تطور الفيزياء في الإسلام

كانت إسهامات المسلمين في الفيزياء ذات نسق متطور، ونظرا لنبوغهم في العديد من العلوم المرتبطة بهذا العلم مثل الفلك والهندسة الميكانيكية وغيرهما فإن ابتكاراتهم قد تتداخل فيها هذه العلوم، ففي علم الآلات أو ما كان يطلق عليه علم الحيل كان تقدم المسلمين لافتا، وأبدعوا فيه وطوروا ما ورثوه، فآلة الإسطرلاب التي تُستخدم لقياس مواضع الكواكب وتحديد سيره، ومراقبة أحوال الجو وشؤون الملاحة قد ذكر الخوارزمي نحو خمس وأربعين طريقة لاستعمالها.

كما كان الإسطرلاب الموضوع الرئيسي لأبي إسحق الزرقالي الطليطلي في كتابه (الصفيحة الزيجية)، ودخل إلى أوروبا خلال القرن العاشر وظل معمولا به حتى القرن السابع عشر، وأطلق المسلمون على الإسطرلاب أسماء عديدة كان منها الطوماري والهلالي والقوسي والجنوبي والمسرطق والمبطح وحق القمر.. الخ من الأسماء التي ظلت معمولا بها، وقد كتب في التعريف بها كتب ورسائل عديدة.

وقد عرف المسلمون آلات عديدة من الممكن أن يستعين بها العلماء في معرفة درجات الطول والعرض وحركات النجوم، وكان خير من أسهم في ذلك تقي الدين بن محمد بن زين الدين، ومن هذه الآلات: اللبنة والحلقة الاعتدالية وذات الأوتار وذات الحلق وذات السمت والارتفاع وذات الشعبتين وذات الجيب والربع المسطري وذات الثقبتين..

ثم ظهر لدى المسلمين ما هو أروع وأكثر تقدما في مجال الآلات فصنعوا الربع الحائطي: أو Mural Quadrant وهي آلة للقياس أيضًا، هي أشبة بلوحة كبيرة على حائط مكتوب عليها: تدرج ب 90 درجة، أي ربع ال360 درجة المكونة للدائرة، وأنواع مختلفة من آلات القياس والأرباع، منها الربع السمتي، والربع ذو الثقب الذي اخترعه ابن يونس المصري عام 981م، ثم جاء ابن الشاطر وأثبت أن هناك بعض الآلات الفلكية التي تحتاج لتطوير لتعطي نتائج أكثر، ففعل وأدخل عليها تجديدات مبهرة، ثم توصل البيروني إلى استخدام الربع الحائطي بقطر، هذا فضلا عن مسدسات ومثمنات السطوح.

ثم برع المسلمون بعد ذلك في صناعة المزاول التي كانت الوسيلة الوحيدة لمعرفة الوقت، وأروع ما قدم المسلمون للعالم في هذا المضمار مجهوداتهم الرائعة على يد مهندسهم الفذ أبو الحسن علي، الذي وضع رسالة مفصلة غير مسبوقة في مزولة العرب، ونرى في هذه الرسالة لأول مرة خطوط الساعات المتساوية التي لا عهد لليونان بها، ويلوح لنا أن هذا الاختراع مدين لأبي الحسن نفسه، حيث يفصل صنع خطوط الساعات الزمانية المسماة بالقديمة والساعات المتفاضلة، ويحسب الخطوط العدسية ومحاور هذه المنحيات لتعيين عرض المكان، وينتفع في ذلك بالقطوع المخروطية لوصف أقواس البروج وبعد الشمس من خط الاستواء، وارتفاع ميل الساعة الشمسية.

ومن هذا نرى أن المسلمين هم أول من اخترع الساعات الشمسية التي كانت أداة فعالة في تحديد الوقت ووضع التقاويم الفلكية، ولم يقتصر المسلمون فى وضع هذه الساعات على اللون الشمسي كلا فقد كان هناك اللون المائي والزئبقي والشمعي والثقلي، وابتكروا أيضا الساعات الشمسية الدقاقة أي ذات الرقاص الدقاق.

ثم كان تفوق المسلمين المميز على يد صاحب العقلية الخارقة - على حد وصف المستشرق ساخو - وهو البيروني، الذي نقل الحضارة الإسلامية في علمي الفيزياء والجيولوجيا نقلة مؤثرة لا ولن ينساها التاريخ.

في بادئ الأمر كان تفوق المسلمين في هذا المضمار ملحوظا لا ينكر، وكانوا من الدقة في تقدير بعض الأجسام تقديرا يطابق ما عليه بعض الدراسات المعاصرة أو يقترب منها كثيرا، وقد وضعوا جداول دقيقة لبعض المعادن والأحجار الكريمة.

