بسم الله الرحمن الرحيم

أعضاء المنتدي الكرام

هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد سبتمبر - اكتوبر 2002


أطقم إنشاء إنسالية نانوية(*)
إن الحالمين بالتقانة النانوية يكتشفون مدى صعوبة تطوير إنسالات دقيقة
تستطيع معالجة الأمراض أو القيام بتصنيع غير ملوث للبيئة.
<S. آشلي>

يمكن للتصنيع الجزيئي ـ تلك الفكرة الجريئة حول تجميع كل شيء تقريبا، من الحواسيب إلى الكافيار، من جزيئات منفردة ـ أن يغير وجه العالم إذا استطاع أحد تحقيقه. تخيل عمال التجميع النانويين: فِرَق عمل مكونة من أذرع إنسالية «للالتقاط والتثبيت» منهمكة في عمليات التركيب، وحجم كل منها عشرات النانومترات. وبقيام حاسوب قوي بالتحكم فيها من الخارج، يمكن لهذه الأدوات (النبائط) البسيطة أن ترتب مجموعات من الجزيئات لصنع نسخ من ذاتها ـ وتقوم هذه الآلات بدورها ببناء آلات نانوية أخرى تبني بدورها آلات أخرى، وهكذا دواليك بتزايد أسيّ. حينذاك، يمكن توجيه أطقم البناء الإنسالية النانوية تلك للقيام بأعمال مذهلة، من قبيل علاج الأمراض انطلاقا من داخل الجسم وتصنيع المواد ذات البنية المعقدة من خامات أساسية بتكاليف منخفضة للغاية.

لسنوات عديدة، عزز رجلان ممن يؤمنون بالمستقبلية(1)، هما <E .K. دركسلر> وزميله C> .R. مركل> [المتخصص المرموق في مجال التعمية]، هذه الرؤية باستخدام المحاكاة الحاسوبية لمعدات متنوعة على المستوى النانوي: المسننات (التروس) والمضخات والنظم الفرعية للآلات الجزيئية الأخرى. ففي هذه الصور (الناتجة من المحاكاة) تدل كرات ملونة على موقع كل ذرة من الذرات المكوِّنة. لكن العديد من الدراسات النقدية التحليلية لتلك المحاكاة التفصيلية توحي بأن تلك الأدوات لا تستطيع ببساطة أن تعمل كما هو مأمول منها. بيد أن أشد الانتقادات لها لذعا هي تلك التي ركزت على كونها مجرد تمثيل رقمي بحت، لا أشياء من العالم الحقيقي تتآثر مع قوى ربط كيميائي معقدة في البيئة النانوية، حيث لا يمكن دائما تطبيق مبادئ الفيزياء الماكروية(2) macroscale physics، وحيث يسود الميكانيك الكمومي على الأغلب.

بعدئذ، في عام 1999، قرر <مركل> ترك وظيفته ـ التي شغلها زمنا طويلا ـ بمركز أبحاث زيروكس في پالو ألتو ليحاول إعطاء دعم قوي لمفاهيمه المعتمدة على الحاسوب. وانضم إلى عملاق البرمجيات <R .J. ڤون إِر الثاني> المولع بأفكار دركسلر، والذي قرر إنفاق جزء من الثروة التي جمعها من بيع شركته Altsys، ليؤسسا أول شركة «للتقانة النانوية الجزيئية».

إن الشركة زيڤكس Zyvex التي أسسها <ڤون إِر> في ريتشاردسون بولاية تكساس تحدوها آمال عريضة. فقد قال ڤون إِر: «نحب أن نكون بمثابة الشركة Applied Materials بالنسبة لقاعدة التصنيع في العالم»، قاصدا بذلك أكبر منتجي أجهزة أشباه الموصلات في العالم. إلا أن شركته للتقانة النانوية الجزيئية مازالت في المراحل المبكرة من عملها. وقد بيَّنت التجربة صعوبة الانتقال من الآلات الجزيئية البرمجية المنمقة إلى مجمِّع assembler نانوي في العالم الحقيقي. إن أحد أوائل الأشياء التي كان على الشركة فعلها هو نبذ فكرة بناء الأشياء ذرة تلو أخرى. إن التركيز الطويل الأجل، حاليا، هو على تصنيع نظم آلات نانوية من جزيئات كبيرة أو تكتلات من الجزيئات. وفي سبيل ذلك يقوم علماء الشركة باختبار المقاربة الصعودية bottom-up لصنع مجمِّعات بواسطة التقانة النانوية الجزيئية، حيث يتعلمون تجميع البُنى جزيئا تلو آخر مستخدمين مجاهر القوة الذرية أو ما شابهها.

