العلم في القرن العشرين



المهندس/ عبدالحفيظ احمد العمري




.. غادرنا القرن العشرون منذ عدة اعوام لكنه لم يغادر ذاكرة العلم ولا تاريخه لان القرن العشرين اضاف إلى مسيرة البحث العلمي والاكتشافات العلمية ما لم يضفه أي قرن منذ بداية مسيرة الانسانية الموغلة في القدم ..
فماذا اضاف القرن العشرون للعلم وماذا غيّر من مفاهيم العلم وبالتالي غيّر من معيشة الإنسانية ؟
.....لم يهل القرن العشرون إلا والإنسانية تحمل تراكمات العلوم التي اكتسبتها عبر القرون الماضية بكل ما فيها من مفاهيم ونظريات وقوانين علمية متداولة بين العلماء انفسهم او العوام فقد تم تثبيت قوانين الحركة النيوتنية (القوانين الثلاثة) وقانون الجاذبية وقوانين الداينميكا الحرارية والانتروبي Entropy وتم اكتشاف الالكترون في باطن الذرة وتم التوحيد بين الكهرباء والمغناطيسية في معادلات ماكسويل الاربع الشهيرة وفي علم الفلك كانت فكرة مركزية الارض قد تم التخلي عنها بفضل ثورة كوبرنيكوس واصبح المفهوم المعروف عن الكواكب والمجموعة الشمسية ( لم تكن الكواكب المكتشفة حتى اوائل القرن العشرين تسعة بل سبعة) .
واصبحت الجراثيم هي المسببة للامراض وكان للميكروب وجود وتم تقعيد نظرية التطور المشهورة لداروين ( رغم الانتقادات التي حظيت بها بعد ذلك) ، وكان علم الرياضيات قد خطى خطوات واسعة فمن مسلمات اقليدس Euclid الخمسة ( والتي ُتدرّس اليوم في المدارس الابتدائية) إلى رياضيات ريمان Riemann اللااقليدية مرورا بثورة التفاضل والتكامل والتحليل العددي وفضاء مينكوفسكي Minkowski المذهل وما تلاه من افكار الجبر البولياني Boolean algebra كل هذا غيّر عالم الرياضيات من حولنا ..
وبدأت تلوح على الافق مفاهيم جديدة ومعضلات طُرحت في اواخر القرن العشرين مثل سرعة الضوء في الفراغ وطبيعته ومفهوم التطور عند الكائنات الحية والتركيب الداخلي للذرة واشعاع الجسم الاسود ومفاهيم للوراثة المندلية - التي ظلت مختفية عن الانظار حتى جاء القرن العشرون ..كل هذه الارهاصات بشرت بالعلوم في القرن العشرين..

