قال الله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ()وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )

وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ() فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )

وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
حرب الله على أهل الربا
مما لا يخفى على أحد أن الأزمة المالية اليوم تعصف بالعالم شرقاً وغرباً، فهي حدثٌ عظيم أقضَّ مضاجع السَّاسة وأصحاب القرار وأرباب الفكر والاقتصاد، وهي خطبٌ جسيم، له تعقيداته وتداعياته المتعددة، يوضح ذلك الاضطراب الكبير الذي يعيشه الاقتصاديون والسياسيون، وكثرة الكتابات، وتباين التحليلات، فهم في أمر مريج، وقد أقبل بعضهم على بعض يتلاومون فيمن يتحمل مسؤولية ما حدث.


وهذه الأزمة تستوجب وقفاتٍ لبيان بعض الجوانب الشرعية المهمة المتعلقة بها:

الأزمة حقيقية: تهاوت فيها بنوك كبرى ومؤسسات مالية، وانحدرت فيها البورصات العالمية، وتبخرت تريليونات، وطارت مليارات من أسواق المال، وهوت دول في العالم إلى الحضيض، وملايين فقدوا أموالهم إما على هيئة أسهم، أو مدخرات أو استثمارات، وتآكلت من استثمارات الشعب الأمريكي في البورصات المالية بمقدار 4 تريليون دولار، وصارت هذه الأزمة أشبه بتسونامي يعصف باقتصاديات الكثير من الدول.

قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ: كما أن للمصائب والكوارث أسباباً مادية معروفة، فإن لها أسباباً شرعية كذلك، ووجود الأسباب المادية لا يتنافى مع الأسباب الشرعية

الله يُمهل ولا يُهمل: فقد أمهلهم وهم يتعاملون بالربا، ويأكلونه أضعافًا مُضاعَفة، ويحاربونه تعالى على مر السنين ، حتى أخذهم بالنقص والبوار ، كما فعل مع فرعون وقومه من قبل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)، ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) متفق عليه.

لقد أكلت سوسة الربا والمحرمات المالية منسأة العالم الغربي، الذي كان يتظاهر أمام الناس بأنه قويٌ معتدل، بينما هو يستند على عصاً منخورة، فلما خر تبينت الجن والإنس والشرق والغرب أنَّ البناء خاو والأساس متهالك لايمكن إنقاذه وإعادته ، وقد صرح وزير المالية الألماني "بير شتاينبروك" قائلا: "إن العالم لن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل الأزمة "
حرب الله على أهل الربا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...) .

وهذه الحرب تتجلى اليوم بصورها المتنوعة: على الأعصاب والقلوب..على البركة والرخاء..على المال والقوة.. على السعادة والطمأنينة.

إنها حرب القلق والخوف..الساحقة الماحقة من جراء النظام الربوي المقيت..والمسعرة حتى الآن؛ تأكل الأخضر واليابس.

وهاهم اليوم يصابون بالاكتئاب والقلق والإحباط والانهيارات النفسية جراء الأزمة المالية، حتى قالت العالمة النفسية الأمريكية " نانسي موليتور": " لم أشهد يوماً طوال ممارستي هذه المهنة منذ عشرين عاماً، ما يشبه ذلك، إن مستوى القلق يحطم كلَّ الأرقام القياسية".

ووصل الأمر إلى حالات قتل وانتحار نتيجة ضغوط الأزمة.

(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا): والمحق حسي ومعنوي، فيذهب ببركة المال فلا ينتفع به صاحبه، أو يذهب بالمال كليةًَ كما سمعنا عن تبخر ترليوني دولار في خمسة أيام من أموال مصلحة التقاعد الأمريكية... وقد أدت الأزمة حتى الآن إلى اختفاء 16 بنكا من الساحة، من بينها بنك "إندي ماك" الذي يستحوذ على أصول بقيمة 32 مليار دولار، وودائع تصل إلى 19 مليار دولار.

بل طالتْ عملية الإفلاس سبعة بنوك كبرى في أوروبا.

ويتوقع بعض المحللين أن يتم إغلاق ما يقرب من 110 بنكا، تصل قيمة أصولها إلى حوالي 850 مليار دولار بحلول منتصف العام القادم.

