التسلسل الزمني لأحداث الانفجار الأعظم


كما كنا عرضنا غير مرة، فقدوُلد الكون، نتيجة انفجار هائل في نقطة لا نهائية الصغر وذات كثافة لا نهائية الكبروالسخونة، من ركام كمومي cumulus quantus ، يتألف من جُسيمات غريبة غير مألوفة exotique exotic، وجُسيمات غريبة أخرى مضادة، تتولد وتتفانى باستمرار. وكانت القوىالطبيعية الأربع موحدة في قوة واحدة كبرى معطلة الفعل، وذات بنية غشائية حويصليةوترية. وفي إثر حدوث الانفجار، انفصلت فقاعات انتفاخية كمومية، توسعت إحداها توسعاًهائلاً، فوُلد الكون ووُلد معه الزمن والمكان، في خلاء فائق البرودة والتناظر. أمَّا الفائض الكمومي المتبقي (في إثر انفصال الفقاعات الكمومية)، فعانى انفجاراًهائلاً آخر (إنما أبطأ وأضعف)، سخن الخلاء فائق التناظر والتبرد إلى درجة تقل عندرجة حرارة ((بلانك)) (أي أقل من مائة ألف مليار مليار مليار، أي أقل من 3210 درجةمطلقة أو كلفِن) هذا، ويمكن تلخيص التسلسل الزمني chronology، chronologie لأحداثولادة الكون على النحو التالي:

أولاً :في اللحظة التي تعادل جزءاً من عشرة ملايين مليار مليار مليار مليار (أي 10-43) منالثانية الأولى لولادة الكون، حدث الانفجار الأعظم على درجة من الشدة بحيث لا يسمحبأي نشوء مادي واضح. كانت شدة هذا الهياج تكفي لتفارق أي ترابط جُسيمي يمكن أنيحدث. وكانت شدة الحرارة والإشعاع تلتهم كل تشكل بنيوي قد ينشأ. وتمثل الحدثالأساسي (الذي نجم عن هذا الاهتياج الحراري العنيف) بولادة الثقالة، القوة الأولىمن القوى الأربع للطبيعة التي سنعرض لها في الفصل الثاني، والتي كانت (حتى لحظةالانفجار) موحدة في قوة كبرى واحدة متفانية الفعل، وذات بنية غشائية حويصليةوترية.

ثانياً: في إثر فترة مخاض وجيزةجداً (تقل عشر مليارات جزء عن اللحظة الأولى المشار إليها آنفاً)، هبطت درجة حرارةالكون الآخذ بالولادة إلى درجة حرارة ((بلانك))، وأخذ الركام الكمومي شكل نقطة يبلغقطرها عشرة أضعاف طول ((بلانك))، إذ يبلغ طول هذا القطر جزءاً من مئة ألف مليارمليار مليار (أي 10-32) من السنتي متر (يبلغ طول ((بلانك)) جزءاً من مليون مليارمليار مليار أي 10-33 من السنتي متر). أما الحدث الأساسي ذو المغزى والذي نجم عنهذا المخاض، فتمثل بولادة المكان والزمن (معلمي الكون الرئيسين) اللذين يُعالجان (بفضل نظرية النسبية العامة) كأي معلم فيزيائي آخر (كالكتلة، ودرجة الحرارة،والتسارع..).

لقد تألفت نقطة الركام الكمومي في هذه المرحلة من جُسيماتغريبة غير مألوفة، ومن أضداد هذه الجُسيمات التي لم يعرف (ولن يعرف) تاريخ الكونلها مثيلاً. وكانت هذه الجُسيمات الغريبة وأضدادها تنشأ بدءاً من طاقة هذا الركامالكمومي، وتتفانى آنياً. وكان عمر الكون في هذه المرحلة يساوي جزءاً من مئة مليونمليار مليار مليار أي 10-35 من الثانية، حيث انخفضت درجة حرارة الكون إلى ألف مليارمليار مليار درجة مطلقة (أو 3010 كلِفن).

