بسم الله الرحمن الرحيم

أعضاء المنتدي الكرام

هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد يوليو - اغسطس 2002

تحدي الثقالة(**)
شركة سويسرية صغيرة تبتكر لباسا ثقاليا(1) للطيارين الحربيين
<M. بيهار>

ظل الكولونيل<H. مورو>، قائد الجناح العسكري رقم 149 من الحرس الوطني الجوي في ولاية تكساس، يطير لأكثر من عقدين من الزمن. وفي هذه المدة عاصر الطائرات وهي ترتقي بأدائها أكثر فأكثر: فالطائرات الحالية أصبحت أكثر سرعة ورشاقة إلى حد جعل مناورات المراوغة الاعتيادية تضيف تسع مرات من وزن الثقالة، أي تسع مرات من تسارع الثقالة (g)، إلى كتلة جسم الطيار.

ومثل هذا القدر من القُوى يسبب التعب وفقدان الوعي بل والموت أحيانا، نظرا إلى أن الثقالة تسحب الدم والأكسجين من الدماغ والرئتين والقلب. ويفترض في اللباس الثقالي أن يحمي الطيار من حدوث ذلك عن طريق امتلائه بالهواء المضغوط الذي يحصر أطراف الطيار السفلية فتندفع سوائل الجسم إلى الأعلى. وبينما بقيت تقانة الألبسة الثقالية على حالها لأكثر من نصف قرن تقريبا، حصلت ابتكارات كثيرة في تصميم الطائرات، جعلت العديد من الطيارين تحت رحمة طائراتهم. وكل هذا يمكن أن يتغير، لو قررت القوات الجوية أن يرتدي طياروها لباسا ثقاليا ثوريا، مملوءا بسائل، يدعى لباس «الرعاشة» Libelle.

وهذا اللباس هو من بنات أفكار<A. راينهارد> [طيار حربي سابق في القوات الجوية السويسرية الذي تحول إلى مخترع ومؤسس لشركة «نظم دعم الحياة»Life Support Systems]، وهي شركة أنشأها عام 1996 لكي تستنبط لباس «الرعاشة». وبدلا من أن يستخدم الهواء، فإن اللباس المقترح يتضمن حاجزا من سائل يحيط بالطيار ليحميه، تماما مثلما هي حال الجنين وهو في حماية الرحم. وقام مورو حديثا باختبار اللباس في قاعدة «إدواردز» الجوية بولاية كاليفورنيا، فانتابته فرحة غامرة للنتائج التي توصل إليها، حتى إنه أبلغ فريق «الرعاشة» أنه مستعد أن يحرر لهم شيكا شخصيا على الفور إذا هم باعوه أحد هذه الألبسة.

يقول راينهارد إن فكرة «الرعاشة» [لايبلِّلي] ـ الكلمة الألمانية التي تعني dragonfly 2 ـ راودته للمرة الأولى عام 1987، حينما كان في القوات الجوية السويسرية. وقد استلهم «الرعاشة» لأنها الحيوان الوحيد الذي يتحمل قوة تنتج من تسارع يساوي (g30)، لأن جهازها القلبي مغمور في سائل. ويعود بذاكرته فيقول «كنت منهكا للغاية، إثر طلعة تدريبية على معركة قتال جوية، فتخيلت أن أملأ قمرة الطيار كلها بسائل تكون له نفس لزوجة الدم وكثافته. »

وعندما كان راينهارد يجهد في تصنيع «الرعاشة»، كان يحيي مفهوما سبق أن طرح في الأربعينات من القرن العشرين، يوم بدأت الألبسة المضادة للثقالة تظهر للمرة الأولى. وأول لباس منها كان قد استنبطه <W. فرانكس> [من جامعة تورنتو في كندا]. وكان فرانكس قد لاحظ أن أنابيب الاختبار الزجاجية لا تنكسر عند وضعها في طاردة (نابذة ـ جهاز طرد مركزي) centrifuge بينما هي معلقة في الماء. فطبَّق هذه الملاحظة على نموذج أولي غير متقن من اللباس، حيث أدخل طبقة من الماء بين غلافين من المطاط. واخترع بعد ذلك لباسا عمليا مجهزا بمثانات هوائية، يطابق تصميمه الأساسي إلى حد ما ذلك الذي يستعمله الطيارون حاليا.

الطيارون يشيدون بلباس «الرعاشة» الثقالي.

