العبقرية هبة طبيعية تشوبها مسحة من الجنون


العلاقة بين المرض العقلي والإبداع
روجر دوبسن
من اللمحة الاولى سوف يبدو ان اناساًَ مثل اينشتاين وسلفادور دالي وتوني هانكوك وبراين ولسون لا يملكون الكثير من الخصائص المشتركة التي يملكها الناس العاديون، فمجالاتهم في الفيزياء والفن الحديث والكوميديا وموسيقى الروك تبعد بمسافات توازي سنين ضوئية،

اذن ما هو الشيء الذي من الممكن ان يربط العقول التي اعطت للعالم النظرية النسبية والفن السريالي البديع والمسلسلات الهزلية واغاني عن رياضة ركوب الامواج؟
وحسب نتائج بحث جديد، فان الاضطراب العقلي قد يكون هو السبب، فالعقول المبدعة في كافة المجالات، من العلم الى الشعر ومن الرياضيات الى الفكاهة، ربما كانت لها سمات متعلقة بالاضطراب العقلي. ربما تسمح مثل تلك السمات باجراء عمليات فكرية غير اعتيادية واحيانا شاذة متعلقة بالمرض العقلي لتغذية الابداع. تعتمد النظرية على فكرة تشير الى عدم وجود خط فاصل واضح ما بين الاصحاء عقليا ومن لديه مرض عقلي. وبالاحرى، يوجد هنالك تواصل مع بعض الناس الحاملين لسمات الاضطراب العقلي بدون ظهور اعراض تشير الى الضعف والوهن.ان الامراض العقلية كانت موجودة منذ الاف السنين، وتعطي نظرية النشوء ايحاء بانه لاجل استمرار بقاء اصحاب الامراض العقلية، فينبغي ان توفرلهم تلك الامراض نوع من الفائدة تخدمهم لاجل بقائهم على قيد الحياة، واذا كانوا غير جيدين تماما، فالمسالة ستخضع للجدل، كون الاختيار الطبيعي قد تصورهم مقضياً عليهم منذ امد بعيد. وفي بعض الحالات تكون الفائدة واضحة، فالقلق النفسي على سبيل المثال ممكن ان يكون مرضاً عقلياًَ بوجود اعراض ونتائج شديدة، ولكنه يمثل ايضا سمة عندما يكون في مستوى غير طبي حيث يحمل فوائد للبقاء على قيد الحياة وفي النسب الصحية المعتادة، فالقلق النفسي يعمل على ابقائنا يقظين بحذر شديد بحيث نقف على رؤوس اصابعناعندما نشعر بالرعب.
يتزايد الان الجدل ايضا حول وجود فوائد تخدم البقاء على قيد الحياة لاشكال اخرى من المرض تصيب البعض، لوجود روابط ما بين السمات المتعلقة بتلك الامراض والابداع." من الممكن ان تكون الامور صعبة على الناس لتسوية المرض العقلي انطلاقا من الفكرة القائلة بان تلك السمات ربما لا تكوّن شيئا يدل على العجز. وبينما يتقبل الناس فكرة وجود فوائد صحية من القلق النفسي، فانهم يشعرون بقلق اكبر من حالات انفصام الشخصية والاكتئاب الاهتواسي" كما يقول البروفيسور غوردن كلاريدج، وهو بروفيسور بعلم نفس الشواذ في جامعة اوكسفورد، الذي حرر طبعة خاصة من مجلة الاختلافات الشخصية والفردية، ركز النظر فيها على العلاقة بين المرض العقلي والابداع. ويضيف كلاريدج:" يوجد الان شعور بان تلك السمات قد تمكنت من الاستمرار حية لانها تملك بعض الخصائص الثمينة التي تمكنها من التكيّف. وعندما يكون المرء في حالة انفصام شخصية بمستوى معتدل او في حالة اكتئاب هوسي معتدل فهي تجلب له مرونة في التفكير وانفتاحاً مع تصرف يحمل معه المخاطر بحيث يمتلك المرء من خلاله خصائص التكيف الثمينة اللازمة لخلق الابداع، والثمن المدفوع مقابل الحصول على تلك السمات هو ان البعض سيصاب بالامراض العقلية".