أما على المدى القريب، فيقوم الباحثون في الشركة زيڤكس بتطوير نظم كهرميكانيكية ميكروية microelectromechanical systems MEMS تقاس بُناها بعشرات الميكرونات. تُصنع التجهيزات الكهرميكانيكية الميكروية باستخدام المقاربة النزولية top-down، حيث يجري تشكيلها باستخدام تقانة الطباعة الضوئية (الليثوغرافيا) وبالحفر من ركيزة سيليكونية أو أية مادة أخرى.

التصنيع بالمنهجية النزولية هو أحد السبل التي تتبغها الشركة زيڤكس نحو التصنيع الجزيئي

قال <R. فاينمان> [الأب الروحي لهذا المجال] إنه يمكن استخدام الآلات الأكبر لإنتاج آلات أصغر. وهنا يأتي دور تقانة النظم الكهرميكانيكية الميكروية. فوفقا لقول مركل، يمكن استخدام طرائق تصنيع النظم الكهرميكانيكية الميكروية لصنع أذرع إنسالات التجميع. وتستطيع الأيدي الكهرميكانيكية الميكروية هذه تصنيع أيد دون ميكرونية submicron تستطيع بدورها صنع أيد أدق، وهكذا دواليك خطوة خطوة، حتى يتم التوصل إلى أقصى تصغير ميكانيكي ممكن: المجمع النانوي، أي آلة تصنيع ذات حجم نانومتري. ومن أجل تحقيق الشركة زيڤكس هدفَها، عليها تصغير الإنسالات الكهرميكانيكية الميكروية التي تصنعها بمقدار ألف مرة أو نحو ذلك. وحالما يتحقق التصغير المنشود، سوف تستخدم الإنسالات النانوية، كما هو مأمول، «للتصنيع ذي الدقة الذرية» من أجل صنع أي شيء في واقع الأمر. وحينئذ، يمكن للبنائين العموميين صنع ساعة رولكس، ثم يتبعونها بذاكرة حاسوب، ثم بآلات نانوية تستطيع معالجة الأمراض.

يقول <مركل>: هناك فكرتان أساسيتان تحددان معالم طريق الشركة زيڤكس إلى الإنسالات النانوية. في التجميع الموضعي، تلتقط المنابل الميكانيكية الأشياء وتضعها بدقة في البنية المجمَّعة assemblies. إن التحكم الموضعي الدقيق عند مقاييس من رتبة عشرات النانومترات يعني تحريك الجزيئات الكبيرة أو تكتلاتها إلى المواقع التي تريدها وجعلها تلتصق بالبنية المجمعة كما هو مرغوب.

إن الآلة التي تستطيع بناء مادة أو أداة معقدة باستخدام المقاربة الصعودية، وباستخدام مقادير وافرة من الجزيئات، أو «مجموعة تشييد»(3) من الجزيئات، سوف تحتاج إلى تقانة حاسمة أخرى: إذ يجب على الآلة أن تكون قادرة على صنع نسخة من نفسها. ويشرح <مركل> الأمر قائلا: «إذا أردت أن تحصل على إنتاج اقتصادي للتجهيزات الجزيئية بأعداد كبيرة، فإن الأمر يحتاج إلى شكل من أشكال الاستنساخ الذاتي». وما لم يكن لديك حشود من البنائين النانويين لهذا العمل، فإن بناء الأشياء الكبيرة جزيئا جزيئا سيستغرق وقتا طويلا جدا. بيد أن الباحثين لدى الشركة زيڤكس يرون أن الآلة الكاملة الاستنساخ الذاتي ليست ضرورية لتصنيع مجمِّع. ومع ذلك، تبقى المهمة ضخمة، إذ إن أي آلة خارج المجال البيولوجي تستطيع أن تصنع عددا من النسخ من ذاتها يحتمل أن تقود إلى جائزة نوبل، وربما إلى العديد منها.

فكيف تتوصل الشركة زيڤكس إلى مجمِّع؟ اشتركت زيڤكس مؤخرا مع الشركة Standard MEMS المتمركزة في بيرلنگتون بماساتشوستس ـ وهي شركة تصنع نظما ميكروية ـ في برنامج تعاوني مدته عامان لتطوير أذرع منابلة وقوابض ميكرونية الأبعاد، تم صنعها بأسلوب الطباعة الضوئية، تستطيع تجميع أدوات تصنيع أصغر منها، وذلك من مجموعة أجزاء فعالة ذات توضُّع دقيق جرى إنتاجها على ركائز سيليكونية. يقول مركل: «إذا كانت الدقة الموضعية جيدة بشكل كاف، فإن على الذراع ببساطة أن تصل إلى الجزء وتلتقطه. إنك لست بحاجة إلى منظومة تحسس معقدة.»