وبينما كان رادينهارد يسعى مع مهندسيه إلى تحسين الألبسة الحالية، كان أول التحديات التي اعترضتهم هو إيجاد سائل قادر على امتصاص قوى الثقالة (g) المضاعفة، على أن يكون غير سام وغير قابل للاشتعال. وبعد أن صنع الفريق عدة نماذج أولية للألبسة، وكان واحد منها مملوءا بالسيليكون (المادة التي تستعمل في غرائس الثدي)، استقر الرأي على الماء المقطر الممزوج «بمادة خاصة» سرّية، تمنع «الرعاشة» من التجمد عندما يقذف الطيار نفسه من ارتفاعات عالية. وهذا السائل ـ الموضوع في قنوات عرضها بوصتان تمتد على طول الذراعين والرجلين والجذع ـ غير ضار إلى حد يمكن شربه، وبذلك يصلح ليكون «مؤونة طوارئ» emergency ration تكفي طيارا أسقطت طائرته، وفق ما يقول راينهارد.

وكانت المهمة الأخرى للفريق هي إيجاد قماش يستجيب نسيجه ديناميكيا لتغيرات مفاجئة في الثقالة. ويقول راينهارد «كان علينا أن نغطي كامل الجسم بمادة لا تتمزق تحت الضغط، وتكون في الوقت نفسه مرنة حتى يتمكن الطيارون من الحركة.» وبعد أن فشل مهندسو لباس «الرعاشة» في العثور على ضالتهم لدى معامل النسيج، قرروا أن يصنعوا مادتهم بأنفسهم، فاخترعوا نسيجا هجينا يجمع بين النسيج «نومكس» المقاوم للهب من صنع الشركة دوپون، وبين ألياف «أراميد كِڤلر» المتينة، «وهو نسيج جاسئ في محوره الأفقي ولكنه مرن في الاتجاه الرأسي. »

لما كانت قوى الثقالة تزداد شدتها عند الانعطاف بالسرعات فوق الصوتية أو في الهبوط الحلزوني، فإن أنابيب السائل في «الرعاشة» تنضغط ساحبة معها النسيج الذي يحيط بها. تصور مِلْزمة(3) سكونية مائية hydrostatic vise ممتلئة يبدأ ماؤها بحشر الطيار تدريجيا عندما يُشغِّل جهاز تسريع الاحتراق afterburner. إن اللباس الثقالي التقليدي يستغرق بضع ثوان حتى يستجيب؛ لأن الهواء يجب أن يضخ من النظام الهوائي المحمول على متن الطائرة إلى مختلف المثانات الهوائية الموجودة في اللباس. أما «مع لباس «الرعاشة» فإنك لا تستشعر بداية عمله»، كما يقول المقدم<Ch. ليديت>، وهو كبير أطباء الحرس الوطني الجوي في ولاية أيوا، وكان واحدا ممن اختبروا اللباس في قاعدة «إدواردز». «لقد بدا وكأنه يستجيب لقوانين الفيزياء ويؤدي عمله حتى قبل أن تشعر بذلك. »

إن لباس «الرعاشة» هو الأول من نوعه الذي بلغ مرحلة الإنتاج، وأثبت أنه منافس جدير أمام أكثر الألبسة المملوءة بالهواء تقدما، مثل «نظام الحافة القتالية» Combat Edge system الذي تستخدمه القوات الجوية الأمريكية. وأثناء عدة رحلات جوية اختبارية في قاعدة «إدواردز» كان طيار يلبس «الرعاشة» وطيار آخر جالس في القمرة الخلفية يلبس الحافة القتالية؛ ويتذكر مورو قائلا «حلقنا على ارتفاع 18000 قدم، وعندما ضغطنا على جهاز تسريع الاحتراق وانطلقنا في التفاف حلزوني يُنتج تسارعا قدره (9g)، صاح الجالس في المقعد الخلفي، واعمّاه.» ويؤكد ليديت «أن التنفس كان أسهل، وكذلك الاتصال، في لباس «الرعاشة». وعندما عدت لم أكن أشعر، كما في اللباس الثقالي العادي، كأنني خرقة بالية مبللة معصورة، لا أقوى حتى على الخروج من قمرة القيادة. »

وبعد سنتين من انطلاق الشركة «نظم دعم الحياة» في سويسرا، شكَّل راينهارد تحالفا مع الشركة «أوتوفلوگ» [وهي مُنْتِج ألماني لتجهيزات الطيران الخاصة بالسلامة والإنقاذ] وذلك للمساعدة على استكمال التطوير النهائي للباس «الرعاشة» وتسويقه. وإلى جانب الاختبارات التي تجرى في الولايات المتحدة، طار عدد من طياري الاختبار في القوات الجوية الألمانية والهولندية وهم يرتدون اللباس، فلاقتاختباراتهم النجاح. وتستهدف الشركة حاليا إقناع بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسپانيا باستخدام ألبسة «الرعاشة» في المقاتلة الأوروبية يوروفايتر Eurofighter، وهي طائرة الجيل القادم التي تقوم البلدان الأربعة ببنائها، لكي تحل في آخر الأمر محل الميگ 29 والفانتوم والتورنيدو.