في هذه اللحظة، وفي أثناء مخاضولادة القوة النووية الشديدة (إحدى القوى الطبيعية الأربع)، انفصلت عن الركامالكمومي فقاعات كمومية (بتحول طوري خاص، انظر الفقرة 1 - 2)، وتسربت إلى الخلاء (المتناظر تناظراً فائقاً) المحيط بهذا الركام وذي البرودة الفائقة. فأمسكت عندئذقوة الانتفاخ الهائلة بإحدى هذه الفقاعات، فانتفخت بسرعة مفرطة (تفوق سرعة الضوء) مليار مليار مرة، وأصبح حجمها مساوياً حجم كرة المضرب. ولضرورة الحفاظ على التناظر (التجانس) الفائق للخلاء، تحول جزء من طاقة الركام الكمومي إلى مزيد من الجُسيماتالغريبة غير المألوفة والجُسيمات المضادة.

ثالثاً:في اللحظة التي أصبح فيها عمر الكون مساوياًجزءاً من مئة ألف مليار مليار مليار أي 10-32 من الثانية الأولى، تجدد الانفجارثانية في القسم الفائض من الركام الكمومي، إنما بشدة أضعف وبسرعة أبطأ من الانفجارالأول، ليسخن الانتفاخ (الآخذ بالتوقف) والخلاء المحيط (الفائق التبرد) تسخيناًمفرطاً. ولكن في إثر انخفاض درجة حرارة الكون إلى عشرة ملايين مليار مليار (أي 2510) درجة مطلقة أو كلِفن)، وبفعل القوة النووية الشديدة، وبدرجة أقل، فعلالثقالة، تحول جزء من الجُسيمات الغريبة غير المألوفة لثمالة الركام الكمومي إلىكواركات quarks(1301)، ولبتونات(1401).

رابعاً:أمَّا في اللحظة التي بلغ فيها عمر الكون جزءاًمن مئة مليار (أي 10-11) من الثانية، فإن درجة حرارة الكون انخفضت إلى أقل من مليونمليار أي 1510 درجة مطلقة أو كلِفن، وأصبحت ظروف الكون مواتية لانشطار توأمي القوةالنووية الضعيفة والقوة الكهرطيسية، فولدت هاتان القوتان كقوتين مستقلتين وظيفيتين. وهنا أيضاً حدث هذا الانشطار بآلية فصم متناظرة. وكما أن الفوتون هو رسيل القوةالكهرطيسية (وهو عديم الكتلة)، فإنَّ الجُسيمات W+ (من ضعيف weak)، و Z و W، هي رسلالقوة النووية الضعيفة، وذات كتلٍ مرتفعة. يمكن القول إذاً أنَّ هذه المرحلة من عمرالكون أصبحت تتمتع بفعل القوى الأربع للطبيعة التي ولدت على التتالي بتحولات طوريةثلاثة (انظر الفقرة 2-1): الثقالةفي اللحظة 10-43 من الثانية (لحظة حدوث الانفجارالأعظم وبدء ولادة الكون بزمانه ومكانه)، ثم القوة النووية الشديدة في اللحظة 10-35من الثانية، ثم القوتين المدموجتين:

النووية الضعيفة والكهرطيسية، وأخيراًانفصال هاتين القوتين عن بعضهما في اللحظة 10-11 من الثانية. ولا بد من التأكيد فيهذا الصدد أنَّ ولادة هذه القوى أتى كنتيجة منطقية لتبرد الكون، وأنَّ هذه الولادةكانت ((مبرمجة)) في الزمن والمكان، بحيث يكون وجود هذه القوى (وكذلك الجُسيماتالحاملة لها، أو رسلها) شرطاً حرجاً وأساسياً للانتقال إلى المرحلة التالية (أمريحدث، من حيث المنطق، أثناء تكون الجنين في الكائنات الحية، وسنعرض له في القسمالخاص بالتطور البيولوجي من هذا الكتاب). هذا، وسنشير إلى العلاقة بين درجة الحرارةوتكون الجُسيمات العنصرية والذرات في القسم الثاني من هذا الكتاب (التطور الفيزيائيالكيميائي).

