أعضاء المنتدي الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد يناير فبراير 2001

أبعاد غير مرئية للكون(*)
قد يكون الكون المرئي موجودًا فوق غشاء عائم في نطاق
فضاء ذي أبعاد أكثر عددًا. وقد تساعد الأبعاد الإضافية
على توحيد قوى الطبيعة، وقد تتضمن أكوانًا متوازية.
< N. أركاني-حامد> ـ <S. ديموپولوس> ـ < G. دڤالي>

تحكي القصة المأثورة "الأرض المسطحة (فلاتلاند): قصة رومانسية متعددة الأبعاد(1) ، وهي القصة التي كتبها < A.E. آبوت> Abbott عام 1884، مغامرات شخص يحمل اسم < A. سكوير>(2) يعيش في عالمٍ ذي بعدين تسكنه أشكال هندسية متحركة-مثلثات، مربعات، مخمسات، وما إلى ذلك. وقبيل نهاية القصة في أول أيام عام 2000، يمر ب"فلاتلاند" مخلوق كروي آت من فضاء ثلاثي الأبعاد "سبيسلاند" Spaceland يحمل سكوير من منطقته المسطحة ليريه الطبيعة الحقيقية الثلاثية الأبعاد للعالم الأكبر. وعندما يأخذ سكوير في استيعاب ما توضحه الكرة له، يبدأ بالتفكير بأن سبيسلاند نفسه قد يكون موجودًا في فضاء جزئي من كونٍ أكبر ذي أربعة أبعاد.

ومن المثير حقًّا أن الفيزيائيين بدءوا في عامي 1998 و1999 بدراسة جادّة لفكرة مشابهة جدًّا: وهي أن كل ما نراه في عالمنا محدد ب"غشاء" membrane ثلاثي الأبعاد موجود في كون أكثر أبعادًا. ولكن، خلافًا ل"سكوير" الذي كان عليه الاعتماد على تدخل إلهي من سبيسلاند عونًا لأفكاره الثاقبة، فإن الفيزيائيين قد يتمكنون قريبًا من الكشف عن وجود أبعاد إضافية للعالم الواقعي قد تمتد إلى مسافة مليمتر كامل. وتجرى الآن بالفعل تجارب للنظر في تأثير الأبعاد الإضافية في قوة الثقالة gravity. فإذا كانت النظرية صحيحة، فإن التجارب التي ستجرى قريبًا في أوروبا على الجسيمات ذات الطاقة العالية قد تكشف عن آليات غير اعتيادية تتناول الثقالة الكمومية quantum gravity، مثل نشأة الثقوب السوداء الميكروية micro العابرة. وليست النظرية مجرد قصة رومانسية ذات أبعاد عديدة، بل إنها مبنية على بعضٍ من أحدث التطورات في نظرية الأوتار string theory، وسوف تقود إلى الحلول التي طال انتظارها لبعض المسائل المحيِّرة في فيزياء الجسيمات وفي الكوسمولوجيا (علم الكون).

إن المبادئ الغريبة التي تتضمنها نظرية الأوتار وتعدُّد الأبعاد تنشأ عن محاولات فهم أكثر القوى شيوعًا ألا وهي قوة الثقالة؛ فبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على طرح نيوتن لقانونه في التثاقل (الجاذبية) gravitation مازالت الفيزياء عاجزة عن تفسير ضعف قوة الثقالة الشديد مقارنة بالقوى الأخرى. إن ضعف قوة الثقالة أمر مثير: فالقوة التي يرفع بها مغنطيس صغير مسمارًا من الأرض تتغلب على الجذب التثاقلي gravitational لكتلة الأرض بأكملها. كذلك فإن قوة التجاذب بين إلكترونين أضعف بنحو 1043 مرة من القوة الكهربائية الطاردة المتبادلة بينهما. وتبدو الثقالة مهمة بالنسبة إلينا ـ فهي تثبت أقدامنا على الأرض وتحافظ على دوران الأرض حول الشمس ـ لكن ذلك فقط لأن تلك التجمعات الكبيرة من المادة هي محايدة كهربائيًّا، الأمر الذي يجعل القوى الكهربائية صغيرة إلى حد التلاشي ويترك الثقالة، على ضعفها، القوة الملحوظة الوحيدة.

