصاصه للأشعة فوق البنفسجية وينتقل الالكترونe- إلى حزمة التوصيل تاركا خلفه فجوة موجبة في حزمة التكافؤh+ . ويصبح ثاني اكسيد التيتانيوم في هذه الحالة مثارة. فرق الطاقة بين حزمة التكافؤ وحزمة التوصيل.
ألية عمل التحفيز الضوئي في ثاني اكسيد التيتانيوم
الفجوة الموجبة h+ في ثاني اكسيد التيتانيوم تعمل على تحويل جزيء الماء إلى هيدروجين وهيدروكسيل. ويتفاعل الالكترونe- مع جزيء الاكسجين ويعطي انيون مؤكسد قوي جدا. تستمر هذه العملية طالما هناك ضوء متوفر.
نبذة تاريخية على تطور تقنية التحفيز الضوئي لثاني اكسيد التيتانيوم TiO2
رئيس اكاديمية كاناجاوا Kanagawa للعلوم والتكنولوجيا باليابان
اكتشف تأثير ثاني اكسيد التيتانيوم في العام 1967 بواسطة البروفيسور Fujishima بطريقة غير متوقعة عندما عرض الكترود من ثاني اكسيد التيتانيوم في محلول مائي لضوء قوي، لاحظ Fujishima خروج فقاعات من سطح الالكترود، وهذه الفقاعات لا تخرج عندما لا يكون هناك ضوء. وجد فيما بعد ان هذه الفقاعات تتكون من غاز الاكسجين. كذلك اكد ايضا على تولد غاز الهيدروجين على الالكترود المقابل والذي كان من البلاتين. وبهذا استنتج ان الماء تحلل إلى اكسجين وهيدروجين. ما حدث على سطح ثاني اكسيد التيتانيوم هو تحفيز ضوئي وعرفت هذه الظاهر فيما بعد باسم تأثير هوندا فوجيشيماHonda-Fujishima. وقد تم نشر تلك النتائج في بحث علمي في عام 1972 وقد جذبت نتائج هذا البحث انتباه الكثير من العلماء حول العالم. وقد استخدم العلماء اليابانيون هذه الطريقة في استخلاص الهيدروجين من الماء باستخدام ضوء الشمس للحصول على مصدر نظيف للطاقة. وقد اثبت فوجيشيما بتجربة قام بها إمكانية استخلاص الهيدروجين حيث قام بطلاء سطح منزله بطبقة رقيقة من ثاني اكسيد التيتانيوم وفي يوم مشمس وصافي استطاع ان يستخلص حوالي7 لتر من الهيدروجين لكل متر مربع. ولكن نظرا لانخفاض كفاءة تحويل الطاقة اعتبرت عملية التحفيز الضوئي غير مناسبة لتحويل الطاقة. ولكن هذا لم يثني البروفيسور فوجيشيما الذي اتجه الى الاستفادة من خاصية الاكسدة القوية لثاني اكسيد التيتانيوم في الضوء كمادة محللة ففي العام 1989 قام بتجربة طلى فيها سقف وجدران غرفة عمليات في مستشفى بثاني اكسيد التيتانيوم وكانت النتيجة هي انخفاض مقدار التلوث البكتيري في تلك الغرفة واصبحت تلك المادة منذ ذلك الوقت تستخدم كمادة مضادة للبكتيريا وفي انظمة تنقية الهواء.
عملية التحفيز الضوئي باستخدام ثاني اكسيد التيتانيوم تشبه عملية البناء الضوئي بواسطة كلوروفيل النباتات
في العام 1995 اكتشفت ظاهرة جديدة ادت الى اتساع تطبيقات التحفيز الضوئي باستخدام ثاني اكسيد التيتانيوم. حيث لوحظ عند طلاء زجاج بمادة ثاني اكسيد التيتانيوم وتعرضه لأشعة الشمس فان قطرات الماء تصبح مسطحة على سطحه. وهذه خاصية تعرف باسم superhydrophilicity أي محبة للماء وبمزيد من الدارسات التي قام بها فوجيشيما وزملائه باستخدام ميكروسكوب القوة الذرية atomic force microscope (AFM) لاحظ ان الاشعة فوق البنفسجية قد انتزعت بشكل جزئي ذرات الاكسجين من سطح ثاني أكسيد التيتانيوم. وكانت هذه المناطق التي انتزع منها الاكسجين تعرف باسم محبة للماءتعرف بالمصطلح hydrophilicأي مناطق لها زاوية اتصال كبيرة بين السطح والماء،في حين ان المناطق التي لم تنتزع منها ذرات الاكسجين هي مناطق كاره للماء وتعرف بالمصطلح hydrophobic وتكون فيه زاوية اتصال الماء مع السطح صغيرة. وقدرت مساحة المناطق المحبة للماء بـ 30nm×50nm ومناطق اخرى كاره للماء Hydrophilic بنفس المساحة تقريبا. وهذا جعل قطرات الماء على السطح مسطحة بدلا من ان تكون كروية، وهذا شكل طبقة رقيقة منتظمة من الماء على السطح لان الماء انتشر علي المساحات المحبة للماء hydrophilic من السطح. فاذا كان هناك اثار زيت على السطح فان قطرات الماء عند هطول المطر مثلا سوف تنساب تحت طبقة الزيت وتزيله بسهولة. وهذه تقنية اصبحت تستخدم الان وتعرف باسم التنظيف الذاتي والان يتم استخدام طلاء من ثاني اكسيد التيتانيوم على الجهة الخارجية لنوافذ المباني الكبيرة ومرايا السيارات.