يشير البحث الى دعم فكرة ان الناس المبدعين هم على الارجح الاكثر امتلاكا للسمات المتعلقة بالمرض العقلي. ووجدت احدى الدراسات ان حدوث حالات الاضطراب المزاجي والانتحار وعدم مقدرة المرء العيش بمفرده كانت اكثر بعشرين ضعفا بين الشعراء البريطانيين والايرلنديين المعروفين في فترة امتدت لـ 200 سنة حتى عام 1800. وبيّنت دراسات اخرى بان المرضى النفسيين يؤدون الاختبارات العقلية النظرية بصورة افضل، ووجدت دراسة اخرى، اجريت على 291 من الرجال البارزين والمبدعين في مختلف المجالات، بان 69 بالمئة منهم كان لديهم اضطراب عقلي من نوع ما، وكان العلماء اقل تاثرا، بينما الفنانون والكتاب فقد كانت تشخيص حالة الاضطراب العقلي عندهم مرتفعة.
لا يعود السبب للمرض
يقول ايميلي كلايزر، وهو باحث بعلم النفس وكاتب في احدى صحف جامعة اوكسفورد،:" يتفق اغلب المنظرين بان السبب لا يعود الى الاطار الكامل للمرض نفسه، ولكن الاشكال المخففة من الاضطراب العقلي التي تمثل جذر العلاقة ما بين الابداع والجنون، وان السمات الكامنة والمرتبطة بالحالات المعتدلة للامراض النفسية تعمل على تعزيز القابلية الابداعية، وفي الحالات الشديدة تكون مضعفة للمريض".
تبيّن البحوث ايضا ان السمات المتعلقة بالامراض العقلية المختلفة لديها تاثيرات مختلفة على الابداع، فالابداع الذي كان مطلوبا لتطوير النظرية النسبية، على سبيل المثال، يختلف كثيرا عن الابداع المطلوب لانتاج الرسوم السريالية او الشعر.
وتدور البحوث الان حول هل ان الاضطراب العقلي المتعلق بانواع مختلفة من الابداع تاتي من خلال سمات الانفصام الشخصي او سمات الاكتئاب الاهتواسي او ما يشابهه من امراض، ام من سمات متعلقة باضطرابات ناتجة من مرض التوحد والعدوانية. ووجدت دراسة اجرتها جامعة نيوكاسل وجود اختلافات مهمة بين الناس المبدعين في مجال الفنون والمبدعين بمجال الرياضيات، فبينما يظهر الفنانون سمات مصاحبة لحالة انفصام الشخصية، لا يظهر علماء الرياضيات ذلك، وهذا يتوافق مع الفكرة التي تشير الى ان الرياضيات وعلم الهندسة، اللتين تستلزمان الانتباه للتفاصيل، هما اقرب الى سمات التوحد اكثر من الاضطراب العقلي.
يقول كلايزر:" الاضطراب المؤثر يخلد الابداع في حدود طبيعية، بينما الشخص الذي يحمل سمات انفصام الشخصية هو عرضة لمواجهة شعور بالعزلة عن العالم، ومتحرر من التحديدات الاجتماعية وقادر على تامل اطارات عمل بديلة لينتج ابداعا بداخل اطار ثوري. فتوجه نيوتن واينشتاين المتسم بانفصام الشخصية، على سبيل المثال، مكّن طابعهما الثوري من فرض اثره على العلوم".