المرابي يعاقب بنقيض قصده: (وما أَتْيتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَ في أَمْوال النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْد الله) وفي الحديث الصحيحَ: (مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وقد ظهر للناس من ذلك صور كثيرة، منها أن خسائر 10 أثرياء بريطانيين بلغت 40 مليار دولار، ، كما أن أحد المرابين الكبار تناقصت ثروته خلال أربعة أشهر بمعدل 7 ملايين في كل ساعة، وفي روسيا بلغت خسائرُ رجال الأعمال نحو 230 بليون دولار، ويمثل هذا المبلغ نحو 62 % من مجموع ثروات الأثرياء الروس!! فكيف حسرة أمثال هؤلاء

إعلان أكبر المصارف الأمريكية إفلاسها، كمصرف "ليمان براذرز"، ومصرف "أنتجرتي"، و"واشنطن ميوتشوال"، وانهيار أكبر شركة تأمين (aig) التي دفعت (11) بليون دولار من التعويضات, وتكبدت أكبر خسائر في تاريخها الذي يمتد إلى تسعين عاما!!.
وأصبح ما بين (2-3) ملايين أمريكي يواجهون خطر فقدان منازلهم، بسبب عدم قدرتهم على دفع الأقساط الشهرية.

ومع هذه الآثار يطالبنا بعض من في قلبه مرضٌ بالتأمين على الأرصدة ضد مخاطر الإفلاس!!

الطمع والجشع، والخداع، والتدليس في العقود، مع التغرير بالناس، واستغلال حاجتهم.. أسبابٌ لها تأثيرها الواضح في الأزمة، فقد توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من (60) ضعف حجم رؤوس أموالها الحقيقية، طمعاً في الأرباح الكثيرة.

وقد علقت بعض صحفهم على هذه الأزمة بقولها: " لوموا الطمع".

مخاطر التعامل بالأرصدة الوهمية: فقد أظهرت الأزمة الفارق الكبير بين القطاع العيني من السلع والخدمات والمنتجات الحقيقية، وبين المشتقات المالية المعاصرة كالنقود الإلكترونية، والسندات المالية، والبطاقات الائتمانية على نقود وهمية..والأرصدة الإلكترونية التي لا وجود لها إلا في ذاكرة الحواسيب...تكتسب قيمتها من ضمان البنوك لها، فإذا فقدت الثقة في هذه البنوك والمؤسسات زالت قيمتها.
فماذا يفعلون بعد أن تبخرت الأرقام الفلكية للمليارات والترليونات التي كانت تتراقص على شاشات البورصات.

خطورة وضرر فصل الاقتصاد عن الإسلام: لطالما نادى المنافقون بضرورة الفصل بين الاقتصاد والدين، ولسان حالهم يقول كما قال قوم شعيب: (يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

ما للدين وسلوك الناس الشخصي وتصرفهم في أموالهم، وحياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأسلوب الإنتاج، وطرق التوزيع ؟

لقد أبانت هذه الأزمة أن الاقتصاد إذا ابتعد عن أحكام الشريعة وقواعدها تخبط في الظلمات، وأورث الكوارث والأزمات.

الأساس السليم يورث بناء سليماأَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

فلا اقتصاد بلا نور الوحي، وليس كما ينادى المنافقون بأنه" لا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير ربا".

ولقد بدأ الغربيون أنفسهم يدركون هذه الحقيقة، إذ دعت كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا لتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي للتخلص من براثن النظام الرأسمالي الذي يقف وراء الكارثة الاقتصادية التي تخيم على العالم.

حتى كتب أحدهم متسائلاً: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟".

وقالت "سواتي تانيجا" إحدى خبيرات المال في أوروبا: " إن الأزمة المالية بأمريكا تعطي فرصة ذهبية للاقتصاد الإسلامي المنافي للتعاملات الربوية" .

وهذه الأزمة المالية قد أوضحت بجلاء أضرار الربا والمخالفات المالية، فسبحان من حرمها وغلّظ تحريمها!!

وليس مستغرباً أن يكتب رئيس تحرير مجلة "تشالينجز" قائلا: "لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات".

القوة المادية عند غير المؤمنين تغرُّهم وتُطغيهم: وتقودهم إلى الاستكبار في الأرض، واستعباد الآخرين، وتنسيهم قوة الله، وتجعلهم يكفرون به، ويجحدون بآياته.
وهذا هو المرض الخطير الذي أصاب قوم عاد، (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

وكم من الأمم والأقوام المتجبرين في الماضي والحاضر يتصرفون بالمنطق ذاته، وسيهلكهم الله كما أهلك قومَ عاد!.

وكفار اليوم ليس لديهم حصانة من بطش اللهأَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ).

له الحكمة البالغة: في قضاءه وقدره، فتقديره سبحانه مبني على حكمته، وعدله ، ذلك تقدير العزيز العليم .

ولا يخرج شيء في الكون عن مقتضى حكمته، فهو الحكيم الخبير.

ومن حكمته سبحانه جعل المصائب والكوارث سبباً للاتعاظ والتذكر والرجوع إليه، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقال: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

فمن الناس من يرجع إلى الله بسبب هذه الأزمة، وكثير حقَّ عليه العذاب، لا يتوب ولا يؤوب: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الملك الحقيقي لله: وقد استخلف الناس في هذا المال، فما شاء أبقاه وما شاء أخذه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء، ويعطي من يشاء ويمنع من شاء، وفي هذه الأزمة درس للمغترين والمغرورين السائرين على قول قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، الذين نسوا أن الله قادر على أخذهم وأخذ أموالهم وثرواتهم فجأة.

الإنسان هلوع جزوع: أبانت هذه الأزمة عن مدى الهلع والجزع الذي أصاب الناس كما قال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلا الْمُصَلِّينَ).

فإذا أصابه المكروه جزِع، ويئس، وقنط (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ).

وقد نتج عن هذه الأزمة: حالات انتحار وقتل.. سكتات قلبية ودماغية.. جلطات وأمراض مزمنة.. وانهيارات عصبية وأزمات نفسية.. وانتهت بعض الدراسات إلى أن 57% من المتعاملين بالبورصة يصابون بالأمراض "النفس جسدية"، وفي تصريح لمنظمة الصحة العالمية: " الأزمة المالية ستزيد الاضطرابات العقلية في العالم".

أما المؤمن فحاله مختلفة تماما: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) مسلم(2999).

شدة تعلُّق الإنسان بالمال: وقد كانت هذه الأزمة مثالا واضحا للحقيقة التي ذكرها الله بقوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أي: حباً كثيرًا شديداً.

وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). وكان من تأثير هذا الأمر أن أقدم بعض من خسر ماله على الانتحار، لأن المال كان كل شيء في حياته، فلما فقده لم يعد عنده للاستمرار في الحياة دافع، فأقدم على الانتحار بعد أن صار عبدا للدينار والدرهم والدولار، وهذا من نتائج تعلُّق القلب بغير الله.

ضعف التوكل على الله في أمر الرزق والمعاش، لقد كشفت هذه الأزمة عن مدى القلق الشديد على المستقبل، نتيجة للخوف من عدم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية، والتخلُّص من تبعات الديون.

ولو آمن الناس بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، وبقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) لرزقهم رزقاً حسناً سهلاً ميسوراً مضموناً كما يرزق الطير.

في ذهاب أموال الجبابرة عبرة تذكِّر بموقف الفريقين من الطاغية قارون: وذلك لما خرج على الناس بأبهى زينته: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وكذلك يقول المغترون في كل زمان، وأما أهل العلم والإيمان فيقولون: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).

فلما خسف الله به الأرض، كانت النتيجة: ( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).

وقال سبحانه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

قصور البشر في التحليل وتوقع الأزمات: فقد كانت بعض دراسات استشراف المستقبل عند الغرب تبشر باستمرار الازدهار وتحسن أوضاع الأسواق، بل إن أحد مراكز الاستشراف تنبأ بأن عام 2009 سيكون عام ازدهار اقتصادي.

وتوقع بنك "مورجان ستانلي" الأمريكي أن يبلغ سعر برميل النفط 150 دولار، وقالوا: انتهى عصر النفط الرخيص، وتوقع آخرون بلوغه 200دولار للبرميل.

ومع تقدم العلوم الرياضية، والنظريات الاحتمالية، واختراع الحواسيب التي تقوم بالتحليل وحساب نتائج المعادلات الصعبة، ظن بعض الغربيين أن ذلك كاف في الحكم على المستقبل ومعرفته بدقة، فاتكأوا كثيرا على نتائج أبحاثهم، فكانت هذه الأزمة مخيبة لتوقعاتهم ودراساتهم، صادمة ودافعة لهم للاعتراف بقصورهم وعجزهم واعترافهم بأنهم سيعيدون حساباتهم ويعدِّلون توقعاتهم. وصدق الله القائلوَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، (يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).

على أن بعض عقلائهم قد حذروا من هذه الانهيارات وأسبابها، ولكن لم تلق تحذيراتهم آذانا مصغية، إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن لم يعد الإنقاذ بالإمكان.

وختاماً: نسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويعز الإسلام والمسلمين، ويذل المنافقين والكافرين، ويعوض من أصيب من المسلمين خيراً، ويعظم لهم أجراً، ويوفقنا جميعا لما يحب ويرضى.

وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.