ما هما المكان و الزمان؟ هل يوجدان مطلقين، أم نسبيين فقط إلى المادة؟ هل يشكلان خلفية ثابتة أو المسرح الذي تجري عليه دراما الحياة حتى النهاية - أو أنهما يشاركان في الأحداث؟ هذه الأسئلة هي قديمة قدم الفلسفة نفسها.

|في العصور القديمة الكلاسيكية
رأى الفيلسوف الرواقي زينونZeno من إليا Elea ، مؤلف مفارقات زينون (490-430 قبل الميلاد) (1) ، أن المكان و الزمان زائفان لأنهما يمكن أن لا يعملا بواسطة المادة. كانت هذه الحجج ميتافيزيقية بحتة بالمرة.

كانت رؤية زينون صورة متطرفة للنظرة النسبية للفضاء (الفضاء موجود بقدر ارتباطه بالمادة). في الواقع ان مفهوم "الفضاء الخالي" كان تناقضاً في الشروط، لأنه إذا كان الفضاء فارغاً حقاً فإنه سيكون لا شيء و بالتالي غير موجود ، و العكس أو النظرة المطلقة ذلك أن الفضاء يوجد بشكل مستقل عن المادة، و يمكن تتبع اثار ليوقبوس Leucippus(موجود 450 قبل الميلاد) ، و أول الذريين اليونانيين (في وقت لاحق الأبيقوريين) (2) ، الذي عرض مفهوم الفراغ الموجود مسبقاً كفراغ "بين الذرات". البيان الاقدم وجوداً لوجهة النظر المطلقة نسبه ماكس جامر (في كتاب مفاهيم في الفضاء عام 1954) إلى ارخيتاسArchytas الفيلسوف الفيثاغوري (428-347 قبل الميلاد) بقوله: "لأن كل شيء يتم تحريكه يكون متحركاً إلى مكان معين ، فمن السهل أن المكان الذي يوجد فيه شيء يتحرك أو سيتحرك يجب أن يكون موجودا أولا. "

قدّم أرسطوAristotle (384-322 قبل الميلاد) رأياً دقيقاً و حريصاً لكنه خليط من وجهات النظر النسبية و المطلقة. هو كانرافضاً لأسلافه و كتب (في الكتاب الرابع للفيزياء) : "إننا نواجه صعوبات عندما نحاول أن نقول بالضبط لشيء هو "مكان"... كما أنه لا بوادر لي لأقدم أي شيء، أو حتى طرح أي سؤال حول هذا الموضوع ". و قبِلَ حجج مماثلة لارخيتاسArchytas ، و لكن كان مستاء للغاية من الفكرة الذرية للفراغ " نظراً لأنها لا تعطى أفضلية لنوع من الحركة أكثر من أخرى ما دام الفراغ في حد ذاته غير قادر على التمييز. .. كيف [اذن] يمكن أن يكون هناك أي حركة طبيعية في فراغ بلا تمييز لا حد له؟ " للالتفاف على هذه الصعوبة وضع أرسطو فكرة ذكية هي أن تحديد الفضاء بما يحتوي عليه. قاد بهذه الفكرة المؤثرة إلى تصوره عن كون يمتلك اطار مرجعي الذي تم تحديده من قبل سماء النجوم الثابتة أعلاه، و مركز الأرض أدناه : "إن مركز الكون و السطح الداخلي للسماوات الدوارة تشكل العليا ’أدناه’ والعليا ’فوق’ ، و المشكل يكون مستقراً تماماً، و الثابت الأخير في موقعه جملة ".


|أواخر العصور القديمة إلى العصور الوسطى
طبيعة الوقت فضلاً عن الفضاء نوقشت بشغف بهذه الطريقة من قبل القدماء. الفيلسوف الأبيقوري لوكريتيوس Lucretius( 99-55قبل الميلاد) ربما يكون أول من جادل بصراحة وجهة النظر النسبية للزمن و كتب في كتاب طبيعة الكون أن :"الزمن في حد ذاته لا وجود له... ويجب أن لا يدعي أي شخص انه يمكن الشعور بالزمن في حد ذاته بصرف النظر عن حركة الأشياء. "