وكان المفتتح الممهد على يد أبي سهل الكوهي الذي عدل وصحح كثيرًا من مسائل اليونان الفرضية في هذا الإطار، ثم جاء ابن الهيثم في كتابه (ميزان الحكمة) بمقالته "مراكز الأثقال" حيث بحث في علاقة وزن الهواء الجوي بكثافة الهواء نفسه، وشرح نظرية تغير الجسم بتغير الهواء نفسه، وبحث في الأجسام الطافية في السوائل ونسبة ما ينغمس منها، كما بحث في المقالة عينها سقوط الأجسام وانجذابها نحو الأرض، وتحديد قوة انحدارها وتغيرها تبعا لازدياد البعد عن الأرض.

ويقول في رسالة بعث بها لأبي إسحق الصابي: "أما مراكز الأثقال فيبقى منها شيء يسير حتى تتم ست مقالات متوالية".

وقفَّى على أثره البيروني، حيث بهر عالم الأوزان النوعية بتجديداته التي لا تقل دقة عن الأوزان الحديثة، يقول جاك ويسلر: لقد قاس البيروني الأوزان النوعية وذلك باستخدام مقياس كثافة من اختراعه الخاص أسماه (الميزان الطبيعي)، ووضع على هذا المنوال المبدأ الذي يثبت أن الوزن النوعي لشيء ما يتناسب مع حجم الماء الذي يزيحه.

وهو الذي أثبت أيضا فى ميدان أكثر اتساعا للعمل حركة مياه الآبار الإرتوازية عن طريق مبدأ الأواني المستطرقة، ولا شك أن البيروني يُعَدُّ من السابقين فى ميدان تحديد الثقل النوعي لكثير من المعادن والأحجار تحديدًا لا يكاد يختلف كثيرًا - من حيث الدقة - من التحديدات الحديثة لنفس المواد التي أتى عليها، وقد عرف البيروني الوزن النوعي لثمانية عشر حجرا من الأحجار الكريمة والمعادن نذكر منها: الذهب والزئبق والنحاس والحديد والصفيح والرصاص والياقوت الأزرق..

ثم كانت إسهامات الخازني أبو الفتح عبد الرحمن من خلال كتابه ميزان الحكمة، وقد سبق فيه تورشللي إلى بحث وزن الهواء وكثافته والضغط الذي يحدثه، بل أشار إلى أن للهواء وزنا وقوة رافعة كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء، وبحث الخازني للكثافة جعله يتطرق إلى كيفية إيجادها للأجسام الصلبة والسائلة، واخترع ميزانا لوزن الأجسام في الهواء وفي الماء، وكان لهذا الميزان كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرج.

وأتى بعد ذلك ثابت بن قرة، وتحدث عن الجاذبية فقال: "زيد المدرة تعود إلى أسفل، لأن بينها وبين كلية الأرض مشابهة في كل الأعراض، أعني البرودة والكثافة، والشئ ينجذب إلى أعظم منه"، وقد شرح محمد بن عمر الرازي هذه العبارة في أواخر القرن السادس للهجرة فقال: "إننا إذا رمينا المدرة إلى فوق فإنها ترجع إلى أسفل، فعلمنا أن فيها قوة تقتضي الحصول في السفل، حتى إنا لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى أسفل.." وهذه التصريحات تشير إلى أن المسلمين أمعنوا العمل في مسألة الجاذبية فاستنتجوا من خلال قراءاتهم وتجاربهم نتائج مهمة، جعلت لهم السبق في هذه المسألة، وقد كان لدى المسلمين عدد غير قليل في آلات الروافع، من هذه الآلات المحيط، والمخل، والبيرم، والأسفين، واللولب والإسقاطولي.

ومما يشير إلى تعمق المسلمين والعرب في هذا الشأن تحليلهم لمبدأ الكون والحركة ويتضح ذلك من قول إخوان الصفا: "ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر في الأبعاد والأثقال من المنافع، ومن ذلك يظهر في القرسطون، أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر قصير قريب منه، فإذا عُلِّق على رأسه الطويل ثِقلٌ قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير تساوياً وتوازياً كانت نسبة الثقل القليل إلى الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق".
وبعد، فإن هذا كله يجرنا إلى الحديث عن إنجازات المسلمين في مجال الفيزياء، والذي هو على النحو التالي:
المصدر:
http://www.islamstory.com/article.ph...FQgVzAodKnS-FQ