خامساً: وتعدُّ اللحظة التيتعادل جزءاً من مليون (أي 10-6) من الثاني المرحلة التي بدأت فيها الكواركات الحرةبالاختفاء وإلى الأبد. ففي هذه اللحظة، تبرد الكون الوليد إلى الدرجة عشرة آلافمليار (أي 1310 درجة مطلقة). كانت الكواركات وأضدادها (قبل هبوط السخونة إلى هذهالدرجة) تهيم في الفضاء شوشياً (عشوائياً) على غير هدى، تتشكل وتتفانى بأعدادهائلة. ولكن ما إن أصبحت درجة الحرارة أقل بقليل من الدرجة المشار إليها أنفاً، حتىأصبحت طاقة الجملة غير كافية لتشكيل كواركات وكواركات مضادة جديدة، في حين أنَّ ماهو موجود منها استمر بالتفاني شفعاً شفعاً (زوجاً زوجاً)، وبأعداد كبيرة، الأمرالذي استدعى وصف هذه المرحلة بِـ ((مذبحة الكواركات)) التي لم تتوقف إلاَّعندما انخفضت درجة الجملة إلى ما دون ألف مليار (أي 1210) درجة مطلقة.

سادساً:عندما أصبح عمر الكون جزءاً من عشرة آلاف (أي 10-4) من الثانية، أصبح حجم الكون (نتيجة التوسع الذي تقارب سرعته سرعة الضوء) بحجمالمنظومة الشمسية الحالية، وبدأت الكواركات (التي نجت من المذبحة) بالترابط بعضاًببعض، لتشكل الباريونات Baryons، التي هي البروتونات والنترونات التي نشأت منالكواركين U وD. ولقد حدث الارتباط بفضل القوة النووية الشديدة، ممثلة برسيلهاالغليون Gluon (الغراء النووي) ويمكن القول أنَّ نواة أول عنصر (نواة الهدرجين أوالبروتون) قد تشكلت في هذه المرحلة.

سابعاً: ما إن مضت على ولادة الكون ثانية واحدة، وتبردت درجة الحرارة إلى بضعةعشرات مليار الدرجة، حتى توقف فناء الأنواع الثلاثة للنترينو، وهي:

نترينوالإلكترون ونترينو الميون، ونترينو التاو. ويعود أمر نجاة أنواع النترينو (التيكانت حتى هذه المرحلة تحت سيطرة القوة النووية الضعيفة) إلى التبرد المتزايد للكونالذي أدى (في النهاية) إلى إضعاف هذه القوة، الأمر الذي سبب انعتاق أنواع النترينوبأعداد كبيرة، كي تهيم في فضاء الكون حتى يومنا هذا. ولقد اتضح مؤخراً أنَّللنترينو كتلة ضئيلة جداً، خلافاً لما كان يظن بأنَّه عديم الكتلة.

ثامناً: عندما أصبح عمر الكون الوليد مئة ثانية، تبردتدرجة حرارة الجملة إلى مليار درجة مطلقة، مستوى أمكن فيه للبروتونات والنتروناتالارتباط بعضٍ ببعض لتشكل النواة الأولى [التي ولدت بعد نواة الهدرجين العادي (البروتون)، والثقيل أو الدوتِريوم (البروتون مرتبطاً بنترون)]، ونعني بذلك نواةالهليوم (جُسيم ألفا) التي تتألف من بروتونين ونترونين. لقد شهد الكون في هذهالمرحلة إذاً ولادة هذه النواة، المتراصة البنيان، والشديدة الثبات (يرجع إلىالفقرة 1، 3، 4). وتعد ولادة نواة الهيلوم الحدث المهم والمميزة لهذهالمرحلة.