وضّح كلوديوس بطليموسPtolemy(85-165م) أساساً نظام لأرسطو، و ذلك باستخدام حركات دائرية فقط، و بسرعة منتظمة من أجل "إنقاذ الظواهر" في وجه الملاحظات الدقيقة على نحو متزايد. الطريقة التي عملها تؤكد المطلق - بمعاكسة المظهر النسبي لتفكير أرسطو – و التي استبقت مبدأ ماخ إلى حد ما، ان "إطار النجوم الثابتة" أو "مركز الأرض" يمكن ان تعتبر انها فقط مادة. تبنّى فكرة مبكرة لهيبارخوسHipparchus أولاً بإزاحة مركز "مدار الشمس" عن مركز الأرض ("لا مركزية")، ثم أضاف في وقت لاحق الكوكبي "deferents" و"أفلاك التدوير" وأخيراً "equants" – و هي كل النقاط المختارة أو المنحنيات في الفضاء الخالي (بعضها حتى مع حركاتها الخاصة بها). انه يرجع ربما مثل هذه "نقاط الفراغ " لمواقع محددة أو حركات محددة نسبة إلى نوع من الأمر الإلهي يتخلل الفراغ، لأنه كتب في (المجسطي): "إن السبب الأول للحركة الأولى في الكون - إذا ما أخذنا في الاعتبار ببساطة - يمكن التفكير فيه باعتباره من إله خفي وساكن". إذا كان الأمر كذلك، فان بطليموس سبق نيوتن الذي سيشير إلى فضاء مطلق بعد عدة قرون لاحقة (في البصريات) بلفظة دماغ "Sensorium" الآلهة.

وضع القديس أوغسطين (354-430) تحولاً لاهوتياً على حجة لوكريتيوس لطبيعة نسبية الزمن في اعترافاته Confessions، مؤكداً أن" الله خلق العالم بزمن، وليس في زمن". جاء الزمن إلى حيز الوجود جنباً إلى جنب مع هذه المادة، و بعبارة أخرى، انها وجهة النظر التي بشّر بها بشكل مثير علماء الكونيات اليوم أن أحداً قام بالانفجار العظيم.

سادت وجهات نظر أرسطو كل الأنحاء في معظم هذه الفترة، و لكن كان هناك اعتراض من قبل المفكرين الأحرار مثل جون فيلوبونوسJohn Philoponus (490-570) ، الذي جادل بصورة مطلقة و أكثر براءة و قاوم بشكل خاص ضد فكرة أن تعريف الفضاء بطريقة ما على ما هو يحتويه : "المكان أو الفضاء ليس جزءا من الجسم المجاور المحيط به... إنه ]أي المكان[ مفترض و قابل للقياس في ثلاثة أبعاد، بل هو مستقل عن الأجسام فيه، و يكون بسبب طبيعته معنوي، بعبارة أخرى، إنه أبعاد لوحدها، خالياً من أي جسم. "

|الثورة العلمية


نقل نيكولاس كوبرنيكوسNicolaus Copernicus (1473-1543) مركز كون أرسطو من الأرض إلى الشمس. هذا الانتقال لم يكن، مع ذلك، من الجرأة كما كان يعتقد لكثير من الأحيان، فإن هيبارخوس و بطليموس قد نقلا بالفعل "مدار" الشمس بعيداً عن مركز الأرض (عن طريق إدخال "اللامركزية"). كما أشار كوبرنيكوس نفسه تقريباً في بداية كتاب دوران الأجرام السماويةRevolutionibus De : "لا شيء يمنع الأرض من التحرك ... لأنها ليست وسط الدورات جميعا". علاوة على ذلك على الرغم من أنه إعاد مركزية الكون بشكل حركي إلى الشمس فهو لم يربط الفضاء بشكل ديناميكي إلى الإطار الساكن للشمس أو أي جسم آخر، و لكنه تابع أرسطو في ربط ذلك بشكل غيبي مع "نطاق النجوم الثابتة"(فكتب) يقول عنها: "التي تحتوي على نفسها و كل شيء، و بالتالي فهي ثابتة، و مما لا شك تكون مكان الكون، و يتم مقارنة موقع و حركة كل الأجرام السماوية الأخرى بها".

بعد خمسين سنة لم تعد الملاحظات الفلكية يمكن أن تتوافق مع مفهوم مدارات الكواكب الجامدة، مما يؤدي أن يعلن يوهانس كبلرJohannes Kepler (1571-1630) : "من الآن فصاعداً الكواكب تتبع مساراتها خلال الأثير مثل الطيور في الهواء، و علينا أن نتحدث بالتالي عن هذه الأشياء بشكل مختلف". مثل هذه الأفكار قادته إلى فكرة جوهرية ربط الإطار الساكن للفضاء بالأجسام الطبيعية بدلاً من تركيبات غيبية (كبلر تصور القوى تمتد إلى الخارج من الشمس و تجتاح الكواكب على طول مداراتها). قوانين حركة الكواكب التي اشتقها كبلر في وقت لاحق ذات خصائص كما يقول بربور جوليان في كتاب (اكتشاف الديناميكا ،1989) يمكن اعتبارها" انتصار ما قبل الماخية pre-Machian لمبدأ ماخ".