ضعف الثقالة المستعصي على التفسير
إن كتلة الإلكترونات يجب أن تتضاعف نحو 1022 مرة لكي تتساوى القوتان الكهربائية والتثاقلية المتبادلتان بين إلكترونين منها. كما يلزم لإنتاج جسيم ثقيل الوزن كهذا طاقة تعادل 1019 گيگاإلكترون ڤلط (GeV)، وهي طاقة تعرف باسم طاقة پلانك Planck energy. وثمة طول يتعلق بهذه الطاقة يسمى طول پلانك، وهو صغير للغاية ويساوي35-10 متر. وللمقارنة، نذكر أن البروتون، وهو نواة ذرة الهدروجين، أكبر من ذلك بنحو 1019 مرة، وكتلته تساوي 1GeV تقريبًا. إن أقوى المسرّعات accelerators قدرة تعجز عن الوصول إلى قيمتي پلانك للطول والطاقة. وحتى مصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider الموجود في المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN سيتعامل مع أطوال لا تقل عن 19-10 متر فقط، وذلك عند بدء تشغيله بعد نحو خمس سنوات من الآن(3). وبالنظر إلى أن شدة الثقالة تصبح قابلة للمقارنة بالقوة الكهرمغنطيسية والقوى الأخرى عند سُلَّم پلانك، فقد اعتاد الفيزيائيون افتراض أن النظرية التي توحِّد الثقالة مع التفاعلات الأخرى لا تكشف عن نفسها إلا في نطاق الطاقات المشار إليها. ومن ثم، فسوف يتعذر تبعًا لهذه الفرضية التحقق مباشرة بالتجربة من طبيعة النظرية النهائية لتوحيد القوى في المستقبل المنظور(4).

إن أقوى المسرّعات حاليا تسبر مجال الطاقة فيما بين 100 و 1000 گيگا إلكترون [تيرا إلكترون ڤلط أو TeV واحد]. وضمن هذا المجال، شهد القائمون بالتجارب اتحاد القوة الكهرمغنطيسية والتفاعل الضعيف (قوة تنشأ بين الجسيمات دون الذرية تسبب بعض أنواع التفكك الإشعاعي). ويمكن أن ندرك الضعف الشديد للثقالة إذا فهمنا العامل 1016 الذي يفصل بين السلم الكهربائي الضعيف (الكهر- ضعيف) electroweak scale وسلم پلانك.

ومن المؤسف أن النظرية الناجحة للغاية التي وجدها الفيزيائيون، والتي تسمى النموذج المعياري Standard Model لا تستطيع تفسير حجم هذه الفجوة الهائلة؛ لأنها ضُبِطت بدقة لكي تتوافق مع السلم الكهر- ضعيف المشاهَد. لكن من دواعي السرور أن هذا الضبط ـ إضافة إلى نحو 16 عملية ضبط أخرى ـ يستخدم مرة واحدة فقط ليتفق مع آلاف مؤلفة من المشاهدات. غير أن علينا أن نضبط النظرية الأساسية بحساسية بالغة بحيث نحصل على دقة تبلغ نحو جزء واحد من 1032؛ وإلا فإن عدم الاستقرار الناشئ عن التأثيرات الكمومية قد يدفع السلم الكهر- ضعيف ليعود إلى سلم پلانك. إن وجود مثل هذا التوازن الدقيق في النظرية شبيه بمشاهدة قلم رصاص يستقر تمامًا على منضدة وهو منكس رأسًا على عقب؛ فمع أن هذه الحالة ليست مستحيلة الحدوث، إلا أنها غير مستقرة إلى حد كبير وسنستغرب جدًّا حدوثها لو تمّ ذلك.


