بسم الله الرحمن الرحيم

أعضاء المنتدي الكرام

هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد يونية - يولية 2003


أسطع الانفجارات في الكون(*)
يُولد ثقب أسود كلما حدث تدفق لأشعة گاما
<N.گيرِلْس> ـ <L.پيرو> ـ <T.J.P.ليونارد>

في الصباح الباكر من يوم 23/1/1999، كشف مقراب إنسالي(1) robotic في نيومكسيكو وميضا باهتا من الضوء واردا من كوكبة الإكليل الشمالي Corona Borealis. ومع أنه كان يُرى بصعوبة بالغة من خلال المناظير الصغيرة الثنائية العينيتين binoculars، فقد تبين أنه أسطع الانفجارات التي شاهدها الناس حتى الآن. وقد تمكنّا من رؤية هذا الانفجار الذي يبعد عنا تسعة بلايين سنة ضوئية، وهذه مسافة أكبر من نصف المسافة التي تفصلنا عن أطراف الكون القابل للرصد. ولو أن هذا الانفجار حدث على مسافة بضعة آلاف من السنين الضوئية فقط، لكان سطوعه مماثلا لسطوع الشمس في الهاجرة، ولعرّض الأرض لجرعات من الإشعاع تكفي تقريبا للقضاء على كل ما هو حي عليها.

كان الوميض دُفقة أخرى من دفقات أشعة گاما الشهيرة، التي غدت في العقود الأخيرة من أكثر أسرار علم الفلك إثارة للاهتمام. وقد حدثت أول رؤية لدفقة من أشعة گاما (GRB) في2/7/1967، وكان ذلك بواسطة سواتل عسكرية مهمتها مراقبة التجارب النووية في الفضاء. وقد أظهرت هذه الانفجارات الكونية أنها مختلفة إلى حد ما عن الانفجارات التي تحدث بفعل الإنسان، والتي صممت السواتل لكشفها. وطوال معظم السنوات الخمس والثلاثين التي أعقبت رؤية أول دفقة لأشعة گاما، كانت كل دفقة من هذه الأشعة تزيد الباحثين حيرة وإرباكا. وكلما كانوا يظنون أنهم توصلوا إلى تفسير لهذه الدفقات، كانت تستجد شواهد تعيدهم ثانية إلى نقطة البداية.

بيد أن الاكتشافات المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة جعلت الفلكيين أقرب إلى جواب نهائي. قبل عام 1997، كان كل ما نعرفه عن دفقات أشعة گاما (GRB) يستند إلى الأرصاد التي زودتنا بها تجربة الدفقة والمصدر العابرة Burst and Transient Source Experiment BATSE التي كانت تنفذ على متن مرصد كومتون لأشعة گاما Compton Gamma Ray Observatory. بينت التجربة BATSE أن اثنتين أو ثلاثا من دفقات أشعة گاما تحدث يوميا في مكان ما من الكون الذي يتسنى رصده، وأنها تفوق في سطوعها كل شيء في سماء أشعة گاما. ومع أن لكل من هذه الدفقات سمتها الخاصة، فمن الممكن تقسيمها تقريبا إلى فئتين: دفقات «قصيرة الأجل» تدوم أقل من ثانيتين، وأخرى «طويلة الأجل» تدوم مدة أطول ـ وهذه الأخيرة هي الأكثر حدوثا. وتختلف الفئتان طيفيا: ففي الدفقات القصيرة الأجل تكون طاقة أشعة گاما أعلى نسبيا منها في الدفقات الطويلة الأجل. وقد بثت الدفقة التي حدثت في الشهر1/1999 أشعة گاما لمدة دقيقة ونصف.

دفقات أشعة گاما/ نظرة إجمالية(**)
▪ ظلت دراسة دفقات أشعة گاما دون تقدم طوال ثلاثة عقود ـ إذ لم يتمكن الفلكيون من تقديم حتى صورة تمهيدية لما يُطلِق هذه الألعاب النارية الكونية.
▪ بيد أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة، أوضحت الأرصاد أن هذه الدفقات هي مخاضات ولادة ثقوب سوداء. ومن المحتمل أن يتولد معظم هذه الثقوب نتيجة انهيار نجم عظيم الكتلة، وهذا يحرر نبضة من الإشعاع يمكن رؤيتها على مسافة تقدر ببلايين السنين الضوئية.
▪ لقد انتقل البحث حاليا إلى مرحلة ثانية تتجلى في صياغة النظرية وحل بعض الألغاز الدقيقة، وبخاصة التنوع الواسع الذي يصعب تصديقه لهذه الدفقات.

