بسم الله الرحمن الرحيم
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد أكتوبر 2001
أصداء من الانفجار الأعظم(*)
قد يستطيع العلماء قريبا إلقاء نظرة خاطفة
على بدايات الكون وذلك بدراسة التموجات
الدقيقة التي تحدثها موجات تثاقلية.
<R .R. كالدويل> ـ <M. كاميونكوڤسكي>
كون أملس(1)
في كون ليس فيه تغيرات في الكثافة ولا موجات تثاقلية، تكون الخلفية الكونية للموجات الميكروية (الصِغْرية) متسقة تماما.
مازال علماء الكون يطرحون الأسئلة نفسها التي طرحها راصدو النجوم الأوائل عندما كانوا يمسحون السماوات. من أين جاء الكون؟ وهل سبقه شيء؟ وما هو هذا الشيء؟ كيف وصل الكون إلى حالته الراهنة، وماذا سيكون مستقبله؟ ومع أن المنظِّرين تفكروا طويلا في أصل هذا الكون، فلم يكن لديهم أية طريقة لسبر لحظات الكون الأولى لاختبار فرضياتهم، إلا منذ عهد قريب جدا. لكنْ في السنوات الأخيرة، توصل الباحثون إلى طريقة لرصد الكون كما كان في بداية ذلك الجزء من الثانية الأولى بعد الانفجار الأعظم. وتتضمن هذه الطريقة النظر في آثار الموجات التثاقلية في الخلفية الكونية للموجات الميكروية (CMB)، أي الإشعاعات الباردة التي تخللت الكون طوال نحو 15 بليون سنة.
لقد أُطلقت الإشعاعات CMB بعد نحو 000 500 سنة من الانفجار الأعظم، عندما اتحدت لأول مرة الإلكترونات والپروتونات في الپلازما الكونية البدائية ـ وهي الحساء الحار والكثيف المكوّن من الجسيمات دون الذرية التي كانت تملأ الكون، وذلك لتكوّن ذرات الهدروجين. ولأن هذه الإشعاعات توفر لقطة سريعة للكون في ذلك الوقت، فقد أصبحت الوسيلة لفك رموز علم الكون (الكوسمولوجيا). وبعد أن اكتُشِفت الإشعاعات CMB عام 1965، وجد الباحثون أن درجة حرارتها ـ وهي مقياس لشدة إشعاعات الجسم الأسود ـ قريبة جدا من 2.7 درجة كلڤن، وذلك مهما كان الاتجاه الذي ينظرون فيه إلى السماء. وبكلمات أخرى، ظهرت هذه الإشعاعات وكأنها متناحية isotropic، وهذا يشير إلى أن الكون كان متسقا (منتظما) جدا في مراحله الأولى. ولكن في مطلع التسعينات، كشف ساتل سمي «مستكشف الخلفية الكونية» Cosmic Background Explorer COBE تغيرات ميكروية ـ جزء واحد فقط من 000 100 ـ في درجة حرارة هذه الإشعاعات. وقد وفرت هذه التغيرات دلالة على وجود تكتلات ونتوءات صغيرة في الپلازما الكونية البدائية. وتطورت هذه التشوهات في نسق توزع كتلة المادة فيما بعد، متحولة إلى بُنى كبيرة الحجوم في الكون: المجرات، وحشود المجرات التي توجد حاليا.
وفي أواخر التسعينات قامت عدة مكاشيف detectors، محمولة بالمناطيد ومقامة على قواعد أرضية، برصد الإشعاعات CMB بميز (فصل) resolution زاوي أدق من ميز المستكشف COBE، وكشفت بنى في الپلازما الكونية البدائية تمتد عبر السماء ضمن زوايا قياساتها تقل عن درجة واحدة. (وبغية المقارنة، فإن القمر يقع ضمن زاوية قياسها أقل من نصف درجة). وقد أشار حجم هذه البنى البدائية إلى أن هندسة الكون مسطحة [انظر:«تقرير خاص: ثورة في الكوسمولوجيا»، مجلة العلوم العدد 11(1999)، ص 51]. وتنسجم هذه الأرصاد مع نظرية التضخم الكوني، التي تفترض وجود حقبة زمنية جرت في اللحظات القليلة الأولى بعد الانفجار الأعظم كان فيها التمدد الكوني سريعا على نحو لافت للنظر. وفي هذا العام، تخطط الوكالة (ناسا) لإطلاق مسبار اللاتناحي الميكروي الموجة Micrwave Anisotropy Probe MAP الذي سيوسّع أرصاد CMB الدقيقة لتشمل السماء كلها(2). كذلك فإن مركبة الفضاء پلانك Planck، التابعة لهيئة الفضاء الأوروبية، والمخطط لإطلاقها عام 2007 ستعد خرائط أكثر تفصيلا. ويتوقع علماء الكون أن تكشف هذه الأرصاد كنز معلومات نفيسا عن الكون المبكر.
