ترويض الزهرة !!!






من بين جميع الأشنات المعروفة تبدو المسماة (سيانوفيتا Cyanophyta) أكثرها تأقلماً على العيش في أقسى ظروف البيئة.


هذه العضويات الحية ذات الرائحة الكريهة, هي الأقدم والأكثر انتشاراً بين جميع أصناف الحياة على الأرض, وتكفيها أقل كمية من الماء لتعيش وتتكاثر. لقد وجد بعضها في خزانات وقود الطائرات النفاثة يعيش متكاثراً في الوقود, غير عابئ بالفرو قات الكبيرة بين درجات الحرارة والضغط التي يتعرض لها بين كل إقلاع وهبوط للطائرة. كما وجدت مجموعات أخرى من الأشنات حية في مياه التبريد المستعملة في المفاعلات النووية تحت ظروف يتعرض فيها الإنسان للموت فوراً بتأثير الإشعاع.


بعض هذه الأشنات يعيش في جليد المناطق القطبية حيث تبلغ درجة الحرارة سبعين درجة تحت الصفر, وبعضها يعيش في قوالب الجليد سنين عديدة, وقد ظهر بعضها في ينابيع المياه الحارة التي تزيد درجة حرارتها حوالي مائتي درجة عنها في المناطق القطبية الباردة.


يعتقد كثير من العلماء أن (السيانوفيتا) هي أولى صور الحياة البدائية التي ظهرت على سطح الأرض. إنها ليست نباتاً ولا حيوانا, لكنها تجمع صفات الاثنين معاً، فبالرغم من أن تكاثرها وحيد الجنس, مثلها في ذلك مثل البكتيريا التي تحدرت منها الحيوانات كثيرة الخلايا, فإنها تفتقر إلى النواة التي تميز الخلية الحيوانية, مما يرجح الاعتقاد بأن الأشنيات هي أسلاف كل من البكتيريا, والحيوانات وحيدة الخلية معا, اللتين تفرعت عنهما كافة أصناف الحياة فيما بعد.


لم يكن الغلاف الجوي للأرض قبل ثلاث مليارات من السنين غنيا بالأوكسجين كما هو الآن, بل كان يتكون أساسا من ثاني أوكسيد الكربون والأمونياك والميتان. كانت الأشنيات القابعة في أعماق البحار حينئذ تستعين بأشعة الشمس الضعيفة المتسربة إليها على مهاجمة ثاني أوكسيد الكربون وتفكيكه إلى مركبيه: الكربون, والأوكسجين.


لقد ازداد تركيز الأوكسجين المتصاعد من البحر في أجواء الأرض مع استمرار هذه العملية الأمر الذي أدى إلى انقشاع غمامة الأمونياك والميتان تدريجيا فيما بعد ومن ثم إلى نشوء وارتقاء أصناف جديدة من النباتات التي قامت أيضاً بتفكيك كميات مضاعفة أخرى من ثاني أوكسيد الكربون خلال عملية التمثيل الضوئي, فكان تركيز الأوكسجين في الغلاف الجوي على الأرض يتضاعف يوما بعد يوم, مع ازدياد أعداد وأنواع النباتات الناشئة.


هذه القدرة الفائقة التي تتمتع بها الأشنات على البقاء و التكاثر السريع في أقسى الظروف البيئية, أقنعت مجموعة من العلماء بأن زرعها في أجواء الزهرة, هو الحل العملي والناجع لتكييف هذه الأجواء بما يناسب الحياة العضوية المعروفة على الأرض.


لقد وضعت خطة من قبل الدكتور (ساغان) ومساعده تتميز ببساطتها وقلة تكاليفها لإعادة تكييف جو الزهرة.




"The arrival of Micro-Organisms on Venus may have a dramatic effect on the planet": Sagan and Leonard, Planets. P. 117




تتلخص الخطة بوضع بضع عشرات من مركبات الفضاء المسيرة آلياً في مدارات متعاكسة حول كوكب الزهرة, تشحن المركبات بقذائف صاروخية, كل قذيفة تحوي الملايين من الأشنات, وتقوم المركبة بإطلاق قذيفة كل (30) ثانية. ما إن تخترق القذيفة غمامة ثاني أوكسيد الكربون المحيطة بالكوكب حتى تنفجر آلياً مطلقة الأشنات في الجو, فتباشر الأخيرة مهمتها في التهام ثاني أوكسيد الكربون و التكاثر فوراً, وتأخذ الغمامة الخانقة المحيطة بالكوكب بالانقشاع تدريجياً, فلا يمر عام على بداية المشروع حتى تصبح أجزاء من سطح الكوكب مرئية من خلال المراصد الأرضية.