عملية التنظيف الذاتي للسطح بالاعتماد على خاصية التحفيز الضوئي لثاني اكسيد التيتانيوم
عرض يوضح مبدأ عمل التحفيز الضوئي لثاني اكسيد التيتانيوم وتطبيقاته المختلفة
مشكلة وحل
من المهم ان نشير هنا الى ان الكثير من البحوث العلمية المكثفة تجري لتطوير عملية التحفيز الضوئي باستخدام ثاني اكسيد التيتانيوم وجعله مادة يمكن استخدامها تجاريا في تطبيقاته المختلفة. فمثلا من الافضل ان تتم عملية التحفيز الضوئي في الضوء المرئي وليس قاصرا على الاشعة فوق البنفسجية حتى يتم الاستفادة من الانارة العادية في المنازل في تنقية الهواء والتخلص من الجراثيم وغيرها من التطبيقات الاخرى. كما ان زيادة كفاءة عملية التحفيز الضوئي تعتبر من العوامل المهمة. ومن اجل الوصول لأفضل النتائج اجريت العديد من البحوث في مختلف المعامل البحثية.
في العام 2001 تمكن العالم الكيميائي Asahi في مختبرات Toyota في اليابان من تطعيم TiO2 بالنيتروجين والذي يعرف باسم التيتانيوم الاصفر والذي اظهر استجابة كبيرة في الضوء المرئي. حيث اتضح ان التطعيم بالنيتروجين ادى الى تقليل فجوة الطاقة بين حزمة التكافؤ وحزمة التوصيل ليصبح بالإمكان استخدام ضوء طوله الموجي يتراوح بين 390 إلى 500nm. وعلى جانب اخر اجريت العديد من الابحاث العلمية لزيادة كفاءة التحفيز الضوئي بإضافة جسميات نانوية من المعادن النبيلة مثل الفضة والبلاتين والذهب في مادة ثاني اكسيد التيتانيوم. فقد وجد ان اضافة 1 الى 5% من الفضة ادى الى زيادة الكفاءة.
تجربة ونتيجة
استخدام ثاني اكسيد التيتانيوم في صورة مسحوق لتنقية الماء هي طريقة فعالة ومستخدمة ولكن لها مشاكلها فبعد ان يقوم المسحوق بوظيفته وتنتهي عملية التنقية يتطلب التخلص من المسحوق من الماء وهنا تكمن المشكلة. فكان الحل من خلال عمل فيلم سميك من حبيبات ثاني اكسيد التيتانيوم على شريحة من الزجاج باستخدام تقنية السول جيل Sol-Gel وبعد ضبط نسب تركيز السول المستخدم لإنتاج الافلام وضبط ظروف التحضير بالتجربة والتحليل والدراسة تم صناعة افلام سمكية من حبيبات ثاني اكسيد التيتانيوم استخدمت في دراسة تأثير ثاني اكسيد التيتانيوم كمحفز ضوئي على محلول مائي مذاب فيه صبغة الميثيل اورانج وذلك بوضع الفيلم المحضر في المحلول تحت اشعاع فوق بنفسجي ورصد تحلل الصبغة العضوية خلال الزمن.
تجهيز فيلم ثاني اكسيد التيتانيوم
اختفاء اثر صبغة الميثيل اورانج في الماء بعد 4 ساعات من عملية التحفيز الضوئي
الخلاصة
عملية التحفيز الضوئي هي عملية فيزيائية كيميائية لها تطبيقات مفيدة سوف تظهر اثارها على حياتنا في ان يحظى كل منا بهواء نظيف خالي من الجراثيم والبكتيريا ونشرب ماء نقي وصحي ونحظى بنوافذ لا تتسخ وقد نحصل في المستقبل القريب من هذه التقنية على مصدر طاقة غير ضار من الهيدروجين المستخلص من الماء. اتمنى ان اكون قد قدمت من خلال هذا المقال شرحا مبسطا لهذه التقنية واهم التطبيقات المستخدمة.
لمزيد من المعلومات يمكن الاستعانة بهذه الروابط الالكترونية
مواقع النشر (المفضلة)