ويأمل الباحثون، بوجه خاص، أن يجدوا برهانا مباشرا على حقبة التضخم الكوني. والدليل الأقوى «المدفع ذو الدخان» ـ يمكن أن يكون رصد الموجات التثاقلية التضخمية. ففي عام 1918 تنبأ آينشتاين بوجود الموجات التثاقلية كنتيجة لنظريته في النسبية العامة. وهذه الموجات تشبه الموجات الكهرمغنطيسية، كالأشعة السينية والموجات الراديوية والضوء المرئي، وهي اضطرابات متنقلة للحقل الكهرمغنطيسي. ومثلما هي الحال في الموجات الضوئية أو الراديوية، يمكن للموجات التثاقلية أن تنقل معلومات وطاقة من المصادر التي تنتجها. إضافة إلى ذلك يمكن للموجات التثاقلية أن تتنقل من دون عوائق عبر المادة التي تمتص جميع أشكال الإشعاعات الكهرمغنطيسية. وكما تسمح الأشعة السينية للأطباء بالتحديق عبر المادة التي لا يستطيع الضوء اختراقها، فإن الموجات التثاقلية يجب أن تسمح للباحثين بأن يروا ظواهر فيزيائية فلكية لا يمكن رؤيتها بطريقة أخرى. ومع أن الموجات التثاقلية لم تُرصد مباشرة حتى الآن، إلا أن الأرصاد الفلكية أكدت أن أزواجا من أجسام عالية الكثافة، كالنجوم النيوترونية والثقوب السوداء، تولِّد هذه الموجات عندما تتخذ سبيلا لولبيا بعضها باتجاه البعض الآخر.
موجات تثاقلية(3)
مع أن الموجات التثاقلية لم ترصد مباشرة قط، فإن النظرية تتنبأ بأن بالإمكان كشفها، لأنها تمط وتعصر الحيز الذي تنتقل خلاله. فعندما تضرب موجة كتلة كروية (a)، فإنها أولا تمط الكتلة باتجاه، وتعصرها باتجاه يعامد الاتجاه الأول (b). ثم تنعكس هذه التأثيرات (c)، وتتأرجح هذه التشوهات تبعا لتردد (تواتر) الموجة (d وe). والتشوهات المبيّنة هنا مكبرة جدا؛ فالموجات التثاقلية تكون عادة أضعف بكثير من أن تحدث تأثيرات يمكن قياسها.
إن الپلازما، التي كانت تملأ الكون خلال مدة الـ000 500 سنة الأولى من وجوده، كانت عاتمة للإشعاع الكهرمغنطيسي، لأن أي فوتونات منطلقة كانت تتشتت فورا في حساء الجسيمات دون الذرية. لهذا لا يستطيع الفلكيون رصد الإشارات الكهرمغنطيسية التي سبقت تاريخ انطلاق الإشعاعات CMB. وبالمقابل، فإن الموجات التثاقلية كانت قادرة على اختراق الپلازما الكونية. إضافة إلى ذلك، فإن نظرية التضخم الكوني تتنبأ بأن التمدد الانفجاري للكون خلال 38-10 ثانية بعد الانفجار الأعظم كان يجب أن يولّد موجات تثاقلية. وإذا كانت النظرية صحيحة، فإن هذه الموجات كان يجب أن تترك أصداء عبر الكون المبكر، وأن تترك تموجات دقيقة جدا في الإشعاعات CMB بعد 000 500 سنة من ذلك، بحيث يمكن رصدها حاليا.