والأمر الغريب حقاً أنَّه لم يحدث في الكون (خلال الثلاث مئة ألفالسنة التالية التي أعقبت المئة الثانية الأولى) إلاَّ القليل:

زيادة هامشيةفي التوسع المنفعل للكون، وتبرد الكون أكثر فأكثر، لتصبح حرارته آلاف الدرجات،وامتزاج أوسع للهدرجين بالهليوم، وولادة بعض نوى العناصر الخفيفة (الليتيوموالبيريليوم والكربون - يرجع إلى الفقرة 1، 3، 3). كما تولد الإشعاع المعروفبأشكاله المختلفة، وفيض من الإلكترونات، وتحررت الفوتونات من البلازما البدئية التيتشكل مادة الكون.

تاسعاً:بعد مرور ثلاثمئة ألف سنة، عاد التطور الموجه ليأخذ مجراه من جديد، إنما بثوب آخر. فالكون شفيفصاف، شفوفية وصفاء ما بعد المخاض الأعظم. ويغمر هذه الشفوفية ضياء باهر آخاذ، نجمعن تباطؤ امتصاص الإشعاع الذي هدأت ثورته، ودُجِّنت شدته، فتوقف عن تحطيم الذراتالآخذة بالتشكل. ذلك أن تبرد درجة حرارة الكون أتاحت للنواة أسر الإلكترونات، لتبقىهذه في كنف النواة، تدور في فُلكها، وإلى الأبد. وهكذا، بدأت العناصر المعدنيةبالتشكل.

عاشراً:يُتفق عامة على أنَّالكون ظل على هذه الحال مدة مليار عام، حيث أخذت بعدئذ المجرات بالتشكل بدءاً منالهدرجين والهليوم والركام (الغبار) الكوني. ومنذ ثلاثة عشر مليار سنة والكون لايزال كما هو، علماً بأنه عانى توسعاً منفعلاً، يتراوح ما بين 5 و10 في المئة كلمليار عام (ولا يزال يعاني هذا التوسع المنفعل وفقاً لنماذج ((فريدمان))). لقد أصبحنصف قطر الكون الحالي القابل للرصد قرابة مليون مليار مليار (أي 2410) كليومتر، أيطول ((بلانك)) متبوعاً باثنين وستين صفراً (يبلغ طول ((بلانك)) جزءاً من مليونمليار مليار أي 10-33 من السنتي متر)، هذا ويلخص الجدول 1، 2 معالم سيرورات ولادةالكون وقد يكون من المفيد أن نعرض بإيجاز (في ختام هذا الفصل الخاص بالانفجارالأعظم، أو سفر تكوين الكون، أو ولادة ونماء الكون) لأمرين،

أولهماعلمي بحت تقريباً، ويتعلق بمدى وثوقية هذه الأرقامالممتعة والخلابة (في ما يتعلق بالرياضيين والفلكيين والفيزيائيين، علىالأقل).

وثانيهمايتعلق بمنطق سيرورات هذهالأحداث، التي أدَّت إلى ولادة ونماء الكون، وكما سنرى بعد قليل، فإن الأمرينكليهما يخضعان لمبدأ واحد، يسوده المنطق نفسه.

أمَّا في ما يتعلق بمدىوثوقية هذه الأرقام [(مثلاً عندما نقول اللحظة التي تعادل جزءاً من مليار مليارمليار مليار من الثانية بخمس وأربعين صفراً، أو عندما نذكر درجة حرارة بلانك - مئةألف مليار مليار مليار (أي رقم واحد متبوعاً باثنين وثلاثين صفراً)، أو طول بلانك - جزءاً من مليون مليار مليار مليار من السنتي متر)، أو نصف قطر الكون (مليون مليارمليار كيلومتر)]، فمن حقنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الأرقام (المتطرفة في صغرهاوفي كبرها) قد حددت فعلاً بالقياس التجريبي؟

إن الإجابةعلى هذا التساؤل سيكون قطعاً بالنفي.