ثمة من يحاج في أن أهم نتيجة قدمتها التجربة BATSE تتعلق بتوزّع الدفقات. فهي تحدث بتناح isotropically ـ أي إنها تنتشر بانتظام في السماء كلها. وألقى هذا الاكتشاف شكوكا على الاعتقاد السائد بأن الدفقات تصدر عن منابع موجودة في درب التبانة؛ فلو كان الأمر كذلك، لوجب أن يسبب شكل مجرتنا، أو موقع الأرض البعيد عن مركز المجرة، تركيزا لمصادر الدفقات في بقاع معينة من السماء. وقد دفع هذا التوزع المنتظم معظم الفلكيين إلى استنتاج أن الأجهزة كانت تلتقط إشارات نوع معين من أحداث تجري عبر الكون بأكمله. ولسوء الحظ، فإن أشعة گاما وحدها لم تزودنا بما يكفي من المعلومات لحسم هذه المسألة تماما. ولا بد للباحثين من كشف إشعاع من دفقات بأطوال موجية أخرى. فالضوء المرئي، مثلا، يمكّن من كشف المجرات التي تحدث فيها الدفقات، الأمر الذي يُمَكّن من قياس المسافات التي تفصلنا عنها. وقد أجريت عدة محاولات لكشف نظائر لهذه الدفقات الأخيرة، لكن دون جدوى.

دفقة من التقدم(***)
لقد حصل تقدم مفاجئ في هذا المجال عام 1996 بفضل سفينة فضاء الأشعة السينية BeppoSAX، التي قامت ببنائها وتشغيلها وكالة الفضاء الإيطالية بالتعاون مع وكالة الفضاء الهولندية. كانت السفينة BeppoSAX أول ساتل يحدد مواقع دفقات أشعة گاما بدقة، ويكتشف الأشفاق (التوهجات اللاحقة) afterglows لأشعتها السينية. ويظهر الشفق عندما تختفي إشارة شعاع گاما. ويستمر وجود الشفق أياما قد تمتد إلى شهور، وهو يضعف مع الزمن ويتحول من أشعة سينية إلى أشعة أقل فاعلية، تضم ضوءا مرئيا وموجات راديوية. ومع أن الساتل BeppoSAX كشف أشفاقا لدفقات طويلة الأجل فقط ـ ولم يكشف بعد نظراء لها من الدفقات القصيرة الأجل ـ فإنه جعل الأرصاد التي تتابع تلك الدفقات أمرا ممكنا في نهاية المطاف. وبتوفير الساتل BeppoSAX معلومات عن مواقع الدفقات، غدا بإمكان المقاريب الضوئية والراديوية تعيين تلك المجرات التي تحدث فيها دفقات أشعة گاما، وجميعها تقريبا تبعد عنا بلايين السنين الضوئية؛ وهذا يعني أن شدة الدفقات يجب أن تكون هائلة(2). ولما كانت الطاقات المتطرفة تتطلب بدورها أسبابا متطرفة، فقد بدأ الباحثون يربطون دفقات أشعة گاما بأكثر الأجسام التي عرفوها تطرفا، وهي الثقوب السوداء.

لم يكن ممكنا رسم مثل هذه الصورة بأي درجة من الثقة قبل عقد من الزمان، ذلك أنه لم يكن ثمة من يعرف بالضبط ما يُحدِثُ دفقات أشعة گاما ـ وهي ومضات إشعاع ذي طاقة عالية يضيء السماء مرتين كل يوم. ويعتقد الفلكيون الآن أنها آخر مظهر للنجوم قبل انهيارها. فالثقب الأسود، الذي يولّده انفجار داخلي لنجم عملاق، يمتص الحطام وينفث جزءا منه. عندئذ تقوم سلسلة من موجات الصدم ببث هذه الأشعة.

من بين أولى دفقات أشعة گاما التي حددها الساتل BeppoSAX بدقة، الدفقة GRB970508، التي سميت بهذا الاسم لأنها حدثت في 8/5/1997. وقد وفرت لنا الأرصاد الراديوية التي أجريت لشفقها دليلا أساسيا. كان التوهج يتغير بغير نظام، إذ كانت شدته خلال الأسابيع الثلاثة الأولى ترتفع وتنخفض بعامل قدره اثنان تقريبا، ثم تستقر بعد ذلك وتبدأ بالتناقص. ومن المحتمل ألا يكون لتلك التغيرات الكبيرة علاقة بمصدر الدفقة نفسه؛ إذ إنها قد تتعلق بانتشار ضوء الشفق عبر الفضاء. فكما أن جو الأرض يجعل ضوء النجوم يتلألأ، فإن الپلازما بين النجمية تجعل شدة الموجات الراديوية تعلو وتهبط أيضا. وكي تكون هذه الظاهرة مرئية، يجب أن يكون المصدر صغيرا وبعيدا جدا إلى درجة يبدو لنا فيها مجرد نقطة. هذا وإن الكواكب لا تتلألأ لأن قربها النسبي يجعلها تبدو لنا كأقراص وليس كنقاط.