موجات من التضخم الكوني(4)
ولفهم الكيفية التي كان من الممكن فيها للتضخم الكوني أن يولّد موجات تثاقلية، دَعْنَا نفحصْ نتيجة مذهلة للميكانيك الكمومي: إن الفضاء الخالي ليس خاليا تماما، إذ إن أزواجا افتراضية من الجسيمات تتولد وتُدمَّر تلقائيا باستمرار. فمبدأ هايزنبرگ في الارتياب ينص على أن كل زوج من الجسيمات طاقته E∆ يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود مدة من الزمن ∆t قبل أن يدمر أحدهما الآخر، إذا تحقق الشرط h/2>∆E∆t، حيث h هو ثابت پلانك المخفض (1.055xx 10-34 جول ـ ثانية). ولكن يجب عليك ألا تقلق عندما يتعلق الأمر بتفاحة أو موزة افتراضية لدى خروجهما من الفضاء الخالي، لأن هذه الصيغة تنطبق على الجسيمات الأولية فقط وليس على التجمعات المعقدة من الذرات.
كون مشوه (5)
لا بد أن يكون التمدد الهائل السرعة للكون، الذي حدث مباشرة بعد الانفجار الأعظم، قد ولّد موجات تثاقلية. ويمكن لهذه الموجات أن تَمط وتَعصر الپلازما الكونية البدائية مولدة حركات في السطح الكروي الذي بث الإشعاعات CMB. وهذه الحركات تُحدث بدورها انزياحات نحو الأحمر وانزياحات نحو الأزرق في درجة حرارة الإشعاع، وتستقطب الإشعاعات CMB. ويُظهر الشكل هنا تأثيرات الموجات التثاقلية الذاهبة من قطب إلى آخر بطول موجي يساوي ربع نصف قطر الكرة.
وأحد الجسيمات الأولية التي تتأثر بهذه العملية هو الگرڤيتون، وهو الجسيم الكمومي للموجات التثاقلية (المماثل للفوتون في الموجات الكهرمغنطيسية). فأزواج من جسيمات الگرڤيتون الافتراضية تدخل في حيز الوجود باستمرار ثم تخرج منه. لكن خلال مدة التضخم الكوني، يتوقع أن تتفكك جسيمات الگرڤيتون الافتراضية بسرعة أكبر بكثير من سرعة عودتها للاختفاء في الخلاء. وهذا يعني جوهريا أن الجسيمات الافتراضية ربما تحولت إلى جسيمات حقيقية. إضافة إلى ذلك، فإن التمدد الهائل السرعة للكون ربما أدى إلى مط الأطوال الموجية للگرڤيتون لتتحول من أطوال ميكروية إلى ماكروية (كبرية). وبهذه الطريقة ربما يكون التضخم الكوني ضخ طاقة في إنتاج الگرڤيتونات، مولدا طيفا من موجات تثاقلية عكست ظروف الكون خلال اللحظات الأولى التي أعقبت الانفجار الأعظم. وإذا كانت الموجات التثاقلية التضخمية موجودة فعلا، فستكون أقدم المخلفات في الكون، التي تولدت قبل 000 500 سنة من انبعاث الإشعاعات CMB.
خط الزمن الكوني(6)
خلال حقبة التضخم الكوني ـ أي التمدد الهائل للكون الذي حصل في اللحظات الأولى بعد الانفجار الأعظم ـ ولدت السيرورات الكمومية طيفا من الموجات التثاقلية. وقد كان لهذه الموجات صدى في الپلازما الكونية البدائية، محدثة تشوهات في الإشعاعات CMB التي انبعثت بعد ذلك بنحو 000 500 سنة. وبالقيام برصد يقظ للإشعاعات CMB، في هذه الأيام، يمكن لعلماء الكون أن يكشفوا حركات الپلازما التي أحدثتها الموجات التثاقلية التضخمية.