وجاء القرن العشرون


..بدخول القرن العشرين توالت عجلة التقدم العلمي في كل العلوم تقريبا وبدأت العلوم نفسها تلد علوما أخرى اما من العلم الاصلي نفسه كفيزياء الجوامد وفيزياء الجسيمات من علم الفيزياء او من تلاقح اكثر من علم في بوتقة واحدة كالفيزياء الفلكية والكيمياء الفيزيائية او ظهور علوم جديدة بذاتها مثل كيمياء الفيمتو Femtochemistry او علم تكنولوجيا النانو Nanotechnology كل هذا دليل على ضخامة التراكم العلمي والمعرفي في القرن العشرين.
في الفيزياء تم سبر اغوار الذرة وفلقها في أربعينيات القرن العشرين وانتجت الطاقة الذرية لاول مرة في التاريخ ( رغم الاستخدام السيئ لها في الحروب لكن لها اوجه أخرى) ولم يعد تركيب الذرة الاعتيادي هو المعوّل عليه بل اكتشفت عوالم جديدة داخل الذرة بل داخل البروتون والالكترون( كالكوارك Quark والفيرموناتFermions والبوزوناتBosons ..الخ) وتطورت النظرية الذرية حتى وصلت إلى نظرية ميكانيكا الكم Quantum mechanics ونظرية الاوتار الفائقة Superstring وغيرها وظهرت النظرية النسبية Relativity ( بفرعيها العامة والخاصة) مغيرة مفهومنا التقليدي عن المكان والزمان والكون الذي نعيشه ...
وصاحب ذلك ثورة في عالم الرياضيات التي قدّمت افكارا جديدة كنظريات الشواش ( الفوضى Chaos) والهندسة الكسيرية Fractal Geometry وغيرها...
ولم يكن علم الفلك ببعيد عن هذا التطور فظهرت نظرية الانفجار العظيمBig bang المفسرة لمولد الكون وما تلاها من تحسينات وبدأت التلسكوبات بالخروج من جو الارض ( تلسكوب هابل Hubble خارج الغلاف الجوي منذ 1990م ) بل لقد خرج الانسان نفسه من كوكب الارض وثبت اقدامه على القمر في أواخر 1969م وبدأ يتطلع إلى كواكب قريبة كالمريخ وارسل مركباته الفضائية تجوب ارجاء جديدة من الكون فمركبة فويجر1 وفويجر2 ( أطلقتا عام 1977م) غادرتا نظامنا الشمسي في منتصف التسعينات والمركبة كاسيني ( اطلقت عام 1997م) هي الاخرى على نفس الطريق إلى خارج نظامنا الشمسي.. لقد بدأ عصر الفضاء في القرن العشرين.
في علوم الاحياء تم سبر اغوار الخلية الحية واكتشف في منتصف القرن العشرين شريط D.N.A المسؤل عن وراثة الصفات الحية وظهرت الجينات الوراثية بل ظهر علم جديد هو الهندسة الوراثية Genetic engineering ليكون اضخم مشروع في علوم الحياة هو مشروع الجينوم البشري Human genome Project الذي بدأ في 1990م وانتهى في 2003م والذي رسم الخريطة الجينية للانسان لاول مرة في التاريخ ..ومرافق لذلك ظهرت الخلايا الجذعية Stem cell العلم الجديد في هذا الزمان وكانت تقنية الاستنساخ Cloning اول طفرة في موضوع التخليق مع النعجة دوللي عام 1997م ....
استطاع الانسان في اواخر القرن العشرين ان يصور الجزيئات الذرية اثناء تفكك روابطها واعادة تركيبها في تراكيب جديدة على يد العالم العربي الدكتور / احمد زويل الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م ليبدأ علم جديد هو علم كيمياء الفيمتوFemtochemistry ...
ولم يكن الطب بعيدا عن التطور حيث تطورت الجراحة مع تقدم التقنية بظهور الليزر Laser وكذلك استخدام الاشعة السينية في تصوير الاعضاء ومن ثم المسح بالرنين المغناطيسيMagnetic resonance والنظائر المشعة في التشخيص وظهرت جراحة نقل الاعضاء بعد معرفة اصناف زمر الدم وغيرها من امور الطب الحديثة
إلى جانب ظهور تقنية العلاج الحديث الذي تخطى الكبسولات والشراب وغيرها من الامور التقليدية إلى العلاج بعد الفحص الجيني Genetic testing على الخارطة الجينية . ...
التكنولوجيا لم تكن بعيدة عن ذلك فظهرت ثورة الموصلات الترانزستورية Transistor ( ثورة السيلكون ) في اواخر الخمسينات ودخل الانسان عصر الكمبيوتر وظهرت السماوات المفتوحة والبث اللاسلكي وثورة الاتصالات والانترنت Internet ..
هذه الثورات المتلاحقة سواء في العلم او التكنولوجيا اثرت على حياة الانسان وعلى حضارته سواء ايجابا وسلبا..
ايجابيتها في رفاهية الانسان بمنتجات التكنولوجيا الحديثة التي غزت كل بيت تقريبا على ارجاء المعمورة فطال متوسط عمر الانسان إلى 75 عام في البلدان المتقدمة ( مقارنة بـ 45 عام في اوائل القرن العشرين)..
وانقرضت بعض الامراض المستعصية مثل الجدري وتقلصت اماكن اصابة الملاريا (وعلى النقيض ظهرت امراض أخرى جديدة ولعل الايدز والسرطان يحتلان المراتب الاولى)
واصبحت تقنية لمسة زر هي السائدة في هذا العصر ....
لكن على النقيض دمرت التكنولوجيا الحديثة او لنقل استخدام الانسان السيئ لها حياة الامم والشعوب في تطور الاسلحة الفتاكة ( القنابل النووية والهيدروجينية والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الموجهة بالليزر) فكانت الحربان العالميتان معلما سيئا من معالم القرن العشرين (ذهب ضحيتهما اكثر من سبعين مليون شخص) وما تلتها من حروب اقليمية ( الحرب الكورية وحرب فيتنام وحروب الخليج) كل هذ الحروب طورت من صناعة الاسلحة الفتاكة على كل الاصعدة فكانت قنابل النابالم Napalm والقنابل الفسفورية واليورانيوم المنضّبDepleted Uranium وطائرات الشبح U2 وغيرها من معالم هذه الحروب..
ولم تسلم البيئة هي الاخرى من تدمير الانسان لها فكانت مشاكل ثقب الاوزون Ozone hole والاحتباس الحراري Global Warming في طليعة المشاكل البيئية التي افرزتها حضارة القرن العشرين..
..لم تغب شمس القرن العشرين الا والانسان على مشارف حضارة الالفية الثالثة العملاقة ( بكل تناقضاتها) التي تراكمت خلال قرن واحد من الزمان لم يعرف له التاريخ مثيلا في طفرته العلمية إنه القرن العشرون...





***