بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة السلام على من لا نبي بعده، رسوله الذي هدى به الأنام، وكشف به شبهات الأوهام، وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابه المجاهدين الأبرار، الذين أغاظ الله بهم الكفار، وبسط بهم رحمته في جميع الأقطار
أما بعد:
قرأت المقال التالي منذ أيام في أحد أعداد "ملحق العربي العلمي" بتاريخ سبتمبر 2004 ... فبحثت عنه حتى وجدته
ومع المقال ...
فوضى لا تعرف الفوضى
ثمة علم جديد, يبحث عن تفسير للظواهر التي تشذ عن القاعدة, والتي يصعب التنبؤ العلمي الدقيق بمتغيراتها, ومثالها: الظواهر المناخية, والكونية, بل حتى مجرد مسار البخار المتصاعد من فنجان القهوة!
بمناسبة عيد ميلاده, أعلن الملك أوسكار الثاني ملك السويد عام 1889 عن أربع جوائز لحل أربع معضلات رياضية, وكان من نصيب الرياضي الشاب (آنذاك) هنري بوانكريه - الذي أصبح من أشهر علماء الرياضيات ومنافس أينشتاين في وضع نظرية النسبية - حل معادلة الحركة لثلاثة أجسام متجاذبة. ولم يتقدم الرياضي بحل للمسألة, بل بتحليل يبين لماذا عجز عن حلها, وكان التحليل لا يقل في قيمته العلمية عن أي بحث علمي محترم, فمنحه الملك الجائزة. فما الذي اكتشفه بوانكريه في بحثه يبرر له الحصول على جائزة بهذا القدر عن عمل لم ينجزه?
هنري بوانكاريه
للحاسوب, كما نعلم جميعا, آثار علمية مهمة, ولكن قد لا يعلم الكثيرون أن له الفضل في إحداث ثورة في مجال البحث العلمي, حيث مكن الباحثين من اقتحام ما يسمى (الجانب المظلم من العلم), ويقصد به الحالات التي تخرج فيه الظواهر الطبيعية من حالة الانضباط إلى حالة عدم الانضباط. فإذا ألقيت قطعة من فلين مثلا في مجرى مائي, وكان المجرى سلسا, أمكنك أن تقدر مكان قطعة الفلين بعد دقيقة, أو ساعة, أو ما شئت من زمن. أما إذا قابل الماء صخرة عاتية, وتحول سريان الماء إلى دوامات غير منضبطة الحركة, فإنه يمكنك تقدير مكان قطعة الفلين بعد جزء من الدقيقة, على الرغم من أنها لاتزال تخضع لقوانين الحركة التي مكنتك من أن تقدر حالتها في حالة الجريان السلس.
وحين وضع فون نيومان نموذجه للحاسوب كما نعرفه اليوم, وهو النموذج المسمى (نموذج فون نيومان), سأله صديقه عالم الطبيعة الجوية إدوارد لورنتز إن كان هذا الجهاز الجديد بإمكانه المساعدة في التنبؤ بالطقس لأي مدى زمني, كما يتنبأ الفلكيون بحركات الأجرام الكونية لعدة سنوات تالية, فأجابه فون نيومان, بكل ما يحمله من ثقة في هذا الاختراع الوليد, بالإيجاب.
ونشط الصديق لتنفيذ هذا الحلم, فوضع نموذجا رياضيا مبسطا للعوامل المؤثرة في الطقس, وطفق يغير المعاملات ويحصي النتائج, ولكنه اكتشف شيئا شاذا لم يألفه في التجارب العلمية. لقد اكتشف أنه حين يدخل المعاملات نفسها, لا يحصل على النتائج نفسها, بل تتغير تغيرا كبيرا من تجربة إلى أخرى.
وحتى يتمكن لورنتز من المقارنة, اتجه إلى توقيع النتائج على رسم بياني مشترك لتجربتين, فاكتشف على الفور ما يسمى اليوم (الحساسية المفرطة للظروف الأولية), أو ما يطلق عليها تندرا (ظاهرة الفراشة Butterfly effect), والتي تقول إن رفرفة فراشة في بكين يمكن أن تسبب عاصفة هوجاء على نيويورك بعد عدة أسابيع. إن النتائج تتطابق في الدورات الأولى من التجربة, ولكن هناك فرقا غاية في الضآلة يبدأ في الظهور, ثم يأخذ في التفاقم حتى تنتفي أي علاقة بين نتائج التجربتين.
كان لورنتز يدخل بياناته بدقة يمكن أن تصل إلى الرقم العشري السابع, وهو آخر مدى لدقة الحاسوب, ولكن النتائج حساسة للخطأ الأدنى من ذلك قيمة. هذا في المختبر, فما بال الأمر حين يكون التطبيق العملي, حيث لا تزيد حساسية أكثر الأجهزة دقة عن الخطأ في الكسر العشري الثالث?
لقد انهار الأمل في التنبؤ طويل المدى للطقس, كما انهار قبله أمل بوانكريه من قبل في حل المعضلة الرياضية, وللسبب نفسه, فقد كان في بحثه أول من اكتشف الحساسية المفرطة للظروف الأولية نتيجة تشابك العلاقات الرياضية, لدرجة تجعل الحل مستحيلا عمليا. ولكن بينما تمخض عن فشل بوانكريه مجرد منحه الجائزة, ثم دخول كشفه غياهب النسيان, فقد بُني على أنقاض فشل لورنتز اكتشاف ما يعتبر الثورة العلمية الثالثة في القرن العشرين, وهي نظرية تدعى (الديناميكية اللاخطية Nonlinear Dynamics). لقد استلزم الأمر الانتظار لعدة عقود إلى حين اكتشاف الحاسوب بقدراته الفائقة في التحليل العلمي حتى يكون للكشف عن ظاهرة الفراشة أثر علمي ملموس.
يُتبع ...
مواقع النشر (المفضلة)