قد نكون قاطنين في كون غشائي في عالم ذي أبعادٍ أكثر عددًا. وقد تكشف التجارب الجارية حاليًا عن
مؤشرات إلى وجود أبعاد إضافية يصل "كبرها" إلى مليمتر واحد.

وطوال عشرين السنة الماضية حاول الفيزيائيون النظريون حل طلاسم هذا اللغز، الذي يسمى المسألة التراتبية للتفاعلات تبعًا لشدتها (سنطلق عليها الاسم المختصر: المسألة التراتبية hierarchy problem). وقد اعتمدت محاولاتهم على تغيير طبيعة فيزياء الجسيمات بالقرب من 19-10 متر (أو 1 تيرا إلكترون ڤلط)(5) وذلك بهدف استقرار السلم الكهر- ضعيف. إن أبسط تعديلات النموذج المعياري لبلوغ هذا الهدف تتضمن نوعًا جديدًا من التناظر يسمى التناظر الفائق supersymmetry. وقياسًا على قلم الرصاص الذي مثلنا به توًّا، فإن التناظر الفائق هو بمثابة خيط غير مرئي يمسك بالقلم ويمنعه من السقوط. ومع أن المسرّعات لم توفر أي دليل مباشر على التناظر الفائق، فإن بعض الأدلة غير المباشرة تدعم توسيع النموذج المعياري بالتناظر الفائق. فمثلاً، باستقراء شدة القوى الشديدة والضعيفة والكهرمغنطيسية نظريًّا عند أطوال أقصر، فإنها تتوافق بدقة عالية شريطة أن يكون الاستقراء محكومًا بقواعد التناظر الفائق. وتشير هذه النتيجة إلى أن توحيد هذه القوى الثلاث مبني على التناظر الفائق عند نحو 32-10 متر، أي عند ما يقارب ألف مرة طول پلانك، ولكن هذه القيمة لاتزال أبعد بكثير عن مجال عمل مصادمات الجسيمات particle colliders.

الثقالة والأبعاد الفضائية الكبيرة
خلال العقدين الأخيرين كان الإطار الوحيد للتصدّي للمسألة التراتبية هو تغيير فيزياء الجسيمات بالقرب من 19-10 متر، وذلك عن طريق إدخال آليات جديدة مثل التناظر الفائق. ولكن العلماء النظريين اقترحوا في السنتين الأخيرتين أسلوبًا يختلف جذريًّا عن ذلك، ألا وهو تعديل الزمكان(6) والثقالة وحتى سلم پلانك ذاته. والفكرة الأساسية لذلك هي أن الحيز غير الاعتيادي لسلم پلانك، والذي ظل مقبولاً على مدى قرن كامل منذ أن اقترحه پلانك، مبنيٌّ على فرضية غير مختبرة تتناول سلوك الثقالة عند المسافات القصيرة.

ينطبق قانون التربيع العكسي في الثقالة لنيوتن ـ والذي ينص على أن القوة المتبادلة بين كتلتين تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينهما ـ انطباقًا جيدًا على المسافات الماكروسكوبية (الكبرية)، وهو يفسر دوران الأرض حول الشمس ودوران القمر حول الأرض وما إلى ذلك. إلاّ أنه لما كانت الثقالة قوة ضعيفة للغاية، فقد اختُبر القانون لمسافات لا تقل عن المليمتر، ويتعيّن علينا أن نقوم بعملية الاستقراء عبر 32 مرتبة عشرية لنتوصل إلى أن الثقالة لا تصبح شديدة إلا عند سُلَّم پلانك البالغ
35-10 متر.