ولكن يمكنالتأكيد (بالمقابل) أنَّ هذه الأرقام صحيحة بوثوقية عاليةلسببين:

الأولمنهما أنَّها أتت نتيجةمعالجات رياضية فيزيائية، انطلقت إما من نماذج تجربية أو نظريةمنطقة.

فمثلاً، عندما نقول إن أصغر طول في الطبيعة لا يمكن أن يقل عن طول ((بلانك))، ذلك لأنه يمكن للفيزياء النظرية أن تبرهن على أن الجُسيم الذي يقل طولهعن طول ((بلانك))، يتحول إلى نقطة كمومية (نقطة من الطاقة) تبتلع نفسها.

أماالسبب الثانيفهو استقرائي، انبثق عن تفسير النتائجالتي أتت بها المسرعات الهائلة، التي تستطيع تحويل الطاقة إلى مادة وفقاً لمعادلة ((آينشتاين)) (E=mc2) التي ذُكرت غيرة مرة، والاستنتاجمن ذلك أنه في مستوى معين من الطاقة، يمكن حساب زمن ولادة الجُسيمات الأولية (الكواركات واللبتونات وغيرها)، وزمن فنائها، ودرجات حرارة تكونها، وغير ذلك منمعالم أساسية في سفر تكوين الكون. وبالإضافة إلى المسرعات الضخمة، نشير أيضاً إلىالمسابير الفضائية (التي ذُكرت سابقاً)، التي استطاعت أن تحدد فروقاً في درجاتحرارة الجزر الكونية (من مجرات وسدم) تصل، كما رأينا، إلى ثلاث مئة جزء من مليونجزء من الدرجة، وإلى فروق في الكثافة البدئية تصل إلى جزء من 100000 جزء. كما أنالصور الرائعة، والمعطيات الكثيرة التي يرسلها مقراب ((هَبْل))، تتوافق تماماً معنموذج الانفجار الأعظم (النموذج المعياري) وسيرورات ولادة الكون، كما عرضنالها.

وأخيراً، لابدَّ من التأكيد أن ميكانيكالكم (دراسة الجُسيمات العنصرية أي دون الذرية، التي لا تأبه ببنية الجسم ككتلة)،وثقالة ((نيوتن))، ونسبية ((آينشتاين)) (دراسة الأجسام الكِبرية، بدءاً من جسمالإنسان حتى النجوم والمجرات، التي لا تأبه بالبنية دون الذرية لهذه الأجسام)، إنَّهذه العلوم قدمت كلها براهين عديدة كافية، على صحة نظرية الانفجارالأعظم.

وكما سنعرض لاحقاً، يمكن إنشاء جُسيمات عنصرية في الجيل الحالي منالمسرعات (التي تبلغ طاقتها 400 جيف، أي 4×1110 إلكترون فولط، أي ما يعادل 4×1510درجة مطلقة - إنَّ كل درجة حرارة مطلقة تساوي 0.00086170 إلكترون فولط؛ أي ثابتة ((بولتزمان))).

ومن المؤمل أن تصل طاقة الجيل القادم من المسرعات إلى بضعةآلاف غيف. ومع أنَّه يستحيل حالياً بناء المسرع الذي يستطيع أن ينتج طاقة تزيد على 2810 إلكترون فولت (الطاقة، التي حدث فيها الانفجار الأعظم) لأنَّ حجمه سيقارب حجمالمنظومة الشمسية، فإن نظرية الانفجار الأعظم قد تجاوزت الحاجة (لإثبات صحتها) إلىهذا النوع من البراهين الفلسفية، وأصبحت تقدم هي نفسها فرضيات يتم التثبت من صحتهايوماً بعد يوم.