تحول مماثل في التفكير لكن بسيط مؤثر على جاليليو جاليلي (1564-1642) فبدلاً من تحديد النجوم الثابتة مع الإطار الساكن للفضاء بالمعنى المجرد هو أكد (في المحاورات Diálogo) أنها بشكل طبيعي في السكون في الفضاء : " النجوم الثابتة (التي هي شموس كثيرة) تتفق مع شمسنا في التمتع بسكون ابدي ". و مع ذلك لم يستفسر جاليليو أيضاً عن الكيفية التي يمكن بها تعريف هذا الوضع من "السكون"، و كيف يبدو أنه ( أي جاليليو) تبنّى دون وعي وجهة النظر المطلقة للفضاء. في الواقع كان جاليليو هو أول من استخدم مصطلح "حركة مطلقة" بشكل فعلي في نظريته عن المد و الجزر.

آمن رنيه ديكارتRéné Descartes (1596-1650) ضمناً بالفضاء المطلق أيضاً، و استخدم ذلك المفهوم للتوصل إلى شيء يشبه إلى حد بعيد في نهاية المطاف قانون نيوتن الأول للحركة، لكنه بعد أن علم بمحاكمة جاليليو من قبل محاكم التفتيش، أجّل نشر نتائجه لأكثر من عقد من الزمان ومهد لها (في مبادىء الفلسفة in the Principia Philosophiae) بالتنصل عن التصريح أن كل حركة كانت نتيجة لذلك نسبية! و ربما كان أول من قرر كلاً من وجهات النظر المطلقة و النسبية في الوقت نفسه.

دلو نيوتن
كان اسحق نيوتنIsaac Newton (1643-1727) غير راضٍ عن هذا التضارب، و شكا في الجاذبية (De Gravitatione) أن كل الحركات نسبية حقا ً كما قال ديكارت، اذن "يترتب على ذلك ان الجسم الذي يتحرك لا يوجد لديه سرعة محددة و لا خط واضح في التحركات تلك ". و إلى حد ما -لإزالة أي لبس من هذا القبيل-انه انتقل إلى التعبير نفسه ذلك بشكل قاطع في هذه الأسطر من المبادئ الشهيرة : "الزمن المطلق و الرياضي و الحقيقي، في حد ذاته خاصية من طبيعته ان يتدفق برصانة دون أي علاقة بأي شيء خارجي ... الفضاء المطلق، في طبيعته الخاصة دون أي علاقة بأي شيء خارجي و يبقى متماثل دائم و ساكن ". و أضاف ان وجود الفضاء المطلق يمكن أن يبدي وجوده بتعليق دلو من الماء بحبل و تدويره.

حقيقة أن لسطح الماء تقعر في الشكل تدريجياً مفترض يظهر أنه يدور بالنسبة إلى شيء ما، فكيف لشيء آخر أن يعرف ماذا يفعل؟ هو برهان على حقيقة الفضاء، التي بعبارة أخرى، يمكن أن تكون موجودة في القصور الذاتي للمادة.

لناقد الأكثر شدة لنسبية نيوتن كان عالم الرياضيات والفيلسوف جوتفريد لايبنتزGottfried Leibniz (1646-1716) الذي رد قائلاً - في حوار مع تلميذ نيوتن صمويل كلارك – " الفضاء ليس شيئا آخر و لكن أمر وجود الأشياء و ملاحظتها كتواجد معاً، لذلك فقصة الكون المادي المحدود و المتحرك قدما في فضاء خالي لانهائي، لا يمكن قبولها... مثل هذا التصرف سيكون من دون أي تصميم فيه: أنه سيعمل من دون أن يفعل أي شيء... هناك لا يمكن أن يحدث أي تغيير الذي يمكن مراقبته من قبل شخص على الإطلاق ".