إن قانون التربيع العكسي طبيعي في الفضاء الثلاثي الأبعاد [انظر الشكل العلوي في الصفحة المقابلة]. فإذا درسنا خطوط القوة التثاقلية التي تنطلق بانتظام من الأرض، نجد أنها، عند المسافات الكبيرة من الأرض، تنتشر على قشرة كروية هائلة المساحة. وتتزايد المساحة السطحية بمعدل يتناسب مع مربع المسافة، وبالتالي فإن القوة تتناقص بمثل هذا المعدل. لنفترض الآن أن هناك بُعدًا إضافيًّا، أي إن الفضاء أصبح ذا أربعة أبعاد. في هذه الحالة ستنتشر خطوط القوة على قشرة في أربعة أبعاد وبالتالي يزداد سطحها متناسبًا مع مكعب المسافة، فتتبع قوة الثقالة عندئذ قانونًا للتكعيب العكسي.

ولا شك في أن قانون التكعيب العكسي لا يصف الكون الذي نعيش فيه، ولكن تصوَّر الآن أن البُعْد الإضافي انثنى وأصبح على هيئة دائرة صغيرة نصف قطرها R وأننا ننظر إلى خطوط الحقل الآتية من نقطة مادية صغيرة للغاية [انظر الشكل السفلي في الصفحة المقابلة]. عندما تكون المسافة بين خطوط الحقل والكتلة أقل من R، يمكنها أن تنتشر بانتظام في جميع الأبعاد الأربعة، وبالتالي فإن قوة الثقالة متناسبة عكسيًّا مع مكعب المسافة. ولكن، بمجرد أن يكتمل انتشار الخطوط حول الدائرة، لن يتبقى لها إلا ثلاثة أبعاد لتنتشر خلالها، وبالتالي فعند المسافات الأكبر كثيرًا من R ستتناسب القوة عكسيًّا مع مربع المسافة.
مختصر مفيد
الأبعاد. يبدو أن لكوننا أربعة أبعاد: ثلاثة للمكان (أحدها من أسفل إلى أعلى وثانيها من اليسار إلى اليمين وثالثها من الأمام إلى الخلف)، وواحد للزمان. وعلى الرغم من صعوبة تصور أبعاد إضافية، فإن الرياضياتيين والفيزيائيين درسوا وحلّلوا منذ زمن طويل خواص الفضاءات النظرية التي تمتلك أي عدد من الأبعاد.
حجم الأبعاد. الأبعاد الأربعة المكانية - الزمانية المعروفة لكوننا كبيرة جدًّا. يمتد البُُعد الزماني في الماضي إلى 13 بليون سنة على الأقل، وقد يمتد إلى ما لانهاية في المستقبل. والأبعاد المكانية الثلاثة قد تكون لانهائية؛ فقد كشفت مقاريبنا أجرامًا تبعد عنا أكثر من 12 بليون سنة ضوئية. كذلك يمكن للأبعاد أن تكون محدودة: فبُعْدا سطح الأرض على سبيل المثال يمتدان إلى000 40 كيلومتر فقط وهو طول دائرة عظيمة.
الأبعاد الإضافية الصغيرة. تفترض بعض النظريات الفيزيائية الحديثة وجود أبعاد إضافية حقيقية ملتفّة على هيئة دوائر صغيرة للغاية (ربما ساوى نصف قطرها 35-10 متر) بحيث لم نستطع اكتشافها. تأمل خيطًا من القطن. يمكن اعتبار الخيط على وجه التقريب وحيد البعد، إذ يمكن تحديد مكان وقوف نملة عليه بعدد وحيد. على أننا، باستخدام مجهر، نرى حشرة العث وهي تزحف على سطح الخيط ذي البعدين: على طول البعد الكبير وحول البعد القصير الذي هو محيط الخيط.
الأبعاد الإضافية الكبيرة. تحقق الفيزيائيون مؤخرًا من أن الأبعاد الإضافية التي يصل "كبرها" إلى مليمتر قد توجد وتظل غير مرئية لنا. ومن الغريب غياب أي بيانات تجريبية معروفة تستبعد هذه النظرية التي يمكن أن تفسر عدة مسائل محيرة في فيزياء الجسيمات والكوسمولوجيا (علم الكون). وطبقا للنظرية، سنتكدس نحن وجميع محتويات كوننا الثلاثي الأبعاد (فيما عدا الثقالة) على "غشاء"، شأننا في ذلك شأن كرات البلياردو التي تتحرك على القماش الأخضر الثنائي الأبعاد الذي يغطي طاولة البلياردو.
الأبعاد والثقالة. إن سلوك الثقالة ـ ولا سيما شدتها ـ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعدد الأبعاد التي تنتشر خلالها. وعلى ذلك فقد تكشف دراسات الثقالة التي تؤثر في أبعاد أصغر من المليمتر عن أبعاد إضافية كبيرة؛ علمًا بأن تجارب كهذه تجرى الآن فعلاً. وسوف تزيد هذه الأبعاد أيضًا من توليد الأجسام الغريبة التي ترتبط بالثقالة الكمومية، مثل الثقوب السوداء الميكروية وجسيمات الگراڤيتون والأوتار الفائقة، والتي يمكن الكشف عنها جميعًا خلال العقد الحالي بوساطة مسرّعات الجسيمات ذات الطاقة العالية. < P .G. كولينز>

