«البيغ بانغ» في قصر الحمراءأمجد ناصرتناقلت الصحف الأجنبية، والعربية بالتالي، خبراً عن قيام فريق إسباني بمسح كتابات ‘’قصر الحمراء’’ بغرناطة.
قاد الفريق الباحث خوان كوستيلا الذي أمضى، مع فريقه، بضع سنين متتبعاً كل كلمة كتبت على جدران وسقوف وممرات ذلك القصر العجيب.
النتيجة: إحصاء ما يقرب من عشرة آلاف نص بين شعر وآيات وأقوال سائرة، مستعينين بأحدث التقنيات من آلات تصوير رقمية وآلات مسح ثلاثية الأبعاد، في إنجاز ثلث العمل.. حتى الآن.
وقال كوستيلا إن واحدة من المفاجآت كانت أن جدران قصر الحمراء تحمل عددا أقل من الآيات القرآنية وأبيات الشعر مما كان يعتقد.
‘’كانت هناك فكرة خاطئة تفيد أن قصر الحمراء مزين بالآيات القرآنية والأشعار فقط’’.
ومن الكتابات التي تكررت مراراً كلمات بسيطة مثل ‘’النعيم الأبدي’’.
كاتب هذه السطور من الأشخاص الذين زاروا القصر وكتبوا عنه أكثر من مرة ولم تستوقفني سوى قصائد شعراء الحمراء وبعض الآيات القرآنية المكتوبة بخط كوفي عسير على القراءة. إذ إن فن الكتابة نفسه لم يكن، على ما يبدو، أقل أهمية لمن نقشوا تلك الخطوط من المضمون.
ما نعرفه عن قصر الحمراء قليل. أتذكر زيارة لي إلى تلك التحفة المعمارية عندما وقفت مذهولا في ‘’صالة الشقيقتين’’. الفن والعلم هنا يمتزجان في الجناح نفسه. إذا رفعت نظرك إلى الأعلى ترى قبة مثمنة توحي بموجاتٍ صادرةٍ من السقف. يقول الباحث الإسباني رامون هيرنانديث ماثياس إنها مثال ناصع على أستاذية البناء الذي ابتدع هذا الأسلوب المعماري، حيث تقنن الزيادة الطبيعية حجم التمدد والدفع من القبة والجدران بصورة منتظمة من خلال الزوايا الأربع ليتم التفريغ عن طريق الأرض من دون حاجة إلى استعمال الأقواس والتقويات الخارجية التقليدية التي عرفتها الهندسة المعمارية القوطية في القرن الرابع عشر.
إن دراسة رسومات سقف ‘’قاعة العرش’’ تؤكد لنا أن الفنان المسلم حاول، عن قصد ورغبة، وضع مفهوم الخالق فوق جميع الأغراض والصفات المادية واستخدم لهذا الغرض تصميماً لكون كوكبي يتكون من مئة وخمسة أشكال سيارة يتموضع مركزها الهندسي وسط عقدة القبة الرئيسية وبذلك جعل العوالم الفلكية، كافة، تسبح بانتظام دقيق، وفق مشيئة ربانية حكيمة، فالله هو ‘’الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم’’.
التفسير لا ينتهي هنا. فإذا تأملنا السقف الخشبي المزين، على ضوء العلوم الحديثة وبالذات وفق نظرية الاتساع الكوني (البيغ بانغ)، لشعرنا بأنَّ فنان ‘’قاعة العرش’’ نصب لنا شركا حسياً،
ذلك أن السقف، إن كان يوحي لمن يعاينه من الأسفل ببعد موطن الروح الإسلامية، فهو، في الوقت نفسه، يوحي بمعنى آخر،
إذا ما اعتبرنا العقدة المركزية نقطة البداية التي تطايرت منها المواد الأولية، إثر انفجار بركاني هائل قبل أن تجمد، فيما بعد، في كواكب ونجيمات تدور في أفلاك مستقرة حول نقطة البدء. هذا كلام عن نظرية علمية لا ندري كم كان فنان ‘’قاعة العرش’’ الغرناطي يحدس، من لحظته في العصور الوسطى، بولادتها في القرن العشرين على يد قس بلجيكي.
ليس غريباً، بالطبع، أن تسبق الفنون العلم، بل أن تسبق حدوس الفنانين نظريات العلماء.
يعترف الباحث الإسباني أن سوء النية والعداء السافر للعرب وللمسلمين اجتمعا، بعيد سقوط الممالك العربية في إسبانيا، ليشكلا ستاراً حاجباً حال من دون تقدير تلك الحلقة من الحضارة الإنسانية الراقية حق قدرها.. بل دون اعتراف إسباني رسمي بأن الإرث العربي الإسلامي في الأندلس يشكل أحد المكونات الفارقة في شخصية إسبانيا.
تزوغ عيناك لفرط الجماليات الموزعة على سقوف وجدران قصر الحمراء. كل هذه القاعات والباحات والأروقة مشغولة بالسنتيمتر المربع. السيراميك الذي يسطع فيه اللونان الفيروزي والأخضر. الخشب الكريم المحفور. الحجر المنقوش. المرمر المطعم والمشغول. نوافير المياه والبرك التي تعطر الجو بأنفاس بليلة تكافح الحرارة المندفعة من الخارج. كل ذلك في إطار مزيج حساس ومتناغم من لقاء الهندسة بالفن، التشكيل بالكتابة، مجد الإنسان وزواله في آن. فالشعار النصري، لازمة الحمراء الشهيرة، يكرر التقبل الضمني لفكرة الزوال على نحو لا يمكن للناظر تفاديه: ‘’لا غالب إلا الله’’.
فهل تكشف بحوث الفريق الإسباني وترجماته لنصوص الحمراء بعدا آخر لم نكن نعرفه عن القصر غير قصائد ابن الجياب ولسان الدين ابن الخطيب وابن زمرك؟ لا أدري ولكن يبدو أن علينا اكتشاف إرثنا عن طريق غيرنا. فكم شتمنا المستشرقين والمستعربين الذين لولا جهود بعضهم العلمية، أو حتى ‘’التجسسية’’ لضاع قسط كبير من الموروث العربي الإسلامي.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة العبقري %
مواقع النشر (المفضلة)