وإذا كان من الصعب إيجاد موقع معقول بالنسبة إلى معاييرنالرقم مثل 10-45 ثانية في سلم عمر الكون (13 مليار سنة تقريباً)، علينا أن ننظر إلىهذا الرقم، وإلى درجة حرارة مطلقة تبلغ 3710 كلِفن، وإلى طاقة تبلغ 3310 إلكترونفولط، وإلى طول يبلغ 10-33 سنتي متر، على أنَّها معالم متفردة، كتفرد الانفجارالأعظم نفسه. إنَّها جزء من هذا الحدث، الذي يستحيل على الإنسان إحداثه. إنَّ هذهالأرقام تغدو دونما معنى إذا ما وضعت خارج إطار حدث الانفجار الأعظم، تماماً كمايحدث لسيرورات التطور الثلاث المختلفة (الفيزيائي الفلكي، والفيزيائي الكيميائي،والبيولوجي) إذا ما وضعت خارج إطار المبدأ البشري، ونشوء حياة ذكية على سطح الأرضيكون فيها الإنسان خليفة الله. أما الأمر الثاني الخاص بمنطق سيرورات أحداث ولادةالكون، فيرتبط أمر معالجته بما ورد في مقدمة هذا الكتاب.

إننا نعود لنؤكديقيننا بأنَّ هذه السيرورات كانت موجهة، وأنَّها خضعت لمنطق ذي معنى، منظم للشوشوالفوضى، ويناقض الأنتروبية من حيث النزوع إلى الانتظام، ويستولد من الأبسط بنية ماهو أعقد تركيباً، ومن القل كفايةً وأداءً، ما هو أرفع فاعلية وأنجع فائدة للمعنىالمنشود. ويمكن القول أنَّ الكون كان ولا يزال (منذ ولادته وحتى الآن، وربما إلىالأبد)، وبسبب من هذا التطور الموجه، في صراع دائم ضد الفوضى (ضد الأنتروبيةوالشوش)، يشبه تماماً صراع الخير ضد الشر. لقد كانت المرحلةُ الواحدة (كتكون الكائنالحي) نتيجةً لما سبقها، وأساساً لما سيتبعها. إنَّ ولادة مادة الكون من الركامالكمومي، ونشوء القوى الأربع للطبيعة، وتشكل مادة العناصر، والتوسع المنفعل للكون،وتبرده، وأشعته الثمالية، ومستحاثاته من فوتونات وهليوم، وعتامة فضائه، أتت كلهاكحلقات منطقية التسلسل لسفر نشوء كون في لحظة ليس لها ما قبلها، أو على الأقل يصعبالبرهان على وجود أمس لها. إنَّ هذه القرائن كلها تؤكد وجود لحظة أُنجز خلالها ماخُلق، وأُمر ما خُلق بالالتزام بالقوى التي خُلقت، وباحترام القوانين التي تفرضهاهذه القوى. وكما سنرى في القسم الثالث من هذا الكتاب (التطور البيولوجي)، فإنَّحدوث هذا التطور الموجه ذي المعنى استدعى ظهور حياة ذكية على كوكب الأرض، أُعطيتمسؤولية احترام ما خُلق.

وكما كنا أكدنا في المقدمة، فإنه لا دورة للمصادفةأو للضرورة في هذا التطور الموجه. وكماقال أناتولفرانس:

((إنَّ المصادفة هيالاسم المستعار للإله عندما لا يرغب في توقيع اسمهالصريح)).

((إنالإنسان خليفة الله في الأرض))، أعطى هذا الكون وهذا الوجود معنىحقيقياً (إيماناً وعلماً).

ولولا وجود الإنسان، يغدو الكون القابل للرصد (5% مما هو موجود)، وتغدو بقية الوجود (المادة الباردة السوداء، والطاقة الممتعة اللتانتشكلان 95% مما هو موجود وغير قابل للرصد))، يغدوان بلا معنى.

من كتاب موجزتاريخ الزمن.