إن توضُّع كرات على سطح طاولة بلياردو يماثل توضع الجسيمات الأساسية على غشاء كوننا المعروف. تصدر تصادمات كرات البلياردو طاقة في ثلاثة أبعاد على هيئة موجات صوتية (اللون الأحمر)، وهي تماثل الگراڤيتونات. وقد تكشف الدراسات الدقيقة لحركات الكرات عن الطاقة "المفقودة"، ومن ثم عن الأبعاد الإضافية.

يحدث التأثير ذاته عند وجود أبعاد إضافية عديدة، انثنى كل واحد منها ليصبح على هيئة دائرة نصف قطرها R. فإذا كان عدد الأبعاد الكونية الإضافية هو n، فإن قوة الثقالة سوف تتبع قانونًا عكسيًّا للمسافة مرفوعة إلى الأس 2+n. ولما كنا قد قسنا الثقالة عند مسافات لا تقل عن المليمتر، فإننا سنكون غافلين عن تغيرات الثقالة التي تسببها الأبعاد الإضافية التي يكون طول نصف قطرها R أقل من مليمتر واحد. أضف إلى ذلك أن قانون الأس n+2 سيجعل الثقالة تبلغ "شدة سلم پلانك" Planck-scale strength عند قيم أعلى بكثير من 35-10 متر. وبعبارة أخرى، فإن طول پلانك (الذي يحدَّد بالموضع الذي تصبح عنده الثقالة شديدة) لن يكون صغيرًا بتلك الدرجة، وسينخفض أثر المسألة التراتبية.

يمكن حل المسألة التراتبية تمامًا بافتراض وجود أبعاد إضافية كافية لتحريك سلم پلانك ليقترب من السلم الكهر-ضعيف. وسيحدث التوحيد النهائي للثقالة مع القوى الأخرى بالقرب من 19-10 متر بدلاً 35-10 متر بحسب الافتراض الشائع. ويعتمد عدد الأبعاد الإضافية اللازمة على مدى كبرها. وبالعكس يمكننا حساب مدى كبرها، المقابل لعدد معين من الأبعاد الإضافية، لجعل الثقالة شديدة بالقرب من 19-10 متر. فإذا كان هناك بُعْد إضافي واحد فقط، فإن نصف قطره R يجب أن يقارب المسافة بين الشمس والأرض. لذا فقد استبعدت هذه الحالة بالمشاهدات التجريبية. وفي حالة بُعْدين إضافيين، يمكن حل المسألة التراتبية إذا كان قياس كل منهما نحو مليمتر واحد ـ أي حيث ينتهي علمنا المباشر بالثقالة. وتصغر الأبعاد الإضافية في الحيز كلما ازداد عددها. ففي حالة سبعة أبعاد إضافية ينبغي أن يصل قياس كل منها إلى نحو14-10 متر، وهذا يساوي تقريبًا قياس نواة اليورانيوم، وهو صغير للغاية مقارنة بالأطوال التي نتعامل بها في حياتنا اليومية، ولكنه هائل بمقياس فيزياء الجسيمات.