»وعندما عدت لم أكن أشعر، كما في اللباس الثقال
ي العادي، كأنني خرقة بالية مبللة معصورة، لا أقوى
حتى على الخروج من قمرة القيادة. «


وفي الشهر 10/2001 اختارت وزارة الدفاع في الولايات المتحدة ألبسة «الرعاشة» لتكون ضمن برنامجها «الاختبار الأجنبي المقارن» FCT. ويقول راينهارد «إن إجراءات البنتاگون بطيئة جدا.» ولكن الصبر في هذه الحالة ينبغي أن يؤتي ثماره: فالتقييم، الذي يستغرق عاما، يبدأ في ربيع عام 2002. وإذا افترضنا أن اللباس اجتاز التقييم بنجاح «فربما يوصَى بشرائه للقوات الجوية بكاملها.» كما يقول الرائد <J. رايان> [مدير البرنامج في مكتب الاختبار الأجنبي المقارن التابع للقوات الجوية]. ولكن لا توجد أي ضمانات، غير أن شراء القوات الجوية لألبسة «الرعاشة» سيعود على راينهارد وأوتوفلوگ والمستثمرين في اللباس من القطاع الخاص بالمال الوفير.

وعلى الرغم من أن اختبارات الجولة الأولى في قاعدة «إدواردز» وفي أوروبا كانت واعدة، فإن <U.بالدين> [كبير العلماء في وحدة «مختبرات وايل» في هيوستون بولاية تكساس، رئيس الأكاديمية الدولية لطب الطيران والفضاء] يشعر بأن ألبسة «الرعاشة» تفتقر إلى إقامة البرهان الطبي على تفوقها الكامل. وقال: «لقد عملت سنوات عديدة في مجال الألبسة الثقالية، وعلى حد علمي، لم تكن قد اختبرت صلاحيتها تماما كما ينبغي.» ولكن راينهارد لا يوافق على هذا الكلام قائلا: «بعد بضع مئات من الطلعات النابذية centrifuge rides، ومئات من رحلات الطيران الاختبارية مع أكثر من 80 طيارا، نعتقد أننا صرنا جاهزين لطرح منتجنا في الأسواق. »

وعلى برنامج الاختبار الأجنبي المقارن الصارم أن يبرز أي شكوك تحيط بلباس «الرعاشة»، عندما يقوم الطيارون والأطباء والمهندسون بفحص اللباس بدقة للتأكد من أنه أفضل تقانة متاحة. ويقول العقيد <P.ديمتري> [رئيس قسم تكامل النظم البشرية التابع لقيادة القتال الجوي في الولايات المتحدة]: «سنقوم بطلعة إثر طلعة لكي نحدد أين يكون اللباس متميزا، وأين يكون أفضل من غيره، وأين لا يرقى إلى مستوى غيره. »

وفي غضون ذلك، يقوم راينهارد مع فرق من «نظم دعم الحياة» والشركة «أوتوفلوگ» بتحسين تصميم اللباس حتى يلبي جميع المواصفات الصارمة التي يتطلبها الزبائن المحتملون (يرغب طيارو الولايات المتحدة في إضافة مزيد من الجيوب)، وهم يستمرون في الوقت نفسه في طرح منتجهم على ممثلي المقاتلة الأوروبية (يوروفايتر). ويتعين على راينهارد وعلى شركته أن ينتظروا حتى عام 2003 على الأقل، قبل أن يحققوا الصفقة الذهبية المنشودة مع البنتاگون. غير أنه إذا كانت الشهادات الرفيعة المقام التي يدلي بها طيارو الاختبار أمرا يُعتد به، فمن الصعب ألا نتوقع أن يفوز اللباس.

المؤلف
Michael Behar
صحفي يكتب في مجالات التقانة والعلوم، يعيش في واشنطن العاصمة، وهو رئيس تحرير سابق للمجلة Wired .

(*) INNOVATIONS
(**) Defying Gravity
(1) gravity : ثقالة، gravitation : تثاقل
(2) أي من الحشرات التي تؤلف ست فصائل من رتبة لامتساويات الأجنحة، وهي تمتلك أربعة أجنحة غشائية كبيرة وعيونا مركبة تضمن لها رؤية حادة (التحرير)
(3) المِلْزَمَة: عدة لها فكان لمسك الشغلة. (التحرير)
(4) العذار:جانب اللحية.