إن معدل تكاثر الأشنات هو مفتاح نجاح الخطة و يتم وفق متوالية هندسية تتضاعف فيها الأعداد دوماً كالتالي: (1, 2, 4 , 8, 16, 32, 64..) فإذا ابتدأ التكاثر برقم كبير, فإنه سيتضاعف إلى أرقام كبيرة جداً خلال فترة وجيزة، إن حاصل ضرب العدد (2) مثلا بنفسه (63) مرة هي (92233072063854775808) وهو رقم يصعب تصوره، فكيف إذا ابتدأ بالملايين؟ بهذه الطريقة العددية ستتكاثر الأشنات في أجواء الزهرة, بعكس ما حصل على الأرض حيث وجدت هذه الأشنات في البداية مبعثرة بكميات ضئيلة وفي أصقاع متباعدة, فاستغرقها الأمر حوالي ملياري سنة منذ هجومها الأول على الغلاف الغازي لالتهام ثاني أوكسيد الكربون, وحتى نشوء


الحياة الراقية.


لقد أصبح من المؤكد الآن أن الأشنات ستعيش وستتكاثر في بيئة غنية بثاني أوكسيد الكربون كبيئة الزهرة, فقد أجريت تجارب عديدة منذ عام (1970) لاختبار مقاومة أنواعها المختلفة لظروف بيئية مماثلة. وكانت النتيجة نجاحاً باهراً فقد وُجد أن حقن مليون خلية من الأشنات أدى في الظروف المذكورة إلى ازدياد نسبة الأوكسجين بمعدل(380%) كل يوم. كما أمكن من خلال هذه التجارب اختيار أفضل أنواع الأشنات الملائمة لبيئة الزهرة, وهي نوع يظهر في الينابيع الحارة في الأرض يدعي ( سيانيديوم كالداريوم CYANIDIUM. CALDARIUM).


إذا أمكن زيادة نسبة الأوكسجين في جو الزهرة بمعدل (380%) يومياً , فلن يمضي وقت طويل حتى تنقشع غمامة ثاني أوكسيد الكربون المحيطة بالكوكب ليحل الأوكسجين محلها, متيحاً الفرصة لأشعة الشمس تحت الحمراء التي كانت محتجزة تحت الغلاف الغازي الكثيف لتتسرب من أجواء الكوكب إلى الفضاء الخارجي الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض ملحوظ في درجة الحرارة على السطح, فيتجمع بخار الماء ليشكل سحابات ممطرة هائلة تتوزع على كامل سطح الكوكب. إن هطول المطر سيسرع في انقشاع الغيوم مخلفاً بعده جواً غنياً بالأوكسجين, ملائماً لاستيطان بعض النباتات و الحيوانات الأرضية, كما سيؤدي إلى تشكل البحار و المحيطات فوق الوديان و السهول و الأراضي المنخفضة مهيئاً الفرصة لاستمرار الدورة المطرية التي ستؤدي إلى ازدهار الحياة.


بعد انقشاع الغيوم عن الكوكب, وبزوغ الشمس في سمائه لأول مرة, ستتفاعل أشعة الشمس في الطبقات العليا من جوه في طبقة ( الستراتوسفيرSTRATOSPHERE) مشكلة طبقة من الأوزون تمتص أشعة الشمس فوق البنفسجية التي تشكل خطراً على الكائنات الحية, والتي لابد من امتصاصها للتنقل بحريّة على سطح الكوكب, دون ألبسة الفضاء الواقية.


يميل بعض كتاب الخيال العلمي إلى تسمية الهطول المطري الأول على الزهرة بالهطول الكبير (BIG RAIN) لغزارته الهائلة, ولا ننسى أن ارتفاع درجة حرارة سطح الكوكب التي تبلغ حوالي (480م˚) ستحول دون ملامسة الاندفاع المطري الأول للسطح, إذ أن الهطول سيتبخر عندما يقترب من أرض الكوكب ويعود أدراجه إلى الأجواء العليا ، لكن تبادل الحرارة بين المناطق القريبة من السطح المتوهج ومياه الأمطار الباردة ستؤدي إلى انخفاض درجة الحرارة قليلاً عند الصدمة الأولى, ربما بحدود (40) درجة مئوية.