قد يبدو الفرض بوجود أبعاد إضافية مفتعلاً وغريبًا، ولكنه افتراض مألوف لدى الفيزيائيين الذين مارسوه منذ العقد الثاني من القرن العشرين، عندما طوَّر عالم الرياضيات البولندي <T. كالوزا> والفيزيائي السويدي <o.كلاين> نظرية مهمة موحّدة للثقالة والكهرمغنطيسية، واستلزمت بُعدًا إضافيًّا واحدًا. وقد تجدَّد تطبيق هذه الفكرة في النظريات الرياضياتية الحديثة للأوتار، والتي تتطلب عشرة أبعاد فضائية لتحقيق اتساق البنية الرياضياتية الداخلية. فقد افترض الفيزيائيون في الماضي أن الأبعاد الإضافية تتصاغر إلى دوائر دقيقة تقارب قياساتها طول پلانك المأثور، أي 35-10 متر، وهو افتراض يجعل كشف هذه الأبعاد مستحيلاً، كما أنه لا يتعرض للمسألة التراتبية. وبالمقابل، ففي النظرية الحديثة التي نحن بصدد مناقشتها، تلف الأبعاد الإضافية على هيئة دوائر كبيرة تصل أنصاف أقطارها إلى 14-10 متر على الأقل، وربما بلغت المليمتر.

كوننا يتوضَّع على جدار
إذا كانت هذه الأبعاد كبيرة إلى هذه الدرجة فلماذا لم نرها حتى الآن؟ إن الأبعاد الإضافية التي يصل كبرها إلى مليمتر يمكن تمييزها بالعين المجردة وتكون واضحة إذا نُظِر إليها من خلال مجهر. ومع أننا لم نقس الثقالة لمسافات تقل عن المليمتر، فإن في حوزتنا كمًّا هائلاً من المعلومات التجريبية عن القوى الأخرى عند مسافات أقصر من ذلك بكثير تقترب من9-10 متر، ولكنها جميعًا تقتصر على الفضاء الثلاثي الأبعاد. كيف يمكن إذًا أن توجد أبعاد إضافية كبيرة؟

الجواب بسيط ومتميّز في آن معًا: إن كل المادة والقوى التي نعرفها ـ باستثناء قوة الثقالة ـ تلتصق ب"جدار" موجود في فضاء الأبعاد الإضافية [انظر الشكل التمثيلي في الصفحة 64]. ويتعذر على الإلكترونات والبروتونات والفوتونات وجميع الجسيمات الأخرى في النموذج المعياري الحركة في الأبعاد الإضافية؛ ولا يمكن لخطوط الحقل المغنطيسي أو الكهربائي الانتشار في الفضاء الأكثر أبعادًا. فللجدار ثلاثة أبعاد فقط، وبقدر ما يتعلق الأمر بهذه الجسيمات، فقد يكون الكون أيضًا ثلاثي الأبعاد؛ في حين يمكن لخطوط الحقل التثاقلية فقط أن تمتد إلى الفضاء الأكثر أبعادًا، والجسيم الوحيد الذي يمكنه التحرك بحرية في الأبعاد الإضافية هو الگراڤيتون graviton الذي ينقل الثقالة. ولا يمكن الإحساس بوجود الأبعاد الإضافية إلا من خلال قوة الثقالة.