وبحسب قول ڤون إر، قام الباحثون في الشركة زيڤكس بتطوير طريقة تستطيع بها المنابل الكهروميكانيكية الميكروية نزع الأجزاء من ركيزتها، وبذلك تصبح جاهزة للتجميع الميكروي باستعمال مرابط قابضة ذاتية التمركز ـ وهي إمكانية مفيدة، وإن لم تكن جديدة تماما. ويمكن تصنيع أجزاء المنابل بواسطة الطباعة الحجرية الضوئية ثم يجري حفرها وانتزاعها من سطح الركيزة بحيث يمكن التقاطها من قبل المنابل الكهروميكانيكية الميكروية وتثبيتها بمواقعها في الأداة. ويأمل ڤون إر بأن المعالجات الكهروميكانيكية الميكروية تلك سوف تُثبت أنها تقانة مرحلية يمكنها أن تعطي منتجا مربحا، من قبيل أداة محاذاة كبل الألياف الضوئية، في الوقت الذي تسعى فيه الشركة إلى أهدافها.

ما يؤسف له هو أن من الصعب إيجاد أي شخص في مجال النظم الكهرميكانيكية الميكروية يمكن أن يهتم بهذا النوع من التقانة، أو أي شخص يستطيع أن يفكر بعمق في نوع المنتج الذي يمكن أن تُستخدم التقانة لصنعه بالفعل، هذا ما يقوله <J .K. گابرييل>، وهو حاليا أستاذ الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والإنسالات في جامعة كارنيگي ميلون، والمدير السابق لبرنامج النظم الكهرميكانيكية الميكروية في وكالة مشروعات بحوث الدفاع المتقدمة DARPA.


وماذا عن المجمِّعات ذات الأبعاد النانوية؟ يرى مركل أن «هناك جدلا خلافيا كبيرا حول الزمن اللازم للتوصل إلى السيطرة التامة عليها على المستوى الجزيئي»، ويضيف إن ذلك «قد يستغرق عقدا أو عقدين.»

وهكذا، تحددت مهمة الشركة زيڤكس. وقد باشرت مهمة تكافئ ـ نانويا ـ القيام برحلة إلى القمر، وذلك بمفردها تقريبا، واعتمادا على فريق عمل قوامه 37 فردا فقط. وبصفة عامة، أبقى مجتمع البحث العلمي نفسه بعيدا عن هذا المشروع، وسَخِر بعض العلماء العاملين في مجال التقانة النانوية من مشروعات الشركة زيڤكس، إلا أنهم طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم تجنبا لاحتجاجات أنصار التقانة النانوية الهواة. ويقول أحد الباحثين: «إننا لم نرَ أي برهان تجريبي حول إمكانية تحقيق أي جزء من مشروعهم فعليا. إننا نعتقد أنه مجرد هراء». إلا أن مركل يجيب قائلا: «إن ما نقترحه لا يتناقض مع قوانين الفيزياء.»

في هذه الأثناء، تستطيع الشركة زيڤكس بمساندة ثروة ڤون إِر لجهودها البحثية أن تتابع العمل لعدة سنوات دون أن يكون عليها تسويق أي منتج، إلا أن المموِّل يرى أن من الأفضل تحقيق بعض العوائد المالية. إنه يقر قائلا: «إن هذا الأمر برمته أصعب كثيرا مما ظهر في البداية». لقد أنفق ڤون إِر نحو 20 مليون دولار على المشروع حتى الآن بحسب ما هو معلن. ونظرا لهبوط سوق الأسهم في عام 2000، وإلى واقع المهمة الذي يلوح في الأفق، فهو يقول إنه يخطط للبحث عن مستثمرين آخرين بمجرد تحسن الأحوال المالية. ويضيف: «إذا أردنا النمو فإننا سوف نحتاج إلى مزيد من المال».

لكن، ومهما يكن حجم العائد الربحي المنتظر، فإن الصعوبات التقنية المحْبِطة، والحاجة إلى مدة تراوح بين 10 و20 عاما لتحقيق نجاح محتمل، تجعل المرء يتساءل متعجبا عمن يمكن أن يرغب في استثمار أموال طائلة في هذا المجال. وقد يكون من الممكن تمويل مسيرة الشركة زيڤكس الشاقة نحو التقانة النانوية الجزيئية من إسهامات ضئيلة يقدمها المؤمنون الحقيقيون بهذه التقانة.

المؤلف
Steven Ashley
كاتب ومحرر في مجلة ساينتفيك أمريكان.

Scientific American, September 2001

(*) NANOBOT CONSTRUCTION CREWS

(1) Futurism: مذهب أدبي أو فني يعنى بالمستقبل أكثر مما يعنى بالماضي أو الحاضر.
(2) فيزياء بالمقياس الماكروي (الكِبَري).
(3) Erector Set: لعبة أطفال تضم أعدادا كبيرة من المكونات تسمح بإقامة مبانٍ وبصنع مركبات.