لن تتوقف عملية التمثيل الضوئي في هذه الأثناء, بل سيستمر تفكك ثاني أوكسيد الكربون محرراً الأوكسجين في الجو, وسيستمر تركيب الكربوهيدرات (CARBOHYDRATES) من الأوكسجين و الهيدروجين و الكربون مخلفا بذلك الحساء العضوي الذي سيكون مقدمة نشوء الحياة النباتية على سطح الكوكب. سرعان ما ستتبرد الغيوم التي تراجعت إلى الأجواء العليا ويعود الهطول من جديد, لكن مياه المطر ستقترب هذه المرة من سطح الكوكب أكثر, فتؤدي إلى انخفاض أكبر في درجة حرارة السطح, ربما بحدود (70 م˚).


بتكرار محاولات الهطول المطري ليلامس السطح, ثم عودته إلى الأعلى ليبرد ويعيد الكرة من جديد, ستنخفض درجة حرارة السطح تدريجياً, كما ستنقشع غمامة ثاني أوكسيد الكربون, وأخيراً عندما تصبح درجة حرارة السطح حوالي (90 م˚) أو أقل, سترتطم المياه المنهمرة على السطح محولة القفار التي لم يسبق لها أن عرفت الماء, إلى طين تغدق من خلاله الأنهار المحملة بالأتربة, وتتخلله البحيرات والبرك الحارة. سيتشقق سطح الكوكب بتأثير الصدمات الحرارية المتكررة أثناء محاولات الهطول المطري الأولى, فتتسرب المياه من الشقوق, ومن الطبقات النفوذة للقشرة السطحية, وتتجمع في آبار, لتتفجر ينابيع على سطح الكوكب فيما بعد، و ستساعد الغازات الكبريتية المتوافرة في أجواء الكوكب على أن تكون الهطولات الأولى حامضية التركيب و بالتالي أكثر قدرة على التفاعل مع الصخور و إحداث تشققات تتسرب من خلالها.


كل ذلك سيهيئ البيئة اللازمة لاستقبال الحياة العضوية الأولى.


أما مكافأة الجنس البشري على استصلاح الكوكب فستكون مجزية فعلاً, إنها عالم كامل توأم لعالم الأرض.


إن تهيئة الزهرة للاستيطان لا يعني أن تكون مجهزة بكل وسائل الراحة و الرفاهية فلأسباب لا تزال مجهولة يدور الكوكب ببطء شديد حول نفسه ليبلغ طول يومه (118) يوماً أرضياً. أي أن ليلة على الزهرة تعادل شهرين أرضيين, وكذلك الأمر بالنسبة للنهار.


لاشك أن ليل الزهرة بعد استصلاحها سيسوده البرد والصقيع, كالليل القطبي على سطح الأرض, مما سيضطر المهاجرين في البداية إلى إقامة معسكرات ليلية وأخرى نهارية في نقاط متقابلة على خط استواء الكوكب, يمكن التنقل بينهما باستخدام الطائرات أوالسكك الحديدية مثلاً, وبذلك يتسنى لهم العيش في نهار دائم إذا أرادوا, إلا أن طبيعة العيش هذه تقتضي القيام برحلة مقدارها (16000 كم) كل شهرين, يمكن تسميتها برحلة (الليل و النهار), فهي أشبه بحياة البداوة, ولا تشجع على إقامة مدنية مزدهرة.


هذه صورة لولادة عالم جديد, صورة لمهاجرين رحلوا إلى عالم بعيد يحملون في جعبتهم تراثاً مدنياً عريقاً من الأرض, مخلفين وراءهم شبح المجاعة والحرب والبؤس والتلوث, فهل سيكتب لهم النجاح والاستقرار؟ أم ستطاردهم الأشباح التي حسبوا أنهم خلفوها وراءهم, لتنعكس في البداية على شكل نزاعات مع الحكومات الأرضية عندما يكون عدد المستوطنين مازال قليلاً, ثم تتحول هذه النزاعات في غضون بضع مئات من السنين إلى حروب طاحنة بين عالمين, فيتلاشى الحلم الوردي وتنتشر المجاعة والبؤس والتلوث من جديد في كوكبين متماثلين تقريباً في المساحة يسودهما الجنس البشري؟



للاستمتاع في الأجواء الرحبة للخيال العلمي

تحياتي