إن البعدَ الإضافي الصغير الذي يلتف على هيئة دائرة (محيط الأنبوب) يقيِّد آليةَ انتشار الثقالة في الفضاء (الخطوط الحمراء). تنتشر خطوط القوة متباعدة عن بعضها بسرعة في جميع الأبعاد عند المسافات التي تقل عن نصف قطر الدائرة (الرقع الزرقاء). أما عند المسافات الأكبر كثيرًا (الدائرة الصفراء) فتملأ الخطوطُ البعدَ الإضافي، ولا يكون لها أي تأثير لاحق فيها.

قياسًا على ذلك، تخيَّلْ أن جميع الجسيمات في النموذج المعياري، مثل الإلكترونات والبروتونات، هي كرات بلياردو تتحرك على سطح طاولة بلياردو هائلة. فالكون بالنسبة إلى هذه الكرات له بعدان فقط. ومع ذلك فإن سكان طاولة البلياردو، أي "كرات البلياردو" يمكنها اكتشاف العالم الأكثر أبعادًا: عندما تتصادم كرتان بشدة كافية تتولد منهما موجات صوتية تتحرك في ثلاثة أبعاد، ناقلة بذلك بعض الطاقة بعيدًا عن سطح الطاولة [انظر الشكل في الصفحة 62]. إن الموجات الصوتية هنا تقابل الگراڤيتونات، التي يمكنها الحركة في كامل الفضاء الأكثر أبعادًا. وفي حالة تصادمات الجسيمات العالية الطاقة، نتوقع رصد طاقة مفقودة نتيجة لانفلات الگراڤيتونات إلى الأبعاد الإضافية.


قد يتوضَّع كوننا على جدار أو غشاء في الأبعاد الإضافية. إن الخط الممتد على طول الأسطوانة (الشكل السفلي الأيمن) والمستوي المسطح يمثلان كوننا الثلاثي الأبعاد، الذي تتجمع عليه جميع الجسيمات والقوى المعروفة باستثناء الثقالة. تنتشر الثقالة (الخطوط الحمراء) عبر كل الأبعاد. وقد يصل كبر الأبعاد الإضافية إلى مليمتر واحد دون أن يتعارض ذلك مع أي مشاهدات نعرفها.

قد يبدو مستغربًا تقييد حركة بعض الجسيمات بجدار، ومع ذلك فإن بعض الظواهر المشابهة مألوفة تمامًا؛ فالإلكترونات في سلك نحاسي مثلاً يمكنها التحرك في فضاء ذي بُعد واحد فقط وهو السلك، ولا تخرج إلى الفضاء الثلاثي الأبعاد المحيط بها. كما أن موجات ماء البحر تتحرك أساسًا على سطحه، لا في أعماقه. والسيناريو المحدد الذي نَصِفُه، والذي تتكدس فيه جميع الجسيمات، فيما عدا جسيمات الثقالة، عند جدار، يمكن أن ينشأ تلقائيًّا في نظرية الأوتار. والواقع إن التحقق من وجود مثل هذه "الجدران" في نظرية الأوتار كان من أهم الأفكار الثاقبة التي أدت إلى الإنجازات الحديثة في هذه النظرية. وتُعْرف هذه الجدران في نظرية الأوتار باسم D-brane حيث تشتق "brane" من كلمة "membrane"، أي غشاء، والحرف D هو الحرف الأول من اسم عالِم الرياضيات(7) "Dirichlet"، الذي أثبت خاصية رياضياتية للأغشية. إن الD-branes تتمتع بالصفات المطلوبة بالضبط: إن جسيمات كالإلكترونات والفوتونات تمثَّل بأطوال دقيقة من الوتر لكل منها نهايتان يتحتم أن تلتصقا بواحد من الD-branes. أما الگراڤيتونات فهي عرى دقيقة مغلقة من الوتر يمكنها التحرك في جميع الأبعاد نظرًا لعدم وجود نقاط نهاية تربطها بالD-brane.