ومن ثم، إذا كانت الدفقة GRB970508 تتلألأ عند أطوال موجية راديوية، ثم تتوقف، فلا بد أن يكون مصدرها قد نما من مجرد نقطة إلى قرص يمكن تمييزه. ويعني «إمكان التمييز» في هذه الحالة أن امتداد المصدر يقدر ببضعة أسابيع ضوئية. ولبلوغ هذا الحجم، فلا بد أن يتمدد المصدر بسرعة عالية ـ قريبة من سرعة الضوء.

لقد أدت أرصاد الساتل BeppoSAX وأرصاد لاحقة إلى تغيير وجهة نظر الفلكيين المتعلقة بدفقات أشعة گاما. فالفكرة القديمة عن إطلاق مفاجئ للطاقة خلال بضع ثوان جرى نبذها. وحتى مصطلح «الشفق» صار يعتبر الآن مصطلحا مضللا: فالطاقتان اللتان تحرَّران خلال الدفقة والشفق قريبتان إحداهما من الأخرى. وطيف الشفق هو سمة مميزة لإلكترونات تتحرك في حقل مغنطيسي بسرعة مساوية لسرعة الضوء أو قريبة جدا منها.

لقد كانت الدفقة (GRB990123)، التي حدثت في الشهر1/1999، مفيدة جدا في تبيان القدرة الهائلة للدفقات. فلو أطلقت تلك الدفقة طاقتها بالتساوي في جميع الاتجاهات، فسوف تكون لها ضيائية luminosity تقدر ببضعة مضاعفات لـ 10^45واط، أي لـ 10^19مرة من ضيائية شمسنا. ومع أن النمط الآخر المشهور من الجائحات الكونية، وهو انفجار المستعرات الأعظمية، يحرر قدرا مماثلا تقريبا من الطاقة، إلا أن معظم تلك الطاقة يهرب على شكل نيوترينوهات، ويكون تسرب الباقي أبطأ مما هو عليه الحال في دفقة لأشعة گاما. ويترتب على ذلك أن ضيائية مستعر أعظمي في أي لحظة معطاة ليست سوى جزء ضئيل من ضيائية دفقة لأشعة گاما. حتى الكوازارات، التي لها سطوع متميز، فإنها لا تطلق سوى10^40واط تقريبا.

شفق (توهج لاحق) حار [جدا](****)
أشعة سينية: بعد ثماني ساعات من دفقة انطلقت في28/2/1997، رأى الفلكيون الذين كانوا يستعينون بالساتل BeppoSAX ـ ومن ضمنهم واحد من مؤلفي هذه المقالة [پيرو] ـ شفق أشعة سينية للمرة الأولى. التقطت الصورة الثانية بعد يومين من التاريخ المذكور آنفا، وفي ذلك الوقت كانت الأشعة السينية قد ذوت بعامل قدره 20 مرة.
ضوء مرئي: إن رد فعل سريعا نسبيا من قبل الفلكيين العاملين في لاپالما، بجزر الكناري، جعل الشفق نفسه يُرى في الضوء المرئي. وخلال الأسبوع التالي، تضاءل سطوع الضوء إلى سُدْس سطوعه الأصلي. وخلال هذا التضاؤل، أخذت المجرة تظهر ببطء.

بيد أنه إذا ما وجَّهت دفقة طاقتها باتجاهات معينة بدلا من توجيهها بجميع الاتجاهات، فإن قدر الضيائية يكون أقل. ويأتي الدليل على توجيه الدفقة باتجاه محدد من الطريقة التي يخبو بها شفق الدفقة GRB990123، ودفقات أخرى، مع الزمن. فبعد يومين من بداية هذه الدفقة، زادت سرعة الخبو فجأة، وهذا أمر يحدث إذا كان الإشعاع المرصود واردا من نفثة ضيقة من مادة تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء. وبسبب مفعول (تأثير) نسبوي relativistic، فإن الراصد يرى قدرا آخذا في التعاظم من النفثة خلال تباطئها. ثم تأتي مرحلة لا يوجد المزيد مما يمكن رؤيته عندها، ويبدأ السطوع الظاهري بالتضاؤل بسرعة أكبر [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وفيما يتعلق بالدفقة GRB990123 وعدة دفقات أخرى، فإن الزاوية المستنتجة لفتحة النفثة تساوي بضع درجات. ولا نرى الدفقة إلا في تلك الحالة التي تكون فيها النفثة موجهة على طول خط بصر الراصد. هذا وإن توجيه دفقةٍ طاقتَها باتجاهات معينة، بدلا من توجيهها بجميع الاتجاهات، يخفض الطاقة الإجمالية التي تصدرها تلك الدفقة بقدر يتناسب تقريبا مع مربع زاوية النفثة. فمثلا، إذا كان انفراج زاوية النفثة عشر درجات، فإنها تغطي قرابة500/1 من السماء، ومن ثم فإن الطاقة اللازمة تنخفض 500 مرة؛ أضف إلى ذلك أن مقابل كل دفقة مرئية لأشعة گاما، ثمة 499 دفقة من هذه الأشعة لا نتمكن من رؤيتها. وحتى إذا أخذنا في اعتبارنا توجيه الطاقة باتجاهات معينة، فإن ضيائية الدفقة GRB990123 تظل مثيرة للدهشة إذ إنها تساوي10^43واط في هذه الحالة.