وفي حين انحصرت الإشعاعات الميكروية في الإشعاعات CMB، إلى حد بعيد، في أطوال موجية بين مليمتر واحد وخمسة مليمترات (حيث الطول في ذروة الشدة نحو 2 مليمتر)، فإن الأطوال الموجية للموجات التثاقلية التضخمية تغطي مجالا أوسع: من سنتيمتر واحد إلى 1023 كيلومتر، وهو حجم الكون الحالي المرصود. تفترض نظرية التضخم الكوني أن الموجات التثاقلية ذات الأطوال الموجية الكبرى ستكون هي الأكثر شدة، وأن قوتها تتوقف على المعدل الذي تمدد به الكون خلال حقبة التضخم. وهذا المعدل يتناسب طرديا مع مستوى طاقة التضخم، التي تحددت بدرجة حرارة الكون عندما بدأ التضخم. ولأن الكون كان أكثر حرارة في المراحل الزمنية الأبكر، فإن قوة الموجات التثاقلية تتوقف في النهاية على الوقت الذي بدأ فيه التضخم.
ولسوء الحظ، لا يستطيع علماء الكون تحديد هذا الوقت، لأنهم لا يعرفون بالتفصيل سبب التضخم الكوني. وقد وضع بعض الفيزيائيين نظرية تنص على أن التضخم بدأ عندما انفصلت ثلاثة من التآثرات الأساسية ـ القوى: الشديدة والضعيفة والكهرمغنطيسية ـ بعد خلق الكون مباشرة. فوفق هذه النظرية، كانت هذه القوى الثلاث واحدة في البداية، ثم أصبحت متمايزة بعد 38-10 ثانية من الانفجار الأعظم، وقد أطلق هذا الحدث، بطريقة أو بأخرى، العنان للتمدد المفاجئ للكون. ولو كانت هذه النظرية صحيحة، لكان للتضخم مدى طاقة محصور بين 1015 إلى 1016 جيگاإلكترون ڤلط (GeV). (جيگاإلكترون ڤلط واحد هو الطاقة التي يكتسبها پروتون عندما يُسرَّع نتيجة هبوط في الڤلطية قدره بليون ڤلط. وأكبر مسرِّع للجسيمات حاليا يصل إلى طاقة 103 Gev.) وبالمقابل، إذا كان التضخم قد نتج من ظاهرة فيزيائية حدثت في وقت متأخر، فإن الموجات التثاقلية ستكون أضعف.
وما إن تحدث الموجات التثاقلية التضخمية خلال الأجزاء الأولى من الثانية بعد الانفجار الأعظم، حتى تواصل انتشارها إلى ما لانهاية، ومن ثم فإنها لاتزال تنتشر عبر الكون. لكن كيف يمكن لعلماء الكون رصدها؟ لننظر أولا كيف يلتقط مستقبِل ستيريو عادي موجة راديوية. هذه الموجات مكوّنة من حقول مغنطيسية وكهربائية واهتزازية تجعل الإلكترونات في هوائي الجهاز المستقبِل تتحرك جيئة وذهابا. وتنتج حركة الإلكترونات هذه تيارا كهربائيا يسجله الجهاز المستقبل.
وبالمثل، تحرِّض الموجات التثاقلية مطّا وعصرا بطريقة اهتزازية للحيز الذي تنتقل الموجات عبره. ومن الممكن لهذه الاهتزازات أن تُحدِث حركات صغيرة في مجموعة من كتل الاختبار العائمة الطليقة. ففي أواخر الخمسينات من القرن العشرين، وبغية إقناع المتشككين في الحقيقة الفيزيائية لهذه الموجات، قام الفيزيائي <H. بوندي> [منKing’s College في لندن] بوصف مكشاف افتراضي للموجات التثاقلية. كان الجهاز المثالي المقترح حلقتين معلَّقتين تتحركان بحرية على قضيب صلب طويل. فموجات التثاقل الواردة التي سعتها h وتواترها (ترددها) ؤ تجعل المسافة L بين الحلقتين تتقلص ثم تتمدد بالتناوب مسافة قدرها h x L، وبتواتر قدره F. وبهذا توفر حرارة الاحتكاك، الناتجة من احتكاك الحلقات بالقضيب، برهانا على أن موجات التثاقل تحمل طاقة.
مواقع النشر (المفضلة)