تأليفه لكتابه " الرسالة " وأهميته: أصبح من عادة الشافعي أن يجلس في الحرم عند بئر زمزم حيث كان يجلس الصحابي الجليل شيخ المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
وبدأ يؤلف في مكة كتابه " الرسالة "، وكان صيته العلمي في هذا الوقت يطبق الآفاق في مختلف أنحاء البلاد و مقاطعات الدولة الإسلامية الشاسعة، فيأتيه طلاب العلم والمعرفة من أقصى الأماكن وكان من هؤلاء أحمد بن حنبل الذي كان تلميذاً للإمام ابن عيينة إمام الحديث في عصره في المسجد الحرام. وابن عيينة كان يروي جلّ أحاديثه عن الزهري وهو أعلى الأسانيد، فكان الناس يغشون مجلسه. و لكن الإمام أحمد لما علم بمجلس الشافعي وسمع منه ترك مجلس ابن عيينة وأصبح يغشى مجلس الشافعي فلما سئل عن ذلك قال: إنك إن فاتك الحديث بعلوّ تجده بنزول ولا يضرك ذلك أما إن فاتك عقل هذا الفتى -يقصد الشافعي- فإني أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيتُ أحداً أفقه بكتاب الله تعالى من هذا الفتى القرشي. و كان أحمد يقول: كان الفقه مقفلاً على أهله حتى فتحه الله للإمام الشافعي. قال الحسن بن محمد الزعفراني: كنا نحضر مجلس بشر المريسي المعتزلي القدري المُناظر البارع وكنا لا نقدر على مناظرته فسألنا أحمد بن حنبل فدلَّنا على الشافعي، فسألناه شيئاً من كتبه فأعطانا كتاب اليمين مع الشاهد فدرسته في ليلتين ثم غدوتً على بشر المريسي وتخطَّيتُ إليه فلما رآني قال: ما جاء بك يا صاحب الحديث؟ قال الحسن الزعفراني: ذرني من هذا، ما هو الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟ فناظرته فقطعته فقال: ليس هذا من كيسكم ، هذا من كلام رجل رأيتُه بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا. وكان بشر المريسي لما رأى الشافعي المفتي في مكة يحدِّث قال لأصحابه المعتزلة : إني لا أخاف عليكم من أحد و لكني أخاف عليكم من هذا الفتى فإنَّ معه نصف عقل أهل الدنيا.
والذي يدعو إلى الإعجاب أن يكون الشافعي كتب هذه الرسالة في أصول الفقه وهو شاب و كان قد طلبها منه إمام المحدِّثين في بغداد لكي يستفيد منها هو وغيره من كبار العلماء في كيفية فهم النصوص. ولما كتب الشافعي الرسالة ووصلت إلى إمام المحدثين في بغداد، جعل يتعجب ويقول: لو كانت أقل لنفهم.
وقال الإمام المزني: قرأتُ الرسالة خمسماية مرة، ما من مرة إلا واستفدتُ منها فائدة جديدة . وفي رواية عنه قال: أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أني نظرتُ فيها مرة إلا واستفدتُ شيئاً لم أكن عرفته.
كتاب " الرسالة " هو مقدمة ضخمة لكتابه " الأم " مثل مقدمة ابن خلدون لكتابه " تاريخ الأمم والملوك "، ومقدمة ابن خلدون ليست كتاباً مستقلاُ وإنما هي مقدمة لموسوعة تاريخية ولأهمية هذه المقدمة طُبِعَت طبعاً مستقلاً واُفرِدَت باسم مستقل وأصبحت مقدمة ابن خلدون اسم مستقل تماماً وكذلك كتاب " الرسالة " فهو في أصله عبارة عن مقدمة كبيرة وواسعة جداً لكتاب " الأم " وهو عبارة عن سبعة أجزاء، إلا أنَّ " الرسالة " فيما بعد أُفرِدَت بالطباعة وأصبحت عبارة عن كتاب مستقل لأنه يحوي علماً مستقلاً، وقد تضمَّن ما يلي:
أولاً: بيان أنَّ أي علم شرعي لا بد أن يدور على فلك نص مأخوذ من الكتاب أو السُنَّة. ثم أكَّد أهمية وحجية حديث الآحاد (وحديث الآحاد هو الحديث الذي يرويه صحابي واحد أو اثنين أو ثلاثة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) وقد ذكرنا طرفاً من ذلك من قبل، واستدلَّ على حجية الآحاد بأدلة كثيرة منها:
- أنَّ الله تعالى حينما أنزل في القرآن الكريم تحويل القِبلة من المسجد الأقصى إلى مكة المكرمة، جاء صحابي وأخبر الصحابة الذين كانوا يصلّون في مسجد ذي القِبلتين فاستداروا وهم في الصلاة، فإذاً أخذوا بخبر الواحد!.
- حينما أنزل الله تعالى آية تحريم الخمر، أخبر صحابي باقي الصحابة بذلك، فانتهوا وألقوا خمورهم.
- إنَّ النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن ليبلِّغ عنه ولقد أخذ عنه أهل اليمن.
إنَّ الله عز وجل قد أمرنا أن نأخذ بقول الشاهدين وهما من الآحاد.
وهذا الأمر أي حجية حديث الآحاد لم يخالف فيه أحد من الأئمة الأربعة وإنما اختلفوا في نسخ الآحاد للقرآن أي هل ينسخ حديث الآحاد حكم آية من كتاب الله تعالى وهل يخصص هذه الآية أم لا؟.
وكان قد ظهر في عصر الشافعي من يدَّعي أنه يأخذ بالقرآن الكريم وحده ويدع العمل بالحديث الآحاد وهم من الزنادقة، فردَّ عليهم الشافعي رداً مفحماً وسمّيَ بذلك " نصير السُنَّة النبوية ".
ثم عقد الشافعي باباً سمّاه " الدلالات " أي كيف تدل النصوص على معانيها سواء كان المفهوم الموافق أو المفهوم المخالف و كيف نستخرج قواعد القياس على نص في كتاب الله تعالى.
وأوضح البيان، أي كيف يمكن أن يكون القرآن بعضه بياناً لبعض وأنّ النص قد يكون عامّاً وقد يكون خاصاً وقد يكون مطلقاً وقد يكون مقيَّداً. والنص المطلق يمكن أن يأتي نص آخر في المعنى ذاته فيقيِّده و يفسِّره.
وأوضح أيضاً فيما إذا كان يمكن للسُنَّة أن تخصص القرآن العام أو أن تقيِّده وهل يصح العكس.
باختصار كتاب " الرسالة " هو عبارة عن مفاتيح لكيفية فهم الأحكام من النصوص. وقد كان المجتمع آنذاك يفتقر إلى هذا العلم ولم يكتب فيه أحد قبلاً ، صحيح أنَّ الإمام أبو حنيفة والإمام مالك كل منهما بنى فقهه على أصول ومبادىء و لكن هذه المبادىء لم تسجَّل ولم يُصرَّح بها كلها بل إنَّ تلامذتهما هم الذين استنبطوا الأصول من فروع المسائل. والذي أعان الشافعي على هذا العلم علم استنباط الأحكام من النصوص فضلاً عن كونه عالماً بالفقه والحديث وبلوغه درجة قصوى من الذكاء، هو أنه عاش في البادية عشر سنوات حيث أخذ الطبيعة العربية والسليقة العربية من ينبوعها، فكان يعلم كيف يفهم الرجل العربي الجملة وكيف يأخذ المعنى إثر المعنى من الجملة الواحدة، ومما جعل من الشافعي حجةً في اللغة.
مواقع النشر (المفضلة)