تلاشٍ تدريجي(*****)
جرى تسجيل أسطع دفقة لأشعة گاما حتى الآن في23/1/1999. وقد تعقبت المقاريب سطوع الدفقة في كل من أشعة گاما [الزرقاء في الشكل]، والأشعة السينية [اللون الأخضر]، والضوء المرئي [اللون البرتقالي]، والموجات الراديوية [اللون الأحمر]. وفي إحدى المراحل، تغير معدل الإظلام فجأة ـ وهذه إشارة إلى أن الإشعاع كان واردا من نفثات ضيقة من مادة تسير بسرعة عالية. وبعد مضي نحو أسبوعين على بدء الدفقة ـ خفت الضوء المرئي خلالهما بعامل قدره أربعة ملايين ـ التقط مقراب هبل الفضائي صورة ظهرت فيها مجرة مشوهة جدا. وعادة، تتصف مثل هذه المجرات بمعدلات عالية من التكون النجمي. ولو كانت الدفقات هي انفجارات نجوم فتية، لكان من الضروري أن يحدث ذلك في مثل هذا الموقع تماما.

الصلة بين دفقات أشعة گاما والمستعرات الأعظمية(******)
كان أحد أكثر الاكتشافات إثارة للاهتمام هو الصلة بين دفقات أشعة گاما والمستعرات الأعظمية. فعندما وُجهت المقاريب إلى الدفقة GRB980425، عثرت أيضا على مستعر أعظمي، أطلق عليه اسم SN1998-bw، سبق أن انفجر في نفس الوقت تقريبا الذي حدثت فيه تلك الدفقة. كان احتمال وقوع هذين الحدثين في وقت واحد يساوي واحدا في 10000(3).

وقد أدى اكتشاف الحديد في أطياف الأشعة السينية لكثير من دفقات أشعة گاما إلى اقتراح وجود ارتباط بين دفقات أشعة گاما والمستعرات الأعظمية. ومن المعروف أن ذرات الحديد تُنتَج وتُلقَى في الفضاء بين النجمي نتيجة لانفجارات المستعرات الأعظمية. وإذا جُرِّدت هذه الذرات من إلكتروناتها ثم أعيدت إليها ثانية في وقت لاحق، فإنها تصدر ضوءا بأطوال موجية متميزة، تسمى خطوط إصدار. وفي وقت سابق، أُتْبِعَت الاكتشافات الهامشية لهذه الخطوط، التي أجراها عام 1997 كل من الساتل BeppoSAX وساتل الأشعة السينية الياباني ASCA، بقياسات أكثر دقة. وتجدر الإشارة إلى أن مرصد شاندرا للأشعة السينية التابع للوكالة ناسا اكتشف خطوط حديد في الدفقة GRB991216، وهذا سمح بإجراء قياس مباشر للمسافة التي تفصلنا عن تلك الدفقة. وهذه المسافة تتفق مع المسافة التي قدرت لبعد المجرة التي حدثت فيها الدفقة.

خطوط الحزمة (*******)

وقد أجريت أرصاد إضافية أكدت الصلة بين دفقات أشعة گاما والمستعرات الأعظمية. فقد ظهرت سمة feature لامتصاص الحديد في طيف الأشعة السينية لدفقة أشعة گاما GRB990705. وفي القشرة الغازية المحيطة بدفقة أخرى، هي GRB011211، وجد ساتل الأشعة السينية المتعدد المرايا X-ray Multi-Mirror Satellite، التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، دليلا على خطوط إصدار من الذرات المستثارة للسيليكون والكبريت والأرگون، وعناصر أخرى تطلقها عادة المستعرات الأعظمية.