ان الصور النمطية للعلماء كونهم مجانين يعملون بمفردهم مفضلين دوارق الاختبار على الاصدقاء ويملؤون سجلاتهم بكتابة ما توصلوا اليه تعكس المفهوم العام عن العلماء بكونهم عباقرة يحملون صفات الانعزال والانطوائية والافراط في الاستحواذ، ولكن هذا المفهوم يعود الى زمن ابعد من ذلك بكثير وتحديدا الى 2000 سنة مضت حينما كتب الفيلسوف الروماني سينيكا في روما شيئا اوضح فيه رايه حول هذا الامر، حيث قال:" لا يوجد عبقري عظيم بدون مسحة من الجنون".
الممثلون الهزليون والكآبة
اسمعتم عن الرجل الذي ذهب الى الطبيب لطلب مساعدته بالتخلص من حالة الكآبة لديه؟ لقد تم اخبار الرجل بالذهاب لمشاهدة عرض مسرحي لممثل هزلي معروف جدا يتمكن من جعله يضحك ويرفع روحه المعنوية." لكنه انا" قال الممثل الهزلي، " انا هو الممثل الهزلي الذي اشرت اليه".
النكتة المنسوبة الى رود مارتن مؤلف كتاب "علم نفس الفكاهة_ منهج اندماجي"، هي من النكات التي يفضلها الممثلون الهزليون الذين يعرف عنهم كونهم عرضة للكآبة، من توني هانكوك وسبايك ميليغان الى ستيفن فراي وباول ميرتن.
هنالك نظرية تفيد ان الفكاهة هي حالة مطوّرة كرد فعل على الكآبة، وهي تعمل كآلية موازنة، وتشير احدى الدراسات التي اجراها مارتن على 55 ممثلاً هزلياً و14 ممثلة هزلية من المشاهير الناجحين، وجد بان الممثلين الهزليين يميلون الى ان يكونوا مغالين في ذكائهم وغضبهم وشكوكهم وكآبتهم.بالاضافة الى ذلك، فان بداية حياتهم كانت تتميز بالمعاناة والعزلة والشعور بالحرمان، ويقول مارتن ان هؤلاء الممثلين الهزليين كانوا يستخدمون روح المرح والفكاهة كوسيلة يصدون بها القلق النفسي، ومحولين شعورهم بالغضب المكبوت من العدوان الجسدي الى العدوان اللفظي. " ان المهارات الهزلية المطلوبة لاعتلاء مهنة ناجحة ربما تطورت بصورة تامة كوسيلة للتعويض عن خسارات وصعوبات نفسية سابقة".
كما يقول مارتن. ولم تجد دراسة اخرى مستويات اكثر ارتفاعا، على الرغم من ان الممثلين الهزليين كان لديهم استغراق سابق باهداف الخير والشر وعدم الاستحقاق واستصغار النفس والواجب والمسؤولية.
وكما يقول غوردن كلاريدج:" يبدو ان نسبة مهمة من الممثلين الهزليين يعانون اكثر مع الكآبة، ويبدو ان الهزل يتحرك بطريقة بحيث يتعامل مع الكآبة.
انا اعتقد بوجود اسلوب عاطفي وادراكي بحيث يتماشى جنبا الى جنب مع هذه الاضطرابات الناتجة عن الكآبة والتي تعمل على تغذية الابداع".
لم يكن سلفادور دالي فقط فنانا كبيرا، فهو التقى ايضا مع معايير لعدة تشخيصات بوجود اضطرابات عقلية كانت عبارة عن خليط من انفصام الشخصية والكآبة.
وربما كان قد تعرض ايضا لجنون الاضطهاد، وكذلك كان لديه اضطرابات بسبب معاداته لمصلحة المجتمع ولتكلفه ولنرجسيته.
وتقول كارولين ميرفي من جامعة اوكسفورد:" ان دالي ومساهماته في تأريخ الفن القت الضوء على فكرة تشير الى ان الامور غير الطبيعية ليست بالضرورة اشياء لا يمكن تقبلها، او يجب رفضها بكل سهولة كونها علامة على وجود مرض عصبي، وبدون وجود عدم الاستقرار الذي كان عليه دالي، فربما كان من غير الممكن له ان يبتدع الفن العظيم الذي انجزه
ص الصباح