والبيان الأكثر وضوحاً لوجهة النظر النسبية جاء من والد "الفلسفية المثالية"، المطران جورج بيركليGeorge Berkeley (1685-1753) ، الذي كتب في الرؤية ( De Motu) في المكان الفارغ الذي لن يكون من الممكن حتى أن نتصوره - على سبيل المثال – لكرتين تدوران حول مركز مشترك (لمراقب يتحرك سوية مع الكرات لن يرى شيئا متغيراَ على الإطلاق) ، و لكن "لنفترض أن سماء النجوم الثابتة خلقت فجأة فمن مفهوم اقتراب الكرات إلى اجزاء مختلفة من السماء الحركة سوف تكون متصوره ".

|مبدأ ماخ

إذا كان بيان نيوتن الحاسم لوجهة النظر المطلقة للفضاء، فإن نظيره سيئ السمعة و الأكثر نسبية هو لارنست ماخErnst Mach (1838-1916) ، الذي خاطب نفسه مباشرة عن حجة دلو نيوتن، و كتب في علم الميكانيكا (1883): "لا أحد مؤهل للقول كيف أن التجربة أظهرت ما إذا كانت جوانب الإناء زادت في السماكة و الكتلة حتى أنها في النهاية ذات طبقات عدة في السمك". دلو كبير بما فيه الكفاية، و بعبارة أخرى، قد يحمل الاطار بالقصور الذاتي المحلي للماء من حوله، تاركاً سطح الماء مستو.

مبدأ ماخ - هذه الفكرة كما قد اصبحت ُتعرف - قد ثبت أنه من الصعب أن يصاغ بإسلوب فيزيائي دقيق، و أكثر صعوبة لاختبار تجريبي. فقد ناقش كبار الخبراء في أحد المؤتمرات حول هذا الموضوع في توبنغن في عام 1993 ، ما لا يقل عن 21 إصدار مختلف من "مبدأ ماخ" في الكتابات العلمية ، و بعضها متناقضة، و ربما لهذا السبب فإن أفكار ماخ النسبية ثبتت أنها أقل نفعاً و إلهاماً في الفيزياء، و مع ذلك فإنها أدت إلى بعض التحقيقات التجريبية الرائعة حتى قبل وقت آينشتاين. فقد بحث عمانوئيل فريدليندرImmanuel Friedlaender (1871-1948) في 1894 عن أدلة على أن حجر رحى ثقيلة دوارة يمكن أن تمارس أي قوة من نوع ماخ على ميزان التواء حساس، و لكنه اعترف أنه لا يمكن العثور على أي نتائج محددة بأي طريقة. و بحث الفيزيائي المعروف أوجست فوبلAugust Föppl (1854-1924) عن اقتران بين دوران الأرض و زوج من الحذافات الثقيلة التي يمكن أن يكون لمحور دورانها محاذاة إما على طول خطوط العرض أو الطول لكنه ما وجد شيء أيضاً غير أنه لاحظ أن دقته التجريبية كانت محدودة إلى نحو اثنين في المئة. نشر فوبل هذا العمل في عام 1904، أي قبل عام واحد لنظرية اينشتاين في النسبية الخاصة.

تأثر آينشتاين أيضاً بقوة بتفكير ماخ، و قال انه ادرج أصلاً مبدأ ماخ كواحدة من الركائز الثلاث في نظريته النسبية العامة عام 1918. و في وقت لاحق فإنه بات واضحاً أن النسبية العامة هي في أحسن الأحوال جزئية ماخية "Machian"إلى حد ما، و لكن اهتمام آينشتاين تلاشى. فقد كتب في عام 1954 إلى زميل له: "في حقيقة الأمر، ينبغي للمرء أن لا يعود للحديث عن مبدأ ماخ على الاطلاق" . (من جهته حماس ماخ الأول لعمل آينشتاين تضاءل أيضاً، و كتب في عام 1913 : "لا بد لي... بالتأكيد نفي أن يكون لي سبق في النسبيين".)

i نُشرت هذه المقالة الاصلية في أكتوبر 2007 م على موقع جامعة ستانفورد الأمريكية:

iii مفارقة زينون: هي الفكرة التي افترضها زينون كسباق بين اخيل – بطل العدو الأسطوري-و سلحفاة، و تقوم على قطع مسافة محددة في زمن محدد و حيث أن المسافة يمكن تقسيمها إلى أجزاء غير منتهية فكيف سيتم قطعها في زمن منتهي؟
iv الأبيقوريين: هم الذين يعتقدون بالأبيقورية و هي الاعتقاد بأن اللذة الحقيقية مرهونة بضبط النفس و الاعتدال و السلوك القويم و مؤسس هذه الفكرة هو الفيلسوف اليوناني أبيقور Epicurus (342 ق.م. - 270 ق.م.).


المقالة نشرت في منظمة المجتمع العربي العلمي

http://www.arsco.org/detailed/2d5b23...5-cfbb520d6395