تراجم فقهاء وحفاظ
#################
عرض للطباعة
تراجم فقهاء وحفاظ
#################
ابن الجوزى
حظي "ابن الجوزي" بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، وبلغت مؤلفاته أوج الشهرة والذيوع في عصره، وفي العصور التالية له، ونسج على منوالها العديد من المصنفين على مر العصور.
هو "أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر" وينتهي إلى "أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.
ولد ببغداد سنة [ 510هـ= 1116م] وعاش حياته في الطور الأخير من الدولة العباسية، حينما سيطر الأتراك السلاجقة على الدولة العباسية.
وقد عرف بابن الجوزي لشجرة جوز كانت في داره بواسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقيل: نسبة إلى "فرضة الجوز" وهي مرفأ نهر البصرة.
وقد توفي أبوه وهو في الثالثة من عمره فتولت تربيته عمته، فرعته وأرسلته إلى مسجد " محمد بن ناصر الحافظ" ببغداد، فحفظ على يديه القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف، وقد لازمه نحو ثلاثين عامًا أخذ عنه الكثير حتى قال عنه: "لم أستفد من أحد استفادتي منه".
شيخوخة وأساتذته
تعلم "ابن الجوزي" على عدد كبير من الشيوخ، وقد ذكر لنفسه (87) شيخًا، منهم:
• أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر [ 467 ـ 550 هـ= 1074- 1155م]: وهو خاله، كان حافظًا ضابطًا متقنًا ثقة، وفقيهًا ولغويًا بارعًا، وهو أول معلم له.
• أبو منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي [ 465- 540هـ= 1072م-1145م]: وهو اللغوي المحدث والأديب المعروف، وقد أخذ عنه اللغة والأدب.
• أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري المعروف بابن الطبري [ 435-531هـ=1043-1136م] وقد أخذ عنه الحديث.
• أبو منصور محمد بن عبد الملك بن الحسين بن إبراهيم بن خيرون [ 454-539هـ= 1062-1144م] وقد أخذ عنه القراءات.
منزلته ومكانته
كان "ابن الجوزي" علامة عصره في التاريخ والحديث والوعظ والجدل والكلام، وقد جلس للتدريس والوعظ وهو صغير، وقد أوقع الله له في القلوب القبول والهيبة، فكان يحضر مجالسه الخلفاء والوزراء والأمراء والعلماء والأعيان، وكان مع ذيوع صيته وعلو مكانته زاهدًا في الدنيا متقللا منها، وكان يختم القرآن في سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى المسجد أو المجلس، ويروى عنه أنه كان قليل المزاح.
يقول عن نفسه: "إني رجل حُبّب إليّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد بل فنونه كلها، ثم لا تقصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه، والزمان لا يتسع، والعمر ضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى بعض الحسرات".
مجالس وعظه
بدأ "ابن الجوزي" تجربة موهبته في الوعظ والخطابة في سن السابعة عشرة، وما لبث أن جذب انتباه الناس فأقبلوا على مجلسه لسماع مواعظه حتى بلغت شهرته في ذلك مبلغًا عظيمًا، فلم يعرف تاريخ الوعظ والمجالس الدينية ـ على مر العصور ـ مجلسًا كمجلس "ابن الجوزي" يحفل بعدد هائل من المريدين يصل إلى عشرة آلاف رجل.
وكان يحضر مجلسه الخلفاء والأمراء والسلاطين والوزراء، وكان مجلسه بإزاء داره على شاطئ "دجلة" بالقرب من قصر الخليفة، فكانت الأرض تُفرش بالحصير ليجلس عليها الناس، ثم يصعد "ابن الجوزي" المنبر، ويبتدئ القرّاء بقراءة القرآن، يتناوبون التلاوة بأصوات شجية مطربة، فإذا فرغوا من التلاوة بدأ "ابن الجوزي" خطبته، فتناول فيها تفسير الآيات التي تلاها القراء، فيأخذ بألباب وعقول سامعيه، ينظم فيها عقود الحكمة ورقائق الزهد والمواعظ، بما يرقق القلوب ويحرك الأشجان، فتدمع العيون، وتخشع النفوس، وتذوب المشاعر في خشوع وجلال للخالق العظيم يحركها الشوق والوجد والإيمان.
أقوال العلماء فيه
اتفق العلماء والأدباء على الثناء على "ابن الجوزي" فمدحوا علمه وورعه ومهارته في الخطابة والفقه والحديث والتاريخ والأدب.
قال عنه "ابن كثير": "أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف".
وقد وصفه "ابن الجزري" بأنه: "شيخ العراق وإمام الآفاق".
وقال عنه "ابن العماد الحنبلي": "كان ابن الجوزي لطيف الصوت حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ الفاكهة".
وقال عنه "ابن جبير": "آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة".
وقال عنه "شمس الدين الذهبي": "ما علمت أن أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل".
مؤلفاته
تميز "ابن الجوزي" بغزارة إنتاجه وكثرة مصنفاته التي بلغت نحو ثلاثمائة مصنف شملت الكثير من العلوم والفنون، فهو أحد العلماء المكثرين في التصنيف في التفسير والحديث والتاريخ واللغة والطب والفقه والمواعظ وغيرها من العلوم،
ومن أشهر تلك المصنفات:
• أخبار الظرّاف والمتماجنين.
• أخبار النساء.
• أعمار الأعيان.
• بستان الواعظين.
• تلبيس إبليس.
• تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير.
• تاريخ بيت المقدس.
• تحفة المودود في أحكام المولود.
• الثبات عند الممات.
• جواهر المواعظ.
• الجليس الصالح والأنيس الناصح.
• حسن السلوك في مواعظ الملوك.
• ذم الهوى.
• زاد المسير في علم التفسير.
• سيرة عمر بن عبد العزيز.
• صفوة الصفوة.
• صيد الخاطر.
• الطب الروحاني.
• فنون الأفنان في علوم القرآن.
• كتاب الأذكياء.
• كتاب الحمقى والمغفلين.
• لطائف المعارف فيما للموسم العام من الوظائف.
• لفتة الكبد إلى نصيحة الولد.
• مناقب عمر بن الخطاب.
• المنتظم في تاريخ الملوك والأمم.
• الناسخ والمنسوخ في الحديث.
• الوفا في فضائل المصطفى.
• اليواقيت في الخطب.
شعره
كان "ابن الجوزي" شاعرًا مجيدًا إلى جانب كونه أديبًا بارعًا وخطيبًا مفوهًا، وله أشعار حسنة كثيرة، منها قوله في الفخر:
مازلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطولا
تجري بي الآمال في حلباتـه ** جري السعيد إلى مدى ما أمّلا
لو كان هذا العلم شخصًا ناطقًا ** وسألته: هل زار مثلي؟ قال: لا
ومنها قوله في الزهد والقناعة:
إذا قنعت بميسور من القوت ** بقيت في الناس حرًا غير ممقوت
يا قوت يومي إذا ما در خلفك لي ** فلست آسي على در وياقوت
وأوصى أن يُكتب على قبره:
يا كثير العفو عمن ** كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو ** الصفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء ** الضيف إحسان لديه
وفاته
توفي "ابن الجوزي" ليلة الجمعة [ 12 من رمضان 597هـ= 16 من يونيو 1200] عن عمر بلغ سبعا وثمانين سنة بعد أن مرض خمسة أيام، فبكاه أهل بغداد، وازدحموا على جنازته، حتى أقفلت الأسواق، فكان ذلك يومًا مشهورًا مشهودًا، يشهد بمكانة "ابن الجوزي" وحب الناس له.
من مصادر الدراسة:
• البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي-تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ـ دار هجر للطباعة والنشر ـ القاهرة [ 1419هـ= 1998م].
• شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفتح عبد الحي بن العماد الحنبلي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت [د.ت].
• العبر في خبر من غبر: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي- تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت: [1405هـ= 1985مم]
• الكامل في التاريخ: ابن الأثير: أبو الحسن على بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني- دار صادر ـ بيروت ـ [د.ت].
• النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي ـ تحقيق: محمد حسين شمس الدين ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت: [1413هـ= 1992م].
• وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ـ تحقيق: د. إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بيروت [د.ت].
ابن الصلاح
حمل الأئمة المحققون من السلف الصالح تكاليف الجهاد العلمي منذ أن نشطت حلقات العلم، وازدهرت حركة التأليف في القرون الأولى، وكان كل جيل يسلم ما لديه من أمانة العلم إلى من خلفه، فيحمل المشعل المتّقد، ويصونه ويسدّ ثغراته، ويكمل ما يحتاج إلى إكمال وتنظيم.
وفي الوقت الذي نشطت فيه حركة جمع الحديث، ووضع المؤلفات الجامعة، كانت توضع الضوابط الدقيقة للأسانيد والرواة، والآليات التي تمكّن من البصر بعلل المرويات ومظان الوهم أو التدليس والخطأ.
وكان جهابذة المحدثين يجمعون بين الاشتغال بالرواية والجمع وتصنيف السنن والصحاح من جانب، والبصر بالأسانيد ومعرفة الرجال: كأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم من جانب آخر، وقد يغلب جانب على آخر، فتغلب مشاركة صاحبه في التأليف فيه.
وكانت دواوين السنة أسبق في الظهور من الكتب التي تتعلق بعلم الحديث الذي يتناول الرواية وشروطها، وأنواعها، وأحكامها، وحال الرواة، وشروطهم، وأصناف الكتب التي تجمع الحديث من الجوامع، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، وغيرها.
ويعد القاضي "أبو محمد الرامَهُرمزي" المتوفى سنة (360 هـ = 970م) أول من صنف في هذا الفن الذي يُعرف بعلم الحديث، وقعّد قواعده، وأرسى أصوله، في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، وإن لم يستوعب جميع أبحاث هذا الفن، ثم جاء الحاكم النيسابوري، صاحب "المستدرك على الصحيحين" المتوفَّى سنة (405هـ = 1014م)، فخطا بهذا الفن خطوات واسعة، في كتابه "معرفة علوم الحديث"، وهو الكتاب الذي سار على نهجه من صنفوا بعده الكتب الجامعة في علوم الحديث.
ثم جاء الحافظ أبو بكر البغدادي المتوفى سنة (463هـ=1070م)، فعكف على تحرير مناهج المحدثين من شوائب الخلل التي طرأت عليها، فصنف عدة كتب لمعالجة هذا الأمر، فوضع في أصول الحديث كتابه "الكفاية في علم الرواية"، وألف في آداب الرواية كتابه "الجامع لآداب الشيخ والسامع".
وأسهم علماء المغرب في هذا الفن، وكان قد صار دار حديث ورواية، وأنجب أفذاذًا من المحدثين، فيضع حافظ المغرب "القاضي عياض" المتوفى سنة (544هـ = 11449م) كتابه المعروف "الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع".
وفي القرن السابع الهجري يتقدم "ابن الصلاح" المتوفى (643هـ=1245م) فيحيي تراث السلف الصالح في هذا الفن، ويعيد إليه حيويته ونضارته بكتابه المعروف بـ"مقدمة ابن الصلاح"، الذي يعد عمدة في المنهج النقلي لتوثيق المصادر وتحقيق النصوص في مجال الدراسات الإسلامية.
المولد والنشأة
في سنة (577 هـ = 1181م) وُلد "تقي الدين عثمان بن الصلاح عبد الرحمن بن عثمان" في بلدة "شرخان" قرب "شهرزور" التابعة لإربل بالعراق، وغلب عليه لقب أبيه الصلاح عبد الرحمن، فصار لا يعرف إلا به. وكان والده من مشايخ بلدته، فأولاه عنايته؛ حيث عهد به إلى من حفّظه القرآن وعلمه التجويد، ثم تلقى على يديه علومه الأولى في الفقه، وقد أرسله إلى "الموصل" فسمع الحديث من "أبي جعفر عبيد الله بن أحمد" المعروف بابن السمين، فكان أول شيوخه بعد أبيه، ثم تردد على عدد من علماء الموصل يسمع منهم الحديث، ولزم أستاذه "عماد الدين أبا أحمد بن يونس" الذي اصطفاه معيدًا له، فأقام لديه فترة، ثم بدأ الرحلة في طلب الحديث، فرحل إلى همذان ونيسابور ومرو وبغداد ودمشق يسمع من أعلامها ويروي عنهم.
الاشتغال بالتدريس
وبعد هذه السياحة الطويلة في طلب العلم، استقر في مدينة القدس في بادئ الأمر مدرسًا بالمدرسة الصلاحية نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي، وأقبل الناس عليه لِمَا رأوا من علمه وتقواه، ثم انتقل إلى دمشق تسبقه شهرته وفضله، فتولى التدريس في المدرسة الرواحية، ولَمّا بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل دار الحديث الأشرفية، تولى ابن الصلاح أمرها والتدريس بها، ثم عهد إليه- إلى جانب ذلك- التدريس في مدرسة "ست الشام"، وهي المدرسة التي أنشأتها "زمرد خاتون" بنت "أيوب" زوجة "ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه" صاحب حمص.
ويذكر المؤرخ الكبير ابن خلكان أنه قدم عليه في (شوال 632هـ=مايو 1235م) وأقام عنده، وذكر أنه كان يقوم بوظائفه على خير وجه دون إخلال، وقد تتلمذ عليه كثيرون، منهم: ابن خلكان، وفخر الدين عمر بن يحيى الكرجي، وزين الدين الفارقي، وغيرهم.
مقدمة ابن الصلاح
لم تشغله أعباء مناصبه عن الفتيا والتأليف، فصنّف في علوم الحديث والرواية، والرجال والفقه، بالإضافة إلى شروحه وأماليه وفتاواه، ومن تلك المؤلفات: "شرح صحيح مسلم"، و"أدب المفتي والمستفتي"، و"طبقات فقهاء الشافعية"، و"مشكل الوسيط في فقه الشافعية"، و"مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث"، وقد جمع في هذا الكتاب ما انتهت إليه جهود العلماء الذين سبقوه من المشارقة والمغاربة، وأحسن تصنيفها وثبوتها.
وقد تلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول، واستأثر بمنزلة خاصة عند العلماء في عصر ابن الصلاح والعصور التي تلته، وتتابع عليه العلماء شرحًا وتلخيصًا ونظمًا، وعَدُّوه من أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة اصطلاح الحديث.
فلخصه الإمام محيي الدين النووي المتوفى سنة (676هـ = 1277م) في كتاب سماه "الإرشاد إلى علم الإسناد"، ثم اختصر التلخيص في كتابه "التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير"، وهو الذي شرحه الحافظ السيوطي في كتابه التدريب، كما اختصر المقدمة قاضي القضاة "بدر الدين بن جماعة" المتوفى سنة (733هـ=1332م) في كتابه "مختصر مقدمة ابن الصلاح".
وقد نظّم قاضي "القضاة شهاب الدين الخولي" المتوفى سنة (693هـ = 12933م) مقدمة ابن الصلاح شعرًا في أرجوزته "أقصى الأمل والسول في علوم أحاديث الرسول"، وقام بهذا العلم أيضًا الحافظ "زين الدين العراقي" في ألفيته (أي ألف بيت) المعروفة بألفية العراقي، وعمل لها شرحًا سماه "فتح المغيث".
وقام جماعة من كبار حفاظ الحديث فوضعوا شروحًا لتلك المقدمة، يأتي في مقدمتها: "محاسن الاصطلاح" لسراج الدين البلقيني المتوفى (805هـ=1402م)، و"التقييد وإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح" لزين الدين العراقي المتوفى (806هـ=1403م)، ويجدر بالذكر أن الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" قد نشرت في مصر مقدمة "ابن الصلاح" مع كتاب "محاسن الاصطلاح" نشرة علمية دقيقة، مع مقدمة نفيسة، سنة (1394هـ = 1974م).
وفاة ابن الصلاح
وبعد حياة حافلة تُوفي ابن الصلاح في دمشق في سحر الأربعاء الموافق (25من ربيع الآخر 643هـ = 19من سبتمبر 1245م)، وقد ازدحم الناس للصلاة عليه، وتم دفنه في مقابر الصوفية.
من مصادر الدراسة:
• تاج الدين السبكي- طبقات الشافعية الكبرى- تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي- هجر للطباعة والنشر- القاهرة (1413 هـ = 1992).
• ابن خلكان- وفيات الأعيان- تحقيق إحسان عباس- دار صادر- بيروت- بدون تاريخ.
• الذهبي- سير أعلام النبلاء- تحقيق بشار عواد معروف ومحيي هلال السرحان- المجلد (23)- مؤسسة الرسالة- بيروت (1412 هـ = 1992م).
• عائشة عبد الرحمن- مقدمة تحقيقها لكتابي مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح- دار الكتب المصرية- القاهرة (1994م).
إبن العربي
مؤلف هذا التفسير هو: أحد الأعلام الكبار ـ ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد ـ المعافري الأندلسي الاشبيلي.
ولدأبو بكر سنة468 هجرية وتأدب ببلده وقرأ القراءات وسمع به من أبي عبد الله بن منظور وأبي محمد بن خزرج ثم انتقل ورحل إلي جملة من البلاد والأقطار فسمع العلم في بلاد الاندلس وبخاصة قرطبة التي زخرت بالعلماء
له شهرة في فنه وعلمه فعن هؤلاء وهؤلاء أخذ جملة من الفنون حتي اتقن الفقه والأصول وقيد الحديث واتسع في الرواية واتقن مسائل الخلاف والكلام وتبحر في التفسير وبرع في الأدب والشعر.
وأخيرا وبعد هذه الرحلات المتوالية والجد في طلب العلم عاد ابن العربي وفي جعبته العلم الكثير.
كان متقدما في المعارف كلها ـ متكلما في أنواعها ـ نافذا في جمعها ـ وحريصا علي أدائها ونشرها حتي قالوا عنه:
إنه أحد من بلغ مرتبة الاجتهاد واحد من انفرد بالاندلس بعلو الإسناد ويجمع إلي ذلك كله:
آداب الاخلاق مع حسن المعاشرة وكثرة الاحتمال ـ وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود وغير ذلك من صفات العلماء العاملين الذين يألفون ويؤلفون رضي الله عنه وارضاه. واستقضي أبو بكر ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة يؤثر عنه في قضائه احكام غريبة ثم صرف عن القضاء وأقبل علي نشر العلم وبثه. وكان نصيحا أديبا شاعرا كثير الخير مليح المجلس يتعرض تفسير ابن العربي: أحكام القرآن لآيات الأحكام في القرآن الكريم كما يظهر من اسمه ـ وطريقه في تفسيره: أن يذكر السورة ـ ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الاحكام ثم يأخذ في شرحها آية آية قائلا: الآية الأولي وفيها خمس مسائل مثلا.
والآية الثانية وفيها سبع مسائل مثلا.. وهكذا حتي يفرغ من آيات الاحكام الموجودة في السورة كلها.
وكتاب أحكام القرآن يعتبر مرجعا مهما للتفسير الفقهي عند المالكية وذلك لأن ابن العربي كان مالكي المذهب كثير التعصب له والدفاع عنه.
والذي يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحيانا ـ كما يلمس منه روح التعصب المذهبي التي تستولي علي صاحبها فتجعله أحيانا كثيرة يرمي مخالفيه وان كان اماما له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة تارة بالتصريح وتارة بالتلميح.
فإذا أضيف إلي ذلك ما ذكرناه من قبل إنه جمع آداب الاخلاق وحسن المعاشرة وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود.. إذا أضيف ذلك علمنا أن ما كتبه ابن العربي في كتبه كلها انما هو محوط بسياج الروح العلمية الاسلامية الكريمة من عالم جمع إلي العلم وفضله العمل به والسير علي منواله.
ابن القيم
نسبه ونسبته:
هو الفقيه، المفتي، الإمام الربّاني شيخ الإسلام الثاني أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرعي ثم الدِّمشقي الشهير بـ"ابن قيم الجوزية" لا غيره خلافًا للكوثري الذي نبزه بـ"ابن زفيل" .
ولادته:
ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر الخير سنة (691هـ).
أسرته ونشأته وطلبه للعلم:
نشأ ابن قيِّم الجوزية في جوِّ علمي في كنف والده الشيخ الصالح قيم الجوزية، وأخذ عنه الفرائض، وذكرت كتب التراجم بعض أفراد أسرته كابن أخيه أبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن زين الدين عبد الرحمن الذي اقتنى أكثر مكتبة عمّه، وأبناؤه عبد الله وإبراهيم، وكلهم معروف بالعلم وطلبه.
وعُرف عن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- الرغبة الصادقة الجامحة في طلب العلم، والجَلَد والتَّفاني في البحث منذ نعومة أظفاره؛ فقد سمع من الشِّهاب العابر المتوفى سنة (697هـ) فقال -رحمه الله- : "وسمّعت عليه عدّة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه؛ لصغر السِّنِّ ، واخترام المنية له -رحمه الله- " وبهذا يكون قد بدأ الطلب لسبع سنين مضت من عمره.
رحلاته:
قَدم ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- القاهرة غير مرّة ، وناظر ، وذاكر.
وقد أشار إلى ذلك المقريزي فقال : "وقدم القاهرة غير مرّة" .
قال: "وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر" .
وقال: "وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة" .
وزار بيت المقدس، وأعطى فيها دروسًا.
قال: "ومثله لي قلته في القدس" .
وكان -رحمه الله- كثير الحجِّ والمجاورة كما ذكر في بعض كتبه. قال ابن رجب: وحج مرات كثيرةً، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدّة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يُتعجب منه" .
مكتبته:
كان ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- مُغرمًا بجمع الكتب، وهذا دليلُ الرَّغبة الصّادقة للعلم بحثًا وتصنيفًا، وقراءةً وإقراءً يظهر ذلك في غزارة المادة العلمية في مؤلفاته، والقدرة العجيبة على حشد الأدلة.
وقد وصف تلاميذه -رحمهم الله- مكتبته فأجادوا:
قال ابن رجب: "وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره" .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "واقتنى من الكتب ما لم لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْرِه من كتب السلف والخلف" .
قلت: ومع هذا كله يقول بتواضع جم: "بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب" .
ورحم اللهُ شيخه شيخَ الإسلام ابن تيمية القائل: "فمن نوّر الله قلبه هداه ما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزدْهُ كثرةُ الكتب إلا حيرة وضلالةً" .
مشاهير شيوخه:
تلقى ابن قيم الجوزية -رحمه الله- العلم على كثير من المشايخ ، ومنهم:
1- قيم الجوزية والده -رحمه الله-.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لازمه ، وتفقه به، وقرأ عليه كثيرًا من الكتب ، وبدأت ملازمته له سنة (712هـ) حتى توفي شيخ الإسلام سجينًا في قلعة دمشق (728هـ).
3- المزي -رحمه الله- .
تلاميذه :
1- ابن رجب الحنبلي ، صرح بأنه شيخه، ثم قال: "ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة ، وسمّعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السّنة ، وأشياء من تصانيفه وغيرها" .
2- ابن كثير -رحمه الله- قال : "وكنت من أصحب الناس له وأحبّ الناس إليه" .
3- الذهبي -رحمه الله- ترجم لابن القيم الجوزية في "المعجم المختص" بشيوخه .
4- ابن عبد الهادي -رحمه الله- ؛ كما قال ابن رجب: "وكان الفضلاء يعظمونه ويتتلمذون له كابن عبد الهادي وغيره" .
5- الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" ، كما قال الشوكاني: "ثم ارتحل إلى دمشق فدخلها سنة (755هـ) فسمع من التقي السبكي وجماعة زيادة عن مائة كابن القيم" .
علاقته بشيخه ابن تيمية ومنهجه :
بدأت ملازمة ابن قيم الجوزية لشيخ الإسلام ابن تيمية عند قدومه إلى دمشق سنة (712هـ) ، واستمرت إلى وفاة الشيخ سنة (728هـ) ، وبهذا تكون مدة مرافقة ابن قيم الجوزية لشيخه ستة عشر عامًا بقي طيلتها قريبًا منه يتلقى عنه علمًا جمًا ، وقرأ عليه فنونًا كثيرة.
قال الصفدي: "قرأ عليه قطعة من "المحرّر" لجدّه المجد، وقرأ عليه من "المحصول" ، ومن كتاب "الأحكام" للسيف الآمدي، وقرأ عليه قطعة من "الأربعين" و"المحصل" وقرأ عليه كثيرًا من تصانيفه" .
وبدأت هذه الملازمة بتوبة ابن قيم الجوزية على يدي شيخه ابن تيمية ؛ كما أشار إلى ذلك بقوله
يـا قـوم والله العظيـم نصـيحة مـن مشـفق وأخ لكـم معـوان
جربت هـذا كلـه ووقعت فـي تلك الشبــاك وكنت ذا طيـران
حتى أتـاح لـي الإلـه بفضلـه مـن ليس تجـزيه يـدي ولسـاني
فتـى أتى مـن أرض حـرّان فيا أهلًا بمـن قـد جـاء من حــران
وكان لهذه الملازمة أثرٌ بالغٌ في نفس ابن قيم الجوزية ؛ فشارك شيخه في الذَّبِّ عن المنهج السلفي، وحمل رايتَه من بعده ، وتحرر من كل تبعية لغير كتاب الله وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم السلف الصالح.
قال الشوكاني : "وليس له على غير الدليل مُعَوَّل في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدَّفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة ؛ كما يفعله غيرُه من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك ، وغالب أبحاثه الإنصافُ والميلُ مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحث وطوَّل ذيولَه أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدورُ الراغبين في أخذ مذاهبهم عن الدليل، وأظنها سرت إليه بركةُ ملازمته لشيخه ابن تيمية في السَّراء والضّراء والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه.
وبالجملة فهو أحد من قام بنشر السُّنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظم جُنَّة ، فرحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا .
ومع هذا كله فلم يكن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- نسخةً من شيخه ابن تيمية، بل كان متفننًا في علوم شتى -باتفاق المتقدمين والمتأخرين- تدل على علو كعبه، ورسوخه في العلم.
وكيف يكون ابن قيم الجوزية مُرَدِّدًا لصدى صوت شيخه ابن تيمية -رحمه الله- وهو ينكرُ التقليدَ ويحاربُه بكلِّ ما أتي من حَوْل وقوَّة؟!
ثناء العلماء عليه:
قال ابن كثير -رحمه الله- : "سمع الحديث ، واشتغل بالعلم ، وبرع في علوم متعددة ، ولا سيما علم التفسير والحديث الأصلين ، ولما عاد الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الدّيار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًّا ، مع ما سلف له من الاشتغال؛ فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطَّلَب ليلًا ونهارًا، وكثرة الابتهال ، وكان حسنَ القراءة والخُلُق ، وكثيرَ التَّودُّد لا يحسدُ أحدًا ولا يؤذيه ، ولا يستغيبُه ولا يحقدُ على أحد ، وكنت أصحب الناس له ، وأحب الناس إليه ، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثرَ عبادة منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يطيلها جدًا ، ويمدُّ ركوعَه وسجودَه ويلومُه كثير من أصحابه في بعض الأحيان ، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك -رحمه الله- ، وله من التّصانيف الكِبار والصِّغار شيءٌ كثير ، وكتَبَ بخطّه الحسنِ شيئًا كثيرًا ، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وبالجملة كان قليلَ النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخيرُ والأخلاقُ الصالحةُ ، سامحه الله ورحمه" .
قال ابن رجب -رحمه الله- : "وتفقه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين وأخذ عنه ، وتفنَّن في علوم الإسلام ، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه ، وبأصول الدين ، وإليه فيهما المنتهى ، والحديث معانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه ، لا يُلحق في ذلك ، وبالفقه وأصوله وبالعربية ، وله فيها اليَدُ الطولى ، وتعلم الكلام والنَّحو وغير ذلك ، وكان عالمًا بعلم السّلوك ، وكلام أهل التّصوف وإشاراتهم ودقائقهم ، له في كل فَنّ من هذه الفنون اليد الطولى.
وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتَهَجد ، وطول صلاة إلى الغاية القصوى ، وَتَألُّه ولهج بالذّكر ، وشغف بالمحبة ، والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار له ، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته ، لم أشاهد مثله في ذلك ، ولا رأيت أوسع منه علمًا ، ولا أعْرَف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله " .
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله- : "وكان ذا فنون في العلوم ، وخاصة التفسير والأصول في المنطوق والمفهوم" .
وقال السيوطي -رحمه الله- : "قد صَنَّفَ ، وناظر ، واجتهد ، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث ، والفروع ، والأصلين ، والعربية" .
مؤلفاته :
ضرب ابن قيم الجوزية بحظ وافر في علوم شتى يظهر هذا الأمر جَليًّا لمن استقصى كتبه التي كانت للمتقين إمامًا، وأفاد منها الموافق والمخالف.
قال ابن حجر -رحمه الله- ، "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته" .
وإليك أشهرها مرتَّبة على حروف المعجم:
1- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2- أحكام أهل الذمة.
3- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
4- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.
5- بدائع الفوائد.
6- تحفة المودود في أحكام المولود.
7- تهذيب مختصر سنن أبي داود.
8- الجواب الكافي، وهو المسمى "الداء والدواء".
9- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام.
10- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
11- حكم تارك الصلاة.
12- "الرسالة التبوكية "وهو الذي بين يديك.
13- روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
14- الروح.
15- زاد المعاد في هدي خير العباد.
16- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
17- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
18- طريق الهجرتين وباب السعادتين.
19- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
20- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وقد انتهيت من تحقيقه بحمد الله وفضله على نسختين خطيتين.
21- الفروسية.
22- الفوائد.
23- الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ، وهي "القصيدة النونية".
24- الكلام على مسألة السماع.
25- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
26- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة.
27- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
28- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
29- الوابل الصيب في الكلم الطيب.
محنة وثبات :
حُبس مع شيخه ابن تيمية في المرة الأخيرة في القلعة منفردًا عنه بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبًا بالدرة سنة (726هـ) ، ولم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه سنة (728هـ) .
وحبس مرة لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل.
قال ابن رجب -رحمه الله- : "وقد امتحن وأوذي مرات" .
وفاته :
توفي -رحمه الله- ليلة الخميس ثالث عشرين من رجب الفرد سنة (751هـ) ، ودفن بدمشق بمقبرة الباب الصغير -رحمه الله- وأسكنه الفردوس الأعلى ، وجمعنا وإياه في عليين مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا.
مصادر ترجمته:
1- "أبجد العلوم" ، صديق حسن خان ، (3 / 138).
2- "البداية والنهاية" ، ابن كثير ، (14 / 234).
3- "البدر الطالع" ، الشوكاني ، (2 / 143).
4- "بغية الوعاة" ، للسيوطي ، (1 / 62).
5- "التاج المكلل" ، صديق حسن خان ، (ص416).
6- "الدرر الكامنة" ، ابن حجر ، (4 / 21-23).
7- "ذيل طبقات الحنابلة" ، ابن رجب ، (2 / 447).
8- "ذيل العبر في خبر من عبر" ، (5 / 282).
9- "الرد الوافر" ابن ناصر الدين الدمشقي (ص68).
10- "شذرات الذهب" ، ابن العماد ، (6 / 168).
11- "طبقات المفسرين" ، للداوودي ، (2 / 93).
12- "الفتح المبين في طبقات الأصوليين" ، المراغي ، (2 / 76).
وقد صنفت كتب مفردة مثل:
1- "ابن قيم الجوزية" ، محمد مسلم الغنيمي.
2- "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره" ، بكر بن عبد الله أبو زيد.
3- "ابن قيم الجوزية وموقفه من التفكير الإسلامي" ، عوض الله حجازي.
4- "ابن القيم وآثاره العلمية" ، أحمد ماهر البقري.
5- "ابن القيم اللغوي" ، أحمد ماهر البقري.
6- "ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه" ، عبد العظيم عبد السلام.
ابن تيميّـة
إسمه ونسبه
هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن محمد الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبدالله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي.
وتيمية هي والدة جدة الأعلى محمد . وكانت واعظة راوية.
ولد رحمه الله يوم الأثنين العاشر من ربيع الأول ، بحران سنة 661هـ ولما بلغ سبع سنوات من عمره إنتقل مع والده إلى دمشق ، هربا من التتار .
نشأته
نشا في بيت علم وفقه ودين، فأبوه و أجداده وإخوانه وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، منهم جده الأعلى الرابع محمد بن الخضر، ومنهم عبدالحليم بن محمد بن تيمية، وعبدالغني بن محمد بن تيمية ، و حده الأدنى عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منها : المنتقى من أحاديث الأحكام وقد قام الشوكاني بشرحه في كتابه "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، والمجرد في الفقه والمسودة في الأصول وغيرها،وكذلك أبوه و أخوه عبدالرحمن وغيرهم.
وفي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة هذا العالم الجليل الذي بدأ بطلب العلم على والده وعلماء بلاده أولا، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه و الأصول والتفسير، وعرف بالذكاء والفطنة وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، وأجتمعت فيه صفات المجتهد وأعترف له بذلك الداني والقاصي والقريب والبعيد وعلماء عصره.
خصاله
تميز شيخ الإسلام إبن تيمية بالإضافة إلى العلم والفقه في الدين و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بخصال حميده فكان سخيا كريما، كثير العبادة والذكر والقرآن، وكان ورعا زاهدا متواضعا، ومع ذلك فقد كانت له هيبة عند السلطان وقصته مع سلطان التتار معروفه، كما عرف رحمه الله بالصبر وقوة الإحتمال في سبيل الله.
جهاده
جاهد شيخ الإسلام فارس المعقول والمنقول في الله حق جهاده، فقد حاهد بالسيف وحرضّ المسلمين على القتال بالقول و العمل، فقد كان يصول ويجول بسيفه في ساحات الوغى مع الفرسان والشجعان، والذين شاهدوه في القتال أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالأعداء .
وقد قام بالدفاع عن دمشق عندما غزاها التتار، وحاربهم عند شقحب جنوبي دمشق وكتب الله هزيمة التتار، وبهذه المعركة سلمت بلاد الشام وفلسطين ومصر والحجاز.
وطلب من الحكام متابعة الجهاد لإبادة أعداء الأمة الذين كانوا عونا للغزاة، فأجج ذلك عليه حقد الحكام و حسد العلماء و الأقران ودس المنافقين والفجار، فناله الأذى والسجن والنفي والتعذيب فما لان و لاخضع .
وكانت كلمته المشهورة: "مايصنع أعدائي بي؟!! أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت، فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" وكان يقول في سجنه: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
أما جهاده بالقلم واللسان فإنه رحمه الله وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ فقد تصدى للفلاسفة، والباطنية، من صوفية، وإسماعيلية ونصيرية وروافض، كما تصدى للملاحدة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحا فعالا ضد أعداء هذا الدين العظيم على مر الدوام وذلك لأنها إنما تستند على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، مع قوة الإستنباط، وقوة الإستدلال و الإحتجاج الشرعي والعقلي، وسعة العلم التي وهبها الله له ولا تزال ردود الشيخ وكتبه هي أقوى سلاح بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم للتصدي لهذه الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي راجت اليوم وهي إمتداد للماضي، وغيّرت أسمائها فقط مثل البعثية و الإشتراكية و القومية و البهائية و القاديانية وغيرها من الفرق .
مؤلفاته و إنتاجه العلمي
يعتبر شيخ الإسلام من العلماء الأفذاذ الذين تركوا تراثا ضخما ثمينا، لايزال العلماء والباحثون ينهلون منه وقد ألف ابن قيم الجوزية كتب ورسائل شيخه ابن تيمية التي قام بتأليفها وهي مطبوعة.
وقد زادت مؤلفاته على ثلاثمائة مؤلف في مختلف العلوم، و منها ماهو في المجلدات المتعدده وهذه بعض مؤلفاته رحمه الله:
1 - بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول (طبع في 11 مجلدا).
2 - إثبات المعاد .
3 - ثبوت النبوات عقلا ونقلا .
4 - الرد على الحلولية والإتحادية .
5 - الإستقامة (في مجلدين).
6 - مجموع فتاوى ابن تيمية : جمعها عبدالرحمن بن قاسم وتقع في (37) مجلدا.
7 - إصلاح الراعي والرعية.
8 - منهاج السنة .
9 - الإحتجاج بالقدر .
10 - الإيمان.
11 - حقيقة الصيام.
12 - الرسالة التدمرية.
13 - الرسالة الحموية.
14 - شرح حديث النزول.
15 - العبودية.
16 - المظالم المشتركة.
17 - الواسطة بين الحق والخلق.
18 - الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان.
19 - الكلم الطيب.
20 - رفع أعلام عن الأئمة الأعلام.
21 - حجاب المرأة ولباسها في الصلاة.
22 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.
23 - الرسالة العشرية.
24 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وفاة شيخ الإسلام
توفي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله رحمة واسعة ليلة الإثنين العشرين من ذي القعده سنة(728) وعمره (67) عاما وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق وحضر جنازته جمهور كبير جدا يفوق العدد.
ولمن أراد الإستزاده و الإطلاع عن سيرة هذا الشيخ الكبير والعالم النحرير والحجة القوية فعليه بالعودة إلى الكتب التي أولفت عنه رحمه الله رحمة واسعة وهي كثيرة ومنها:
1 - العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أبن تيمية لتلميذه ابن عبدالهادي.
2 - الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي .
3 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزاز.
4 - حياة ابن تيمية للبيطار.
5 - ابن تيمية للإستنبولي.
وغيرها كثير .
ابن حجر
شيخ الإسلام: أبو الفضل، أحمد بن شيخ الإسلام علاء الدين علي، المعروف: بابن حجر العسقلاني المصري، صاحب: فتح الباري شرح صحيح البخاري، الإمام، العلامة، الحجة، هادي الناس إلى المحجة، له تصانيف على أكف القبول مرفوعة، وآثار حسنة لا مقطوعة ولا ممنوعة.
جمع من العلوم والفضائل والحسنات، والكمالات والمبرات، والتصنيفات والتأليفات، مالا يأتي عليه الحصر.
كان حافظا، دينا، ورعا، زاهدا، عابدا، مفسرا، شاعرا، فقيها، أصوليا، متكلما، ناقدا، بصيرا، جامعا ، حرر ترجمته جمع من الأعيان، وعدّوه في جملة البالغين إلى درجة الاجتهاد في هذا الشأن، منها: كتاب الجواهر والدرر، في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر.
وتشهد بفضائله، وغزارة علومه، وكثرة فواضله، تآليفه الموجودة بأيدي الناس، وقد رزق السعادة التامة، والإتقان الكبير، والإنصاف الكامل فيها، منها: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، وهو كتاب لو خُطَّ بماء الذهب، وبيع بالأرواح والمهج، لما أدى حقه.
ومنها: الدرر الكامنة، في أعيان المائة الثامنة.
وكتاب: تلخيص الحبير، في تخريج أحاديث الرافعي الكبير.
وتعجيل المنفعة في رجال الأربعة، إلى غير ذلك من الرسائل المختصرة، والدفاتر المطولة، - والله يختص برحمته من يشاء -.
وهو الإمام، العلامة، حافظ العصر، قاضي القضاة، شيخ الإسلام.
ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وتوفي ليلة السبت المسفر صباحها، في ثامن عشر ذي الحجة، سنة ثمان وخمسين وثمانمائة، وكان عمره إذ ذاك تسعة وسبعين سنة، وأربعة أشهر، وعشرة أيام، وصلى عليه خلق كثير.
وتصانيفه أكثر من أن تحصى، وكلها أتقن من تأليفات السيوطي، وشهرته تغني عن إكثار المدح له، وإطالة ترجمته.
أفاده القنوجي رحمه الله في أبجد العلوم.
إبن دقيق العيد
لم تكن القاهرة وحدها في العصر المملوكي حاضرة العلم في مصر، ومركز الإشعاع الثقافي وملتقى العلماء والفقهاء، بل نافستها مراكز أخرى في صعيد مصر، امتلأت بالمدارس ودور الحديث، وازدانت بأعلامها من رجال الفقه والحديث واللغة والأدب، وكانت إسنا وقوص وأسيوط وأخميم، وأسوان، ومنفلوط، تموج حركة ونشاطًا، بحلقات العلم التي تحتضنها ساحات المساجد وقاعات المدارس. ويذكر ابن دقماق المؤرخ المصري أنه كان بقوص وحدها ستة عشر مكانًا للتدريس، وبلغ من ازدهار الحركة العلمية بصعيد مصر في تلك الفترة المملوكية أن وضع الأدفوي كتابه المعروف "الطالع السعيد" وخصصه فقط لتراجم نجباء علماء الصعيد.
المولد والنشأة
في عرض البحر ولد ابن دقيق العيد، وأبواه متوجهان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج في (25 من شعبان 625هـ=31 من يونيو 122م)، ولما قدم أبوه مكة حمله، وطاف به البيت، وسأل الله أن يجعله عالمًا عاملاً.
ونشأ ابن دقيق العيد في قوص بين أسرة كريمة، تعد من أشرف بيوتات الصعيد وأكرمها حسبًا ونسبًا، وأشهرها علمًا وأدبًا، فأبوه أبو الحسن علي بن وهب عالم جليل، مشهود له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول، وعُرف جده لأبيه بالعلم والتقى والورع، وكانت أمه من أصل كريم، وحسبها شرفًا أن أباها هو الإمام تقي الدين بن المفرج الذي شُدّت إليه الرحال، وقصده طلاب العلم.
وتعود سبب شهرته باسم ابن دقيق العيد، أن جده "مطيعًا" كان يلبس في يوم عيد طيلسانًا ناصع البياض، فقيل كأنه دقيق العيد، فسمي به، وعُرف مطيع بدقيق العيد، ولما كان "علي بن وهب" حفيده دعاه الناس بابن دقيق العيد، واشتهر به ابنه تقي الدين أيضًا، فأصبح لا يُعرف إلا به.
بدأ ابن دقيق العيد طريق العلم بحفظ القرآن الكريم، ثم تردد على حلقات العلماء في قوص، فدرس الفقه المالكي على أبيه، والفقه الشافعي على تلميذ أبيه البهاء القفطي، ودرس علوم العربية على محمد أبي الفضل المرسي، ثم ارتحل إلى القاهرة واتصل بالعز بن عبد السلام، فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول، ولازمه حتى وفاته. ثم تطلعت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم، وملاقاة العلماء، فارتحل إلى دمشق في سنة (660هـ=1261م) وسمع من علمائها ثم عاد إلى مصر.
قيامه بالتدريس والتأليف
استقر ابن دقيق العيد بمدينة قوص بعد رحلته في طلب الحديث، وتولى قضاءها على مذهب المالكية، وكان في السابعة والثلاثين من عمره، ولم يستمر في هذا المنصب كثيرًا، فتركه وولى وجهه شطر القاهرة وهو دون الأربعين، وأقام بها تسبقه شهرته في التمكن من الفقه، والمعرفة الواسعة بالحديث وعلومه.
وفي القاهرة درس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية، وهي المدرسة التي بناها السلطان الكامل سنة (621هـ=1224م)، ثم تولى مشيختها بعد ذلك، وكان على تبحره في علوم الحديث يتسدد في روايته، فلا يروي حديثًا إلى عن تحرٍّ واحتراز، ومن ثم كان قليل التحديث لا عن قلة ما يحفظه ولكن مبالغة في التحري والدقة. ويصف ابن سيد الناس مكانة شيخه ابن دقيق العيد في هذا الفن بقوله: "وكان للعلوم جامعًا، وفي فنونها بارعًا مقدمًا في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردًا بهذا الفن النفيس في زمانه". ولابن دقيق العيد كتاب عمدة في علم مصطلح الحديث سماه "الاقتراح في معرفة الاصطلاح" والكتاب مطبوع نشرته وزارة الأوقاف بالعراق.
ودرّس الفقه الشافعي في المدرسة الناصرية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي بجوار قبة الإمام الشافعي، ولما كان شيخًا قد تضلّع في الفقه وأحاط بمسائله في المذهبين المالكي والشافعي؛ فقد قام بتدريسهما في المدرسة الفاضلية.
ولم يقف الشيخ الجليل على أدلة المذهبين، والاجتهاد في نطاقهما، وإنما تجاوز ذلك إلى مرحلة الاجتهاد المستقل في بعض ما كان يعرض له من قضايا، حيث كان يستخرج الأحكام من الكتاب والسنة، غير مقلد لأحد في اجتهاده، وقد شهد له معاصروه بالسبق والتقدم في الفقه، وأقروا له بالاجتهاد، فوصفه الإسنوي بأنه "حافظ الوقت خاتمة المجتهد". ويقول الأدفوي: "ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه علم أنه أكثر تحقيقًا وأمتن وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن".
وله مؤلفات فقهية تنطق بعلو كعبه في هذا الميدان، منها: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للعلامة الحافظ عبد الغني النابلسي. وكتاب العمدة يحتوي على مجموعة من الأحاديث مبوبة على أبواب الفقه، مثل باب الطهارة وباب الوضوء، وباب التيمم، وقد قام ابن دقيق العيد بشرح الكتاب، فتصدى لبيان معاني الحديث، وما به من بيان، واستنبط ما فيه من أحكام، وأقوال الفقهاء فيه واختلافاتهم. وقد أملى ابن دقيق العيد هذا الشرح على تلميذه عماد الدين بن الأثير. وقد طُبع هذا الكتاب بالقاهرة سنة (1342هـ= 1924م) واعتنى بنشره محمد منير الدمشقي.
وإلى جانب هذا له شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه، وشرح مختصر الزبيدي في فقه الشافعية، وشرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية، غير أن هذه الكتب فُقدت ولم يصل إلينا منها شيء.
وله جملة من الفتاوى والمباحثات الفقهية والأصولية، لا يجمعها كتاب، وقد أورد السبكي في طبقات الشافعية نماذج منها، وقد صدرها بقوله: "فوائد الشيخ تقي الدين ومباحثه أكثر من أن تُحصى، ولكنها غالبًا متعلقة بالعلم من حيث هو؛ حديثًا وأصولاً وقواعد كلية".
الأديب الشاعر
كان ابن دقيق العيد على انشغاله بالفقه والحديث أديبًا بارعًا، وخطيبًا مفوهًا، وشاعرًا مجيدًا، ولو انصرف إلى الأدب لكان له منزلة ومكانة، ويجمع معاصروه على براعته في الخطابة وتفوقه فيها، فكان يملك أفئدة الناس بأسلوبه المؤثر ونبراته الصادقة، وعظاته البالغة، وذكر السبكي أن لابن دقيق العيد "ديوان خطب". وله أيضًا "ديوان شعر" جمعه صلاح الدين الصفدي المؤرخ المعروف، ونُشر بالقاهرة.
قاضي القضاة
تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة في أخريات حياته في (18 من جمادى الأولى 695هـ= من مارس 1296م) بعد وفاة القاضي ابن بنت الأعز، وقبله بعد تردد وإلحاح، وكانت فترة توليه القضاء على قصرها من أكثر سني عمره خطرًا وأعظمها شأنًا، فقد أصبح على اتصال وثيق بالسلطان وكبار رجال الدولة، لكن كان له من ورعه ودينه وعلمه ما يجعله يجهر بالحق ويدافع عنه، فلا يقبل شهادة الأمير؛ لأنه عنده غير عدل، وإن كان الكبراء والعلماء يتملقونه ويقتربون إليه، فرد شهادة "منكوتمر" نائب السلطنة حين بعث إليه يعلمه أن تاجرًا مات وترك أخًا من غير وارث سواه، وأراد منه أن يثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث بناء على هذا الإخبار، فرفض ابن دقيق العيد، وترددت الرسل بينهما، لكن القاضي كان يرفض في كل مرة، على الرغم من إلحاح منكوتمر عليه؛ لأن الأدلة لم تكن كافية لإثبات أخوة المذكور إلا شهادة منكوتمر، وأمام إصرار نائب السلطنة، استقال ابن دقيق من منصب القضاء احترامًا لنفسه وإجلالاً لمنصب القضاء، فلما بلغ السلطان "حسام الدين لاجين" ذلك أنكر على نائبه تصرفه في التدخل في عمل القضاء، وأرسل في طلب الشيخ، فلما جاء قام إليه وأجلسه بجواره، وأخذ يسترضيه ويتلطف به حتى قبل أن يعود إلى منصبه.
ويذكر له وهو في منصبه أن رفض قيام السلطان "الناصر محمد بن قلاوون" بجمع المال من الرعية لمواجهة التتار، معتمدًا على الفتوى التي أصدرها العز بن عبد السلام بجواز ذلك أيام سيف الدين قطز، وقال للسلطان: إن ابن عبد السلام لم يفت في ذلك إلا بعد أن أحضر جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، ثم قال له في شجاعة: كيف يحل مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرض لدرهم من أولاد الناس إلا بوجه شرعي" واضطر السلطان أن يرضخ لكلام القاضي الشجاع.
ولا شك أن ابن دقيق العيد قد ارتفع بمنزلة القاضي وحافظ على كرامة منصبه، فتطبيق الأحكام الشرعية هو سبيله إلى العدل دون تفرقة، والالتزام بالحق هو الميزان الذي يستعمله في قضاياه وفتاواه، فحين رأى بعض الناس تستحلّ أموال اليتامى القصّر الذين لا يستطيعون التصرف فيما يرثونه من أموال أنشأ ما يسمى "المودع الحكمي"، وهو شبه في زماننا "الديوان الحسبي" تُحفظ فيه أموال اليتامى الصغار، يقول ابن حجر العسقلاني: "وهو أول من عمل المودع الحكمي، وقرر أن من مات وله وارث إن كان كبيرًا أقبض حصته، وإن كان صغيرًا أحمل المال في المودع، وإن كان للميت وصي خاص ومعه عدول يندبهم القاضي لينضبط أصل المال على كل تقدير".
وكان ابن دقيق معنيًا بشئون القضاة الذين يتبعونه في الأقاليم، فيرسل إليهم الرسائل المطولة التي ترسم لهم ما يجب عليهم أن ينتهجوه ويلتزموه في أحكامهم، وكيفية معالجة قضايا الناس، وتضمنت رسائله أيضًا وصاياه لهم بالتزام العدل وتطبيق أحكام الشرع.
وفاة الشيخ
يذكر عدد كبير من المؤخرين أن ابن دقيق العيد كان على رأس المائة السابعة الذي حدد للأمة أمر دينها بعلمه الغزير واجتهاده الواسع، وشهد له معاصروه بالسبق والتقدم في العلم، فقد كان ضليعًا في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية. ويؤكد السبكي ذلك فيقول: "ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا".
وقضى الشيخ حياته بين التأليف والتدريس نهارًا، والعبادة والصلاة ليلاً، حتى لقي الله في يوم الجمعة (11 من صفر 702هـ=5 من أكتوبر 1302م).
من مصادر الدراسة:
• عبد الوهاب السبكي: طبقات الشافعية الكبرى – تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو – دار هجر للطباعة والنشر – القاهرة – 1413هـ=1992م.
• الأدفوي: الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد – تحقيق سعد محمد حسن – الدار المصرية للتأليف والترجمة – القاهرة – 1966م.
• الإسنوي: طبقات الشافعية – تحقيق عبد الله الجبوري – رئاسة ديوان الأوقاف – بغداد – 1390هـ.
• محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي – مكتبة الآداب – القاهرة – بدون تاريخ.
• علي صافي حسين: ابن دقيق العيد حياته وديوانه – دار المعارف – القاهرة – 1960م.
ابن سيرين
عُرف محمد بن سيرين بالزهد والورع، وكان محدثًا بارعًا وفقيهًا متمكنًا، وقد اجتمع على حبه أهل زمانه، حيث وجدوا فيه من العلم والحكمة والأدب والزهد والتواضع ما جعله يتربع في أفئدتهم ونفوسهم وعقولهم ويحظى بتلك المنزلة الرفيعة.
الميلاد والنشأة
ولد أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (33 هـ = 653م)، فهو من التابعين الذين عُرفوا بالزهد والورع، وكان إمام عصره في علوم الدين، وقد اشتهر بالعلم والفقه وتعبير الرؤيا.
وكان أبوه مولى لأنس بن مالك، وهو من سبي "عين التمر"، وقد كاتبه أنس على عشرين ألف درهم، فأداها وعُتِقَ. وكانت أمه صفية مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
شيوخه وتلاميذه
وقد سمع محمد بن سيرين من عدد من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله البجلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وعدي بن حاتم، وسليمان بن عامر، وأم عطية الأنصارية.
كما سمع من عدد من التابعين منهم: عبيدة السلماني، ومسلم بن يسار، وشريح، وقيس بن عباد، وعلقمة، والربيع بن خيثم، ومعبد بن خيثم، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأخته حفصة بنت أبي بكر، وغيرهم كثيرون.
وذكر أنه أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وروى عنه عدد كبير من التابعين، منهم: الشعبي وأيوب، وقتادة وسليمان التيمي وغيرهم.
زهده وورعه
كانت حياة ابن سيرين تفيض بالروحانية وتشع بالزهد والورع، فقد كان كثير الصوم والذكر، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائمًا.
وكان دائم الذكر والدعاء لله ، وكان له سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه في النهار، وكان يحيي الليل في رمضان.
روى هشام بن حسان قال: "ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلي،
وكان إذا ذُكر الموت مات كل عضو منه على حِدَتِهِ، وتغيّر لونه واصفر، وكأنه ليس بالذي كان". وقد وصفه الحافظ أبو نعيم في طبقاته بقوله: "كان ذا ورع وأمانة وحيطة وحسانة، كان بالليل بكّاء، وبالنهار بسّامًا سائحًا، يصوم يومًا ويفطر يومًا". وقال عنه بكر بن عبد الله المزني: "من سره أن ينظر إلى أورع أهل زمانه؛ فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه".
قدوة حتى في السجن
وكان ابن سيرين على قدر من الثراء، وكان له ثلاثون ولدًا، ولكنه امتُحن بفقد المال والولد؛ فقد توفي أبناؤه جميعًا فلم يبق منهم غير عبد الله.
كما فقد أمواله حينما أصيب بخسارة كبيرة في تجارته، وقد تعرض للسجن، فقد حُبس في دين ركبه لغريمٍ له، فقد كان اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في زقٍ من هذه الصفقة فأرة، فما كان منه إلا أن صب الزيت كله، ولم يبع شيئًا منه، فقد أبت عليه أمانته وخلقه وورعه أن يطعمه الناس أو يبيعهم إياه؛ حيث ظن أن الفأرة كانت في المعصرة.
وقد ضرب ابن سيرين أروع الأمثلة في الأمانة والصدق وحسن الخلق حتى وهو في سجنه، حيث إنه لمّا حبس في دينه، وهو من هو في زهده وورعه وعلمه، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق وعرفه الناس وعلموا فضله ومكانته، فقد تعاطف معه سجانه، وأبت عليه مروءته أن يبات هذا العالم الجليل في جنبات السجن، وأن يقضي ليله خلف القضبان كالمجرمين، فقال له: "إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، وإذا أصبحت فتعال"، فما كان من ذلك العالم القدوة إلا أن أجابه بثقة وإيمان: "لا والله لا أعينك على خيانة السلطان".
وتجلت أمانته وصدقه في موقف آخر تعرض له وهو في سجنه أيضا؛ فحينما حضرت الوفاة أنس بن مالك أوصى أن يغسّله محمد بن سيرين، فلما أتوه في ذلك قال: "أنا محبوس"! قالوا: قد استأذنّا الأمير فأذن لك. فإذا به يجيبهم بتلك الهمة العالية، والوعي الشديد: "إن الأمير لم يحبسني، وإنما حبسني الذي له الحق"، فلما أذن له صاحب الحق خرج فغسّله.
في حياته الخاصة
كان ابن سيرين مثالا صادقًا للمسلم الحق وللخلق الرفيع، وكانت حياته حافلة بالصور الرائعة للأمانة والزهد والبر والتواضع، يقدم في حياته وسلوكه القدوة والنموذج للداعية الواعي والعابد المخلص والصديق الناصح والابن البار والعالم المجتهد والتاجر الأمين.
لقد كان بارًا بأمه شديد اللين والتواضع لها، يخفض لها جناح الذل والرحمة حتى لا يُسمع له صوت بحضرتها ولا يكلمها إلا عن ضعف وخضوع، حتى قال عنه بعض آل سيرين: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه إلا وهو يتضرع".
تغلب ابن سيرين على محنته بالصبر والإيمان والتسليم بقضاء الله ، فحينما ركبه الدين لم يقنط ولم ييئس، وإنما كان صابرًا شاكرًا، ووجد في الزهد الدواء لكل داء، ووجد في الذكر والدعاء البرء والشفاء، فخفّف من مطعمه حتى كان أكثر أدمه السمك الصغار، ووصل ليله بنهاره في الصلاة والذكر والدعاء.
ثناء العلماء والفقهاء عليه
نال ابن سيرين حب وثناء وتقدير الكثير من العلماء ممن عاصروه وممن جاءوا من بعده، وشهد له كثيرون بالفضل والزهد والورع والعلم والفقه.
فقال عنه الخطيب البغدادي في تاريخه: "كان ابن سيرين أحد الفقهاء المذكورين بالورع في وقته". وقال عنه مورق العجلي: "ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين". وقال ابن عون: "كان ابن سيرين من أرجى الناس لهذه الأمة وأشدهم أزرًا على نفسه". وقال عثمان البتي: "لم يكن بهذه البلدة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين". وقال خلف: "كان محمد بن سيرين قد أُعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله". وقال يونس بن عبيد: "أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما". وقال سفيان بن عيينة: لم يكن في كوفي ولا بصرى ورع مثل ورع محمد بن سيرين".
رواياته من الحديث
روى محمد بن سيرين عددًا من الأحاديث، فقد سمع عن عدد من الصحابة وروى عنهم، ومما أسند ابن سيرين من أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم فإنما أطعمه الله وسقاه" أخرجه البخاري.
وروى أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه" أخرجه البخاري. وروى عنه أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من هم بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت" أخرجه مسلم.. وقد بلغ عدد مروياته في الكتب التسعة (874) حديثًا.
آثاره ومؤلفاته
عرف ابن سيرين بالحكمة والزهد، وكان بليغًا فصيحًا في مواعظه، ومن أقواله التي صارت تجري مجرى الأمثال لفصاحتها وبلاغتها، ويسرها: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه".. "ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره".. "الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف".. "لا تكرم أخاك بما يشق عليك".. "العزلة عبادة".
تفسير الأحلام
ويعد ابن سيرين الرائد الأول لعلم تفسير الأحلام، وهو أول من أفرد له التصانيف، وجعله علمًا له أدواته وأصوله وقواعده وشروطه.
وقد صنف ابن سيرين كتابين يعدان أساسًا لمن صنّف بعده في هذا الفن وهما: تعبير الرؤيا، وتفسير الأحلام الكبير. وقد طبعا مرارًا.
منهجه في تفسير الأحلام
أوضح ابن سيرين في مقدمة كتابه "تعبير الرؤيا" شروط تعبير الرؤيا التي يجب أن يكون عليها من يتعرض لهذا الفن، فيقول: "إن الرؤيا لما كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، لزم أن يكون المعبر عالمًا بكتاب الله ، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرًا بلسان العرب واشتقاق الألفاظ، عارفًا بهيئات الناس، ضابطًا لأصول التعبير، عفيف النفس، طاهر الأخلاق، صادق اللسان؛ ليوفقه الله لما فيه الصواب ويهديه لمعرفة معارف أولي الألباب".
ويرى ابن سيرين أن الرؤيا قد تُعبّر باختلاف أحوال الأزمنة والأوقات، فتارة تعبر من كتاب الله ، وتارة تعبر من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قد تعبر بالمثل السائر. فأما التأويل من القرآن فكالبيض يُعبّر عنها بالنساء ، لقوله تعالى: "كأنهن بيض مكنون"، وكالحجارة يعبر عنها بالقسوة، لقوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
وأما التأول من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فكالضلع يعبر عنه بالمرأة؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، وكالفأرة يعبر عنها بالمرأة الفاسقة لقوله (صلى الله عليه وسلم) "الفأرة فاسقة"، وكالغراب الذي يعبر عنه بالرجل الفاسق؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه فاسقًا.
نماذج من تفسير الرؤيا عنده
جعل ابن سيرين لكل رمز من الرموز التي يراها النائم في منامه معنى يدل عليه في سياق الجو الذي يحيط به والملابسات والحوادث التي يظهر من خلالها؛ فمن رأى أنه دخل الجنة، فإنه يدخلها، وهي بشارة له بما تقدم من صالح الأعمال، فإن رأى أنه يأكل ثمارها، أو أعطاها غيره فإن ثمار الجنة كلام طيب، مثل كلام البر والخير بقدر ذلك.
أما رؤيا المطر فإنها دليل غيث ورحمة، وكذلك الغمام، فإن كان خاصًا في موضع دار أو محلة دون غيرها كان ذلك أوجاعًا أو أمراضًا، أو خسارة في الدنيا تقع بأهل ذلك الموضع المخصوص بها.
ورؤية الحية تأويلها عدو كاتم العداوة مبالغ فيها بقدر عظم الحية وهيبتها في المنظر. والنور في التأويل هداية. والظلمة ضلال. والطريق طريق الحق، والميل عنه ميل إلى الباطل. والأسد عدو متسلط ذو سلطان وبأس شديد. أما الكلب فعدو غير بالغ في عدواته، وقد ينقلب صديقًا، ولكنه دنيء النفس قليل المروءة.
وفاته
توفي ابن سيرين بالبصرة في (9 من شوال 110هـ = 15 من يناير 729م) عن عمر بلغ نحو ثمانين عامًا.
أهم مصادر الدراسة:
• تاريخ بغداد: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي- دار الكتب العلمية – بيروت: د.ت.
• تهذيب الأسماء واللغات: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي- مكتب ابن تيمية – القاهرة: د.ت.
• حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني- دار الكتب العلمية – بيروت: 1409 هـ = 1988م.
• صفة الصفوة: جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي – تحقيق: محمود فاضوري- دار المعرفة – بيروت: د.ت.
المعارف: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري – تحقيق: د. ثروت عكاشة- دار المعارف بمصر – القاهرة: 1389 هـ = 1969م.
بن كثيرالدمشقي
هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير
بن زرع القرشي ولد سنة 700هـ في منطقة ((مجدل القرية)) وهي قرية من
نواحي مدينة بصرى بالشام ويعود أصله من البصرة التي نزح منها إلى
الشام أخذ مبادئ العلوم عن أخيه عبدالوهاب ثم انتقل إلى دمشق عند
بلوغه الخامسة فتلقى بها شتى أنواع العلم خاصة في التفسير
والحديث والفقه أما عن شيوخه فيعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية
مرجعه الأساسي الذي استفاد منه ومن شيوخه في الفقه الشيخ برهان
الدين الغزاري المعروف بابن الفركاح أما أشهر من سمع منهم الحديث فهم
أحمد بن أبي طالب المعمر وجمال الدين المزي الذي تزوج ابن كثير
بابنته ومن الأعلام المحدثين الذين تتلمذ عليهم الحافظ شمس الدين
الذهبي شغل ابن كثير منصب الخطابة بجامع المزة وخلف شيخه
الذهبي في تدريس الحديث وشغل كرسي التدريس بالجامع الأموي في
التفسير وله العديد من المؤلفات توفي ابن كثير رحمه الله في
شعبان سنة 774هـ عن عمر ناهز أربع وسبعين عاماً ودفن في مقبرة
الصوفية بجانب شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى
ابن ماجه
فتحت قزوين في خلافة عثمان بن عفان، وأصبح البراء بن عازب الصحابي الجليل أول والٍ عليها سنة (24هـ= 644م) ومنذ ذلك الحين دخلها الإسلام، واستوطنها الفاتحون العرب، وتسرب إليها اللسان العربي، وما كاد يطل القرن الثالث الهجري حتى اكتسبت قزوين شهرة كبيرة في فن الحديث، وبرز فيه عدد كبير من المحدثين، مثل: الحافظ علي بن محمد أبي الحسن الطنافسي المتوفى سنة (233هـ= 847م)، والحافظ عمرو بن رافع البجلي المتوفى سنة (237هـ= 851م)، وإسماعيل بن توبة المتوفى سنة (247هـ=861م)، وابن ماجه صاحب السنن موضع حديثنا.
وبلغ من مكانة قزوين واتساع الحركة العلمية فيها أن خصها بعض أبنائها بالتأريخ لها، وترجمة أعيانها وعلمائها، ومن أشهر هذه الكتب: التدوين في أخبار قزوين للحافظ الرافعي المتوفى سنة (622هـ= 1225م).
استقبلت قزوين مولد أبي عبد الله محمد بن يزيد الربعي، المعروف بابن ماجه سنة (209هـ= 824م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم تموج بالحركة والنشاط العلمي، وتزخر بحلقات العلماء والفقهاء، شأنها في ذلك شأن المراكز العلمية الأخرى ذات الإشعاع الحضاري، مثل: بغداد، والكوفة، والبصرة، ومرو، وأصفهان، وكانت الدولة العباسية تعيش أزهى فتراتها قوة وحضارة، وكان المأمون رجل المرحلة، ورائد النهضة ومفجر الطاقات.
في هذا الجو العلمي عاش ابن ماجه حياته الأولى؛ فحفظ القرآن الكريم، وتردد على حلقات المحدثين التي امتلأت بها مساجد قزوين، حتى حصّل قدرًا كبيرًا من الحديث ثم تطلع إلى الرحلة في طلب الحديث، وكانت من تقاليد العصر التي التزمها كبار المحدثين لملاقاة الشيوخ، استنادًا إلى نصوص الحديث التي تحث على طلب العلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة"، وقد صدّر الإمام البخاري كتاب العلم في صحيحه بباب الخروج في طلب العلم، وجاء في مقدمة الباب: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وبلغ من أهمية الرحلة في طلب الحديث أن وضع فيها مؤلفات تضم الأصول والإرشادات التي على طالب العلم المرتحل أن يتتبعها، ويلتزم بها.
الرحلة في طلب الحديث
ولم يشذ ابن ماجه عن هذا التقليد العلمي المتبع، فخرج سنة (230هـ = 844م) وهو في الثانية والعشرين من عمره في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم، فرحل إلى خراسان، والبصرة والكوفة، وبغداد ودمشق، ومكة والمدينة، ومصر، ومن شيوخه إبراهيم بن المنذر تلميذ البخاري المتوفى سنة (236هـ= 850م)، والحافظ الحلواني أبو محمد حسن بن علي بن محمد الخلال، والحافظ الزبير بن بطار، وسلمة بن شبيب، والحافظ يعقوب بن حميد، وإسماعيل بن موسى الفزاري، وحرملة بن يحيي، وزهير بن حرب.
وبعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين، واستقر بها، منصرفًا إلى التأليف والتصنيف، ورواية الحديث بعد أن طارت شهرته، وقصده الطلاب من كل مكان، من أمثال: إبراهيم بن دينار الجرشي، وإسحاق بن محمد القزويني، وسليمان بن يزيد القزويني، وابن الحسن بن قطان، وأبي بكر حامد الأبهري وغيرهم.
مؤلفاته
كان ابن ماجه موضع ثقة معاصريه وتقديرهم، معدودًا في كبار الأئمة وفحول المحدثين، فيصفه صاحب كتاب التدوين في تاريخ قزوين بأنه "إمام من أئمة المسلمين، كبير متقن، مقبول باتفاق". ويقول عنه الذهبي: "إنه حافظ صدوق واسع العلم". ولم تكن شهادة المؤرخين له بالسبق والتقدم إلا لسعة علمه ولما ترك من كتب ومصنفات، غير أن معظمها قد امتدت إليه يد الإهمال والنسيان، فضاع مع ما ضاع من ذخائر تراثنا العظيم، فكان له تفسير للقرآن وصفه ابن كثير في كتابه البداية بأنه تفسير حافل، وأشار إليه السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، وله أيضًا كتاب في التاريخ ظل موجودًا بعد وفاته مدة طويلة، فقد شاهده الحافظ ابن طاهر المقدسي المتوفى سنة (507هـ= 1113م)، ورأى عليه تعليقًا بخط جعفر بن إدريس تلميذ ابن ماجه، وقال عنه ابن كثير بأنه تاريخ كامل، ووصفه ابن خلكان بأنه تاريخ مليح.
سنن ابن ماجه
غير أن كتابه "السنن" هو ما بقي من كتبه، وقد طبقت شهرته الآفاق، وبه عرف ابن ماجه، واحتل مكانته المعروفة بين كبار الحفاظ والمحدثين، وقد عد الكتاب رابع كتب السنن المعروفة، وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومتمم للكتب الستة التي تشمل إلى ما سبق صحيح البخاري ومسلم، وهي المراجع الأصول للسنة النبوية.
والمتقدمون من العلماء كانوا يعدون هذه الكتب الأصول خمسة ليس من بينها سنن ابن ماجه، غير أن المتأخرين أدخلوها ضمن الكتب الستة المعتمدة، وأول من جعلها كذلك هو الإمام الحافظ ابن طاهر المقدسي، الذي وضع كتابًا في شروط الأئمة الستة، وآخر في أطراف الكتب الستة، أي في جميع الأحاديث التي تشتمل عليها، وبعد ذلك اتفق معه في الرأي جميع الأئمة.
وكان العلماء قد بحثوا أي المصنفين يكون السادس بين كتب الصحاح: موطأ الإمام مالك أم سنن ابن ماجه، ويجيب على هذا العلامة المحدث عبد الغني النابلسي المتوفى سنة (1143هـ= 1730م)، فيقول في مقدمة كتابه: "ذخائر المواريث في الدلالة على موضع الحديث": "وقد اختُلف في السادس، فعند المشارقة هو كتاب السنن لأبي عبد الله محمد بن ماجه القزويني، وعند المغاربة الموطأ للإمام مالك بن أنس، ولكن عامة المتأخرين اتفقوا على أن سنن ابن ماجه هو أولى من الموطأ، وهو السادس في الصحاح". وقال السخاوي: "وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ".
خصائص سنن ابن ماجه وشروحه
اشتهر الكتاب بدقة تبويبه وكثرتها، فهو يشتمل على مقدمة وسبعة وثلاثين كتابًا، وألف وخمسمائة باب، تضم أربعة آلاف وثلاثمائة وواحدا وأربعين حديثًا، ومن هذه الأحاديث 3002 حديث اشترك معه في تخريجها أصحاب الكتب الخمسة، وانفرد هو بتخريج 1329 حديثًا، وهي الزوائد على ما جاء في الكتب الخمسة، من بينها 428 حديثًا صحيح الإسناد و119 حديثًا حسن الإسناد، وهذا ما أشار إليه ابن حجر بقوله: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة صحيحة".
وقد لقي الكتاب عناية من كبار الحفاظ والمحدثين فأولوه عناية بالشرح، ومن هذا الشروح:
• شرح سنن ابن ماجه، للحافظ علاء الدين مغلطاي، المتوفى سنة (762هـ= 1360م)
• ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه، لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن، المتوفى سنة (804هـ- 1401م)، واقتصر فيه على شرح الأحاديث التي انفرد بروايتها ابن ماجه، ولم تدرج في كتب الصحاح الخمسة.
• الديباجة في شرح سنن ابن ماجه، للشيخ كمال الدين محمد بن مرسي الدبيري، المتوفى سنة (808هـ= 1405م).
• مصباح الزجاجة في شرح سنن ابن ماجه، للجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة (911هـ= 1505م)
• شرح سنن ابن ماجه، للمحدث محمد بن عبد الهادي السندي، المتوفى سنة ( 1138هـ= 1725م)
وقد طبع الكتاب مبكرًا، فكان من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع العربية، فنُشر في الهند بدلهي سنة (1264هـ= 1847م)، وعليه حاشيتان، إحداهما: مصباح الزجاجة للسيوطي، والأخرى: إنجاح الحاجة لمولوي عبد الغني الدهلوي، ثم نشر بالقاهرة سنة (1313هـ= 1895م) وعليه حاشية السندي، وهو شرح مختصر يُعْنى بضبط غريب الألفاظ وبيان الإعراب بصفة خاصة، ثم نشرت السنن وحققها تحقيقا علميا العالم الجليل محمد فؤاد عبد الباقي، ورقّم كتبها وأبوابها وأحاديثها في سنة (1371هـ= 1951م)، وقد صدرت في مجلدين ومزودة بفهارس متعددة تعين الباحث على الوصول إلى الحديث في سهولة ويسر.
وفاة ابن ماجه
أمضى ابن ماجه بقية عمره في قزوين خادمًا للحديث معنيًا بروايته، مقبلا على تلاميذه حتى توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء الموافق (22 من رمضان 273هـ= 20 من نوفمبر 886هـ).
من مصادر الدراسة:
• ابن ماجه ـ سنن ابن ماجه ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.
• الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
• ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار صادر ـ بيروت ـ (1398هـ= 1978م)
• المقريزي ـ المقفى الكبير ـ تحقيق محمد اليعلاوي ـ دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ـ (1411 هـ- 1991م)
• عبد العزيز عزت عبد الجليل ـ الإمام ابن ماجه صاحب السنن ـ مطبوعات مجلة الأزهرـ القاهرة 1410هـ.
عبد الرحمن عتر ـ معالم السنة النبوية ـ مكتبة المنارـ الأردن ـ (1406هـ= 1986م)
أبو بكر الطرطوشى
كان المسلمون الأوائل يعتقدون أن الإقامة في الرباطات والحياة في الثغور نوع من الجهاد، لأنهم يحرسون الحدود ويكونون طلائع الجيوش الإسلامية التي تصد هجمات الأعداء، وكانت الإسكندرية واحدة من تلك الثغور التي احتشدت بالمجاهدين والمرابطين منذ فتحها عمرو بن العاص وأشرق عليها نور الإسلام، وجذبت إليها عددًا كبيرًا من المسلمين وبخاصة من المغرب والأندلس.
وكان المسلمون في هذه البلاد النائية يمرون بالإسكندرية وهم في رحلتهم الشاقة إلى الحجاز للقيام بمناسك الحج، أو في طريقهم إلى حواضر العلم في المشرق الإسلامي لتلقي العلم ومشافهة العلماء والأخذ منهم، فإذا ما ألقوا رحالهم وطلبوا الراحة من وعثاء السفر، عاودوا رحلتهم إلى حيث يريدون.
وكان كثير من هؤلاء المارين تجذبهم الحياة في الإسكندرية فيقيمون بها ويتخذونها موطنًا لهم، فينالون شرف المرابطة في الثغور، أو المساهمة في إثراء حلقات العلم التي كانت تمتلئ بها مساجد الإسكندرية، وذلك إن كانوا من حملة العلم والفقه.
وازداد توثق الإسكندرية بالمغرب قوة وترابطًا بعد قيام الدولة الفاطمية، وهي التي قامت في بلاد المغرب ثم انتقلت إلى مصر وأنشأت القاهرة واتخذتها عاصمة لها، وأصبح المغرب منذ ذلك الحين ولاية تابعة لمصر، وكان من شأن هذا أن كثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر وإلى ثغرها البديع، ومن بين من جذبتهم الإسكندرية للحياة فيها العالم الزاهد والفقيه الكبير: أبو بكر الطرطوشي.
المولد والنشأة
في مدينة طرطوشة الأندلسية ولد أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف المعروف بأبي بكر الطرطوشي نسبة إلى بلده، وهي مدينة كبيرة تقوم على سفح جبل إلى الشرق من مدينتي بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلا، ومحاطة بسور منيع له أربعة أبواب، وبها دار لصناعة السفن، وتزدهر بها التجارة، وتعمر أسواقها بالبضائع وكان مولده في (26 من جمادى الأولى 451 هـ = 10 من يوليو 1059م).
وكانت طرطوشة يومئذ ثغر مملكة سرقطسة التي تتمتع في ظل أمرائها من بني هود بالرخاء وسعة العيش، وفي الوقت نفسه كانت من حواضر العلم في الأندلس، وتموج بالعلماء وحلقاتهم التي تمتلئ بطلبة العلم، وكان أبو الوليد الباجي أحد علمائها الكبار الذين تُشدّ إليهم الرحال، وعُدّ إمام عصره في الفقه وفي مسائل الخلاف.
حفظ الطرطوشي في بلده القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتاب، ودرس شيئا من الفقه قبل أن ينتقل إلى مدينة سرقسطة ويتصل بكبير علمائها أبي الوليد الباجي، ويتتلمذ عليه وهو في العشرين من عمره أو نحوها، أي حوالي سنة (470 هـ = 1077م)، وظل ملازمًا له ينهل من علمه الواسع ويتأثر بمنهجه في التفكير.
الرحلة إلى المشرق
غادر الطرطوشي وطنه سنة (476 هـ = 1083م) وهو فتى غض الإهاب في السادسة والعشرين إلى المشرق العربي، فنزل مكة، وأدى مناسك الحج وألقى بعض الدروس، ثم قصد بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وملتقى أئمة العلم، ومحط طلاب المعرفة من أرجاء الدنيا، وكان الوزير نظام الملك قد أنشأ المدارس التي سميت باسمه "المدارس النظامية" وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للعلم، يتفرغ فيها المعلمون للتدريس والتلاميذ للتعلم، وأوقف عليها أموالا طائلة حتى تنهض برسالتها السامية، وقد شهد الطرطوشي نظامية بغداد وهي في أوج تألقها وازدهارها، وتتلمذ بها.
وفي بغداد تفقه الطرطوشي على عدد من أعلام بغداد، فتتلمذ على كبير الفقهاء الشافعية في بغداد أبي بكر الشاشي، وكان يتولى التدريس بالمدرسة النظامية، ولزم أبا أحمد الجرجاني، وأبا سعد بن المتولي، وهم يومئذ أئمة الفقه الشافعي، ثم رحل إلى البصرة وتتلمذ فيها على أبي علي التستري المتوفى سنة (479 هـ = 1086م) وسمع منه سنن أبي داود.
ثم رحل إلى الشام، وطوّف في مدنه، فزار حلب وإنطاكية ونزل بمدينة بيت المقدس –رد الله غربتها، وأعادها إلى أحضان المسلمين، وخلصها من رجس اليهود-، وتجمع المصادر التي ترجمت له على أنه قضى الفترة التي عاشها في الشام معلمًا متمكنًا تهفو إلى علمه النفوس وتقبل عليه القلوب، وكان لزهده وورعه أثر في ذلك فاجتمع عليه الناس أينما حل.
في الإسكندرية
اتجه الطرطوشي بعد إقامته في الشام فترة من عمره إلى الإسكندرية تسبقه سمعته الطيبة وتهيئ له مكانًا في القلوب، فاشتاقت إلى رؤيته، ونزل الثغر في سنة (488 هـ = 1095م) وكانت مصر في تلك الفترة قد أمسك بزمامها الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، الذي استبد بالحكم دون الخلفاء الفاطميين، فلم يعد لهم حول ولا قوة، وأصبح تصريف الأمور كلها في يد الوزير القوي.
استقر الطرطوشي في الإسكندرية وأقبل عليه طلاب العلم، وامتلأت حلقاته الدراسية بالراغبين في تعلم الفقه والحديث ومسائل الخلاف، ولم يمض وقت على مجيئه حتى تزوج بسيدة موسرة من نساء الإسكندرية، فتحسنت أحواله ولانت له الحياة، ووهبته دارًا من أملاكها، فاتخذ من دورها العلوي سكنا له معها، وجعل طابقها السفلي مدرسة يلقي فيها دروسه.
الدين النصيحة
وبعد أن استقرت به الحياة خرج الطرطوشي إلى القاهرة عاصمة البلاد وحاضرة الخلافة الفاطمية، وفي أثناء إقامته هناك زار الوزير الكبير الأفضل بن بدر الجمالي، لا ليمدحه أو يقدم له آيات الشكر، وإنما لينصحه ويعظه دون نظر إلى مكانته وهيبته، فقد امتلأ قلب الطرطوشي بخشية الله والخوف منه، فانتزع منه كل خوف لما سواه، واستوى عنده كل شيء، وهذا ما عبر عنه أحد الصالحين حين شاهد الطرطوشي وحضر دروسه في الشام فقال: "الذي عند أبي بكر الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره.. دينه".
ومما قاله الطرطوشي لهذا الوزير: "... واعلم أن هذا الملك الذي أصبحت فيه إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك مثل ما صار إليك؛ فاتق الله فيما حولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، قال الله تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون".
العلم في الهواء الطلق
عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية ليستأنف نشاطه وسيرته الأولى مع تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت له طريقة محببة جعلت قلوب تلامذته تتعلق به وتأنس معه، فلم يكتف بما يعقده لهم من حلقات دراسية في بيته أو في المسجد، بل كان يصطحبهم في رحلات إلى البساتين والأماكن الجميلة، وهناك في الهواء الطلق يلقي دروسه أو يذكرهم بما حفظوه ودروسه.
وأترك أحد تلامذته يصف لنا ما يحدث في تلك الرحلات حيث يقول: "كان صاحب نزهة مع طلبته في أكثر الأوقات، يخرج معهم إلى البستان، فيقيمون الأيام المتوالية في فرحة ومذاكرة ومداعبة مما لا يقدح في حق الطلبة، بل يدل على فضلهم وسلامة صدرهم، وخرجنا معه في بعض النزهة فكنا ثلاثمائة وستين رجلا لكثرة الآخذين عنه المحبين في صحبته وخدمته".
غير أن هذا الإقبال جلب له خصومة قاضي المدينة "مكين الدولة بن حديد"، وزادها اشتعالا ما كان يثيره الطرطوشي من نقد حول تصرفات القاضي المالية حول المكوس والمغارم الظالمة، وكذلك أطلق الطرطوشي لسانه في نقد كثير من العادات التي تنافي الشرع الحكيم، وقد جمعها في كتاب أطلق عليه "بدع الأمور ومحدثاتها"، وأصدر فتاوى أثارت الرأي العام مثل فتواه بحرمة تناول الجبن الذي يأتي به الروم إلى المدينة.
وقد ضاق قاضي المدينة وأعوانه بمسلك الطرطوشي، وبعثوا على الوزير الأفضل بشكاواهم، وصدّر الوزير الأمر على أنه بداية للخروج على النظام وإثارة للشغب، ولا بد من التصرف بشدة مع الطرطوشي الذي اجتمع عليه الناس لعلمه وورعه وزهده، وما كان من الوزير إلا أن بعث في طلب الطرطوشي، فلما قدم عليه قابله مقابلة طيبة، وأمره بالإقامة في مسجد الرصد بالفسطاط، ومنع الناس من الاتصال به، وقرر له راتبًا شهريًا، وسمح لخادمه بالإقامة معه. وظل الطرطوشي محدد الإقامة منذ أواخر سنة (514 هـ = 1120م) حتى (شوال سنة 515 هـ = 1121م)، ثم انكشفت الغمة بمقتل الأفضل وتولي مأمون البطائحي أمور الوزارة، فأفرج عن الشيخ وأحسن وفادته.
سراج الملوك
عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية واستأنف حياته السابقة: حياة الدرس والإقراء، وبدأ يؤلف كتابًا في فن السياسة والحكم، وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتم هذا الكتاب في سنة واحدة وسماه "سراج الملوك" وتوجه به إلى القاهرة (516 هـ = 1122م) ليقدمه إلى الوزير الجديد "مأمون البطائحي"، فاستقبله أحسن استقبال وجلس بين يديه؛ إمعانًا في التقدير والإجلال، وأغدق عليه عطفه ورعايته.
ولم يكن الطرطوشي ليكتفي بالاستقبال الطيب دون أن يعرض عليه ما يراه منافيًا للشرع، وبخاصة فيما يتعلق بالنظم المتبعة للمواريث، حيث كان القضاة الشيعة يفتون بأن ترث البنت كل تركة أبيها إذا كانت وحيدة لا أخ لها ولا أخت، وكان هذا مخالفًا للشرع؛ حيث تحرم العصبة من المشاركة في الميراث، فلما عرض الطرطوشي الأمر على الوزير وذكّره بأن هذا مخالف للمذاهب السُّنّية التي تقضي بألا ترث البنت في هذه الحالة أكثر من نصف التركة، وبعد مناقشة طويلة اعتذر الوزير بأنه لا يملك تغيير ما يقضي به المذهب الشيعي، لكنه وافق على حل وسط يرضي المذهب الشيعي ويرضي ما يقوله الطرطوشي، وأصدر أمرًا للقضاة بأن يُتّبع في الميراث مذهب الميت، فإن كان سنيًا اتُّبع المذهب السني، وإن كان شيعيًا اتبع المذهب الشيعي.
موضوع الكتاب
وكتاب "سراج الملوك" يتألف من أربعة وستين فصلا تتناول سياسة الملك وفن الحكم وتدبير أمور الرعية، وقد تناول في كتابه الخصال التي يقوم عليها الملك، والخصال المحمودة في السلطان والتي تمكّن له ملكه، وتسبغ الكمال عليه، والصفات التي توجب ذم السلطان، وعرّج على ما يجب على الرعية فعله إذا جنح السلطان إلى الجور، وتناول صحبة السلطان وسيرته مع الجند، وفي اقتضاء الجباية وإنفاق الأموال.
وتحدث الطرطوشي في كتابه عن الوزراء وصفاتهم وآدابهم، وتكلم عن المشاورة والنصيحة باعتبارهما من أسس الملك، وعرض لتصرفات السلطان تجاه الأموال والجباية، ولسياسته نحو عماله على المدن، وتناول سياسة الدولة نحو أهل الذمة، وما يتصل بذلك من أحكام، وتحدث عن شئون الحرب وما تتطلبه من سياسة وتدبير.
وللطرطوشي إلى جانب هذا الكتاب القيم عدد آخر من الكتب منها: مختصر تفسير الثعالبي، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، في الفقه المالكي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب الفتن، وكتاب الحوادث والبدع، أو بدع الأمور محدثاتها.
وكان الطرطوشي إلى جانب تضلعه في أمور الشريعة ومسائل الخلاف أديبًا بارعًا، ويظهر ذلك في أسلوبه الرشيق الجميل في كتابه سراح الملوك، وكان شاعرًا محسنًا، وقد احتفظ كتابه هذا بنماذج طيبة من شعره، ظلت أبيات منها سائرة على الألسنة حتى يومنا هذا، مثل قوله:
إن لله عبادًا فطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
فكروا فيها، فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفنا
وفاة الشيخ
بلغ أبو بكر الطرطوشي مكانة عالية، وصار من أقطاب الفقه المالكي في عصره، وأصبح ملجأ الناس في الفتوى يلوذون به حتى تضل بهم السبل، ثقة منهم في علمه ودينه وأمانته، وتطلع إليه الحكام التماسًا للرأي والمشورة وطلبا للفتيا فيما يقدمون عليه من أعمال، فطلب منه عاهل دولة المرابطين "يوسف بن تاشفين" فتواه في إقدامه على خلع ملوك الطوائف في الأندلس لانغماسهم في اللهو وانصرافهم عن الرعية، فأفتاه بذلك، متفقًا مع ما أفتى به فقهاء المغرب والأندلس من جواز ذلك.
نجح الشيخ أثناء إقامته بالإسكندرية، من إحداث نشاط علمي وافر، وتتلمذ عليه عدد كبير من الفقهاء، حمل بعضهم الراية من بعده، مثل: سند بن عنان الذي خلف الطرطوشي في مدرسته، وأبي طاهر بن عوف، وكانت له مدرسة مستقلة.
ظل الطرطوشي يواصل عمله في مدرسته حتى توفي في (26 من جمادى الأولى 520 هـ = 20 من يونيو 1127م) وهو في التاسعة والستين من عمره.
من مصادر الدراسة:
• ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر بيروت.
• الذهبي: سير أعلام النبلاء – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1412 هـ = 1992م.
• جمال الدين الشيال: أبو بكر الطرطوشي – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – القاهرة – 1968م.
• محمد عبد الله عنان: تراجم شرقية وأندلسية – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1390 هـ= 1970م.
أبو زرعة الرازى
سيد الحفاظ
وصفه كتاب التراجم والسير بأنه سيد الحفاظ لقوة حفظه التي تميز بها بين أقرانه من أهل الحديث
إنه المحدث الإمام أبو زرعة الرازي الذي يقول عن نفسه: "أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد (سورة الإخلاص).
نسبه ونشأته
هو الإمام سيد الحفاظ عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ محدث الري ودخول الزاي في نسبته غير مقيس كالمروزي، ولد سنة 210هـ
بدأ طلب العلم وهو حدث فارتحل من الري وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأقام بالكوفة عشرة أشهر ثم رجع إلى الري ثم خرج في رحلته الثانية وغاب عن وطنه أربع عشرة سنة وجلس للتحديث وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وارتحل إلى الحجاز والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان ليتعلم على عدد من علماء الحديث، ومن شيوخه أحمد بن يونس اليربوعي والحسن بن بشر.
وروي عن ابن مهدي الرازي المعمر قال: هذا الشيخ عندي صدوق فانه قال رأيت أبا زرعة الرازي فقلت له كيف رأيته فقال أسود اللحية نحيف أسمر وهذه صفة أبي زرعة.
قوة حفظه
قال صالح بن محمد جزرة سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن إبراهيم ابن موسى الرازي مائة ألف حديث وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف فقلت له بلغني أنك تحفظ مائة ألف حديث تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظك قال لا ولكن إذا ألقي علي عرفت.
وسئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل حنث فقال: لا، ثم قال أبو زرعة أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد (سورة الإخلاص) وفي المذاكرة ثلاث مائة ألف حديث.
وروي عن محمد بن مسلم قال: كنت عند إسحاق بنيسابور فقال رجل من العراق سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبع مائة ألف حديث وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ ست مائة ألف حديث.
وعن ابن عدي قال:سمعت أبا يعلى الموصلي يقول ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته إلا أبا زرعة الرازي فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير كتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف حديث.
وقال الحاكم سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد سمعت أبا العباس الثقفي يقول لما انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري سألوه أن يحدثهم فامتنع فقال: أحدثكم بعد أن حضر مجلسي أحمد وابن معين وابن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو خيثمة قالوا له فإن عندنا غلاما يسرد كل ما حدثت به مجلسا مجلسا قم يا أبا زرعة قال فقام فسرد كل ما حدث به قتيبة فحدثهم قتيبة.
وقال سعيد بن عمرو الحافظ سمعت أبا زرعة يقول دخلت البصرة فحضرت سليمان الشاذ كوني يوم الجمعة فروى حديثا فرددت عليه ثم قال حدثنا ابن أبي غنية عن أبيه عن سعد ابن إبراهيم عن نافع بن جبير قال: [لا حلف في الإسلام] فقلت هذا وهم وهم فيه إسحاق بن سليمان وإنما هو سعد عن أبيه عن جبير قال من يقول هذا قلت حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا أبن أبي غنية فغضب ثم قال لي ما تقول فيمن جعل الأذان مكان الإقامة قلت يعيد قال: من قال هذا قلت الشعبي قال من عن الشعبي قلت حدثنا قبيصة عن سفيان عن جابر عن الشعبي قال ومن غير هذا قلت إبراهيم وحدثنا أبو نعيم حدثنا منصور بن أبي الأسود عن مغيرة عنه قال أخطأت قلت حدثنا أبو نعيم حدثنا جعفر الأحمر حدثنا مغيرة قال أخطأت قلت حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو كدينة عن مغيرة قال أصبت ثم قال أبو زرعة اشتبه علي وكتبت هذه الأحاديث الثلاثة عن أبي نعيم فما طالعتها منذ كتبتها ثم قال وأي شيء غير هذا قلت معاذ بن هشام عن أشعث عن الحسن قال هذا سرقته مني وصدق كان ذاكرني به رجل ببغداد فحفظته عنه.
ثناء العلماء عليه
قال أبو بكر الخطيب: كان إماما ربانيا حافظا متقنا مكثرا جالس أحمد بن حنبل وذاكره وحدث عنه.
وقال ابن أبي شيبة ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.
وقال محمد بن إسحاق الصاغاني: أبو زرعة يشبه بأحمد بن حنبل.
وقال علي بن الحسين بن الجنيد ما رأيت أحدا أعلم بحديث مالك ابن أنس مسندها ومنقطعها من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم.
قال ابن أبي حاتم سئل أبي عن أبي زرعة فقال إمام.
قال عمر بن محمد بن إسحاق القطان سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول ما جاوز الجسر أحد أفقه من إسحاق بن راهويه ولا أحفظ من أبي زرعة.
وقال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي فليس له أصل.
قال ابن أبي حاتم سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة هو وأبو حاتم إماما خراسان.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل يدعو الله لأبي زرعة وسمعت عبد الواحد بن غياث يقول ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.
ابن عدي سمعت القاسم بن صفوان سمعت أبا حاتم يقول أزهد من رأيت أربعة آدم بن أبي إياس وثابت بن محمد الزاهد وأبو زرعة الرازي وذكر آخر.
قال النسائي: أبو زرعة رازي ثقة.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي سمعت عبد الله بن أحمد يقول ذاكرت أبي ليلة الحفاظ فقال يا بني قد كان الحفظ عندنا ثم تحول إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة قلت من هم قال أبو زرعه ذاك الرازي ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي والحسن بن شجاع ذاك البلخي قلت يا أبه فمن أحفظ هؤلاء قال أما أبو زرعة فأسردهم وأما البخاري فأعرفهم وأما عبد الله يعني الدارمي فأتقنهم وأما ابن شجاع فأجمعهم للأبواب.
مواقف من حياته
قال أبو علي جزرة قال لي أبو زرعة مر بنا إلى سليمان الشاذكوني نذاكره قال فذهبنا فما زال يذاكره حتى عجز الشاذكوني عن حفظه فلما أعياه ألقى عليه حديثا من حديث الرازيين فلم يعرفه أبو زرعة فقال سليمان يا سبحان الله حديث بلدك هذا مخرجه من عندكم وأبو زرعة ساكت والشاذكوني يخجله ويري من حضر أنه قد عجز فلما خرجنا رأيت أبا زرعة قد اغتم ويقول لا أدري من أين جاء بهذا فقلت له وضعه في القوت كي تعجز و تخجل قال هكذا قلت نعم فسري عنه.
****
وروي عن ابن عدي سمعت محمد بن إبراهيم المقرئ سمعت فضلك الصائغ يقول دخلت المدينة فصرت إلى باب أبي مصعب فخرج إلي شيخ مخضب وكنت ناعسا فحركني وقال: من أين أنت أي شيء تنام، قلت: أصلحك الله أنا من الريّ، فقال: تركت أبا زرعة وجئتني لقيت مالكا وغيره فما رأت عيناي مثل أبي زرعة.
قال ودخلت على الربيع بمصر فقال من أين قلت من الري قال تركت أبا زرعة وجئت إن أبا زرعة آية وإن الله إذا جعل إنسانا آية أبانه من شكله حتى لا يكون له ثان
***
وقال أبو نعيم بن عدي سمعت ابن خراش يقول كان بيني وبين أبي زرعة موعد أن أبكر عليه فأذاكره فبكرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعد وحده فأجلسني معه يذاكرني حتى أضحى النهار فقلت بيني وبين أبي زرعة موعد فجئت إلى أبي زرعة والناس منكبون عليه فقال لي تأخرت عن الموعد قلت بكرت فمررت بهذا المسترشد فدعاني فرحمته لوحدته وهو أعلى إسنادا منك.
***
وروي عن محمد بن مسلم بن وارة قال: رأيت أبا زرعة في المنام فقلت له ما حالك قال أحمد الله على الأحوال كلها إني حضرت فوقفت بين يدي الله تعالى فقال لي يا عبيد الله لم تذرعت في القول في عبادي قلت يا رب إنهم حاولوا دينك فقال صدقت ثم أتي بطاهر الخلقاني فاستعديت عليه إلى ربي فضرب الحد مائة ثم أمر به إلى الحبس ثم قال ألحقوا عبيد الله بأصحابه وبأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله سفيان ومالك وأحمد بن حنبل.
***
قال أبو الحسن البناني حدثنا محمد بن علي بن الهيثم الفسوي قال لما قدم حمدون البرذعي على أبي زرعة لكتابة الحديث دخل فرأى في داره أواني وفرشا كثيرة وكان ذلك لأخيه قال فهم أن يرجع ولا يكتب فلما كان من الليل رأى كأنه على شط بركة ورأى ظل شخص في الماء فقال أنت الذي زهدت في أبي زرعة أما علمت أن أحمد بن حنبل كان من الأبدال فلما مات أبدل الله مكانه أبا زرعة.
***
وسمعت أبا زرعة يقول إذا انفرد ابن إسحاق بالحديث لا يكون حجة ثم روى له حديث القراءة خلف الإمام وسمعته يقول كان الحوضي وعلي بن الجعد وقبيصة يقدرون على الحفظ يجيؤون بالحديث بتمام وذكر عن قبيصة كأنه يقرأ من كتاب، قلت يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنه جراح، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي ومحمد بن الحسين الفقيه وإبراهيم بن عبد الرحمن الشاهد وست القضاة بنت يحيى قراءة قالوا أخبرتنا كريمة بنت عبد الوهاب القرشية أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن محمد الباغبان في كتابه أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده أخبرنا أبي أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري حدثنا أبو زرعة الرازي حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كان من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، أخرجه مسلم عن أبي زرعه فوافقناه بعلو درجة.
وفاته
قال أبو جعفر محمد بن علي وراق أبي زرعة حضرنا أبا زرعة وهو يحتضر بماشهران وهو في السوق حدثنا بندار وعنده أبو حاتم وابن وارة والمنذر بن شاذان وغيرهم فذكروا حديث التلقين لقنوا موتاكم لا إله إلا الله واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه فقالوا تعالوا نذكر الحديث فقال ابن وارة حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح وجعل يقول ابن أبي ولم يجاوزه وقال أبو حاتم حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ولم يجاوز والباقون سكتوا فقال أبو زرعة وهو في السوق حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ ابن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [من كان آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة وتوفي رحمه الله]
قال أبو الحسين بن المنادي وأبو سعيد بن يونس توفي أبو زرعة الرازي في آخر يوم من سنة أربع وستين ومائتين ومولده كان في سنة مائتين.
وذكر إبراهيم بن حرب العسكري أنه رأى أبا زرعة الرازي بالمنام وهو يؤم الملائكة في السماء الرابعة فقلت بم نلت هذه المنزلة قال برفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه.
أبو يوسف
ازدهر الفقه الإسلامي في مطلع العصر العباسي ازدهارا عظيما، واتسعت دائرته وتكونت مدارسة المختلفة، وزادت ثروته وأصبح عِلما قائما بذاته، وتخصص له أعلام شهد لهم التاريخ بالنبوغ والإبداع، ودُوّنت أصوله، وظهرت قواعد الاستنباط، وقوانين الاجتهاد التي يلتزمها الفقهاء، ومن يريد استنباط الأحكام من أدلة الشرع الحنيف.
وامتاز العصر العباسي بظهور عدد من الفقهاء النابغين، ذاع صِيتهم وانتشر فقههم، وصار لهم أتباع وتلاميذ ينشرون علمهم، وينتصرون لهم، ويدعون لمذهبهم بين الناس، وكان الإمام أبو يوسف أبرز تلاميذ الإمام أبي حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي، الذين قاموا بجهد هائل في نشر مذهب الحنفية ووضع أصوله.
النشأة
ولد يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف في الكوفة سنة (113هـ=731م)، وبها نشأ وتعلم، واتجه مبكرا إلى دراسة الحديث، فسمع أبا إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، ودرس المغازي على محمد بن إسحاق، صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، ثم تتلمذ على عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، ثم اتصل بالإمام أبي حنيفة، ولازم حلقته ودروسه، غير أنه أحيانا كان ينقطع عنها؛ لاضطراره أن يعمل حتى يواجه نفقات الحياة، فلما رأى أبو حنيفة ذلك وأحزنه أن تصرف ضرورات العيش تلميذه النجيب عن طلب العلم؛ تكفله بالعيش، وأمدّه بماله حتى يفرغ تماما للدراسة.
وصُنْع أبي حنيفة مع تلميذه خليق بالإعجاب والتقدير، فهو يتحمل أعباءه المالية كما يتحمل أعباء تعليمه وتهذيبه، ويسوّي بينه وبين ولده في الإنفاق والتهذيب، وإذا كان التاريخ لا يعتد بما خلّفه أبو حنيفة من أموال وعقار، فإنه يفخر بما أنجب من تلاميذ، ملئوا الدنيا علمًا وفقهًا، وحسبك من أستاذ يكون بين تلاميذه: أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني، وزفر، والحسن بن زياد.
ولم يكتف أبو يوسف بما حصله من علم أبي حنيفة، فرحل إلى المدينة المنورة، واتصل بعالمها المبرز الإمام مالك، فأخذ عنه الحديث والفقه، ووجد منهجًا يختلف عن منهج إمامه أبي حنيفة، فوازن بينهما وقارن، وجادل شيخه وحاجّه، ثم رجع إلى العراق مزودًا بعلم أهل المدينة، فجمع بين المدرستين: مدرسة الأثر في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق، وقرّب بينهما، وساعده على ذلك اشتغاله برواية الحديث.
أبو يوسف قاضيا
روي عن أبي حنيفة أنه قال عن تلاميذه: أصحابنا ستة وثلاثون رجلا ، ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، وفيهم ستة يصلحون للفتوى، وفيهم اثنان يصلحان لتأديب القضاة وأصحاب الفتوى، وأشار إلى أبي يوسف، وزفر.
وحين استشار الإمام أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف في قبول وظيفة القضاء ونصحه أبو يوسف بالقبول، قال له شيخه: لكأني بك قاضيا، وهي النبوءة التي قال عنها هارون الرشيد فيما بعد: إن أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
اشتغل أبو يوسف بالقضاء في سنة (166هـ = 782م) في عهد الخليفة العباسي "المهدي"، وبلغ الغاية في عهد الخليفة "هارون الرشيد" حيث تولى منصب قاضي القضاة، وهو منصب استُحدث لأول مرة في تاريخ القضاء، وشاءت الأقدار أن يكون أبو يوسف هو أول من يشغله في التاريخ الإسلامي.
وقد أتاح هذا المنصب الجليل لأبي يوسف أن ينشر مذهبه وفقه شيخه أبي حنيفة، وجعله الفقه الرسمي بالقضاء والإفتاء والتدوين، وأتاح له الذيوع والانتشار، وصقله عمليًا، فإن القضاء فيه مواجهة لمشاكل الناس، ووضْع طرق لمعالجتها، ووقوف على الشئون العامة، ومن ثم مكّن أبو يوسف للمذهب الحنفي بأن يسود ويعم بتعيين أتباعه في كراسي القضاء، حيث كان يناط به تعيينهم في الولايات؛ باعتباره القاضي الأول في الدولة العباسية.
أبو يوسف والرشيد
ارتبط أبو يوسف بعلاقة وثيقة مع الخليفة الرشيد، وتبوأ عنده مكانة عالية، فكان يؤاكله ويحج معه ويؤمه ويعلمه.. كتب له في كتاب "الخراج": "وقد كتبت لك ما أمرت وشرحته لك وبينته فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحا".
وهذا الكتاب الذي يعد من أعظم كتب الفقه الإسلامي، كان استجابة لرسالة من الرشيد إلى قاضيه أبي يوسف في أن يضع له كتابا في مالية الدولة وفق أحكام الشرع الحنيف، وقد تضمن الكتاب بيانا بموارد الدولة على اختلافها، حسبما جاءت به الشريعة، ومصارف تلك الأموال، وتطرّق إلى بيان الطريقة المثلى لجمع تلك الأموال، وتعرض لبعض الواجبات التي يلزم بيت المال القيام بها.. وهو ما أغفله بعض الولاة.
والكتاب وثيقة تاريخية مهمة في تصوير بعض الأحوال المالية والاجتماعية في هذا العصر، فهو يندد ببعض ممارسات بعض الولاة مع أهل الخراج، حيث يطالبونهم بما ليس واجبا عليهم من أموال، ويشتطون في تحصليها.
ويقترح أبو يوسف في "الخراج" على الخليفة أن يجلس للنظر في مظالم الرعية مجلسا واحدا في الشهر أو الشهرين، يسمع فيه من المظلوم، وينكر على الظالم؛ حتى ينتهي الولاة عن ظلم رعيتهم، كما حثّه على أن يجيب مطالب المزارعين وأهل الخراج في كل ما فيه مصلحة لهم، كحفر الأنهار. ويلتزم بيت المال بالإنفاق على تلك المشروعات.. وخلاصة القول إن أبا يوسف وضع نظاما شاملا للخراج يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
أبو يوسف مجتهدا
يتفق المؤرخون في أن أبا يوسف يعد صاحب الفضل الأكبر في نشر المذهب الحنفي، وأنه كان من أفقه أهل عصره، فهو أول من وضع في أصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وأملى المسائل، وبث علم الإمام في أقطار الأرض.
ومع اتصاله بأبي حنيفة اتصال التلميذ بالأستاذ، وأخذه الفقه عنه.. فإنه خالف إمامه في مسائل متعددة، واستقل في تفكيره عنه؛ ولذا عدّه بعض العلماء من المجتهدين المستقلين الذين يستخرجون الأحكام من الكتاب والسنة وليسوا تابعين لأحد في اجتهادهم، كالأئمة الأربعة.
.. مؤلفًا
ولأبي يوسف كتب كثيرة دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، ذكرها ابن النديم في "الفهرست"، فقال: ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة ، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود… غير أن أشهر كتبه: كتاب الخراج، وقد تحدثنا عنه، وكتاب الآثار، وهو مسند لأبي حنيفة رواه أبو يوسف عنه، ويضم طائفة من الأحاديث التي اعتمد عليها أبو حنيفة في بعض ما استنبطه من أحكام وفتاوى، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من فتاوى التابعين من فقهاء الكوفة والعراق.
"وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي، وهو كتاب جمع فيه أبو يوسف مسائل اختلف فيها أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، وهو يصور ما كان يجري بين علماء ذلك العصر من دراسة عميقة للمسائل المختلفة، وعُنِي أبو يوسف فيه بذكر آراء المختلفين مدعومة بالدليل، وإن كان ينتصر كثيرا لآراء شيخه أبي حنيفة".
وكتاب الرد على سير الأوزاعي وفي هذا الكتاب يرد أبو يوسف على الأوزاعي فيما خالف فيه أبا حنيفة من أحكام الحروب، وما يتصل بها من الأمان والهدنة والأسلاب والغنائم، وينتصر لشيخه على الأوزاعي في هذه المسائل وما يتصل بها.
وفي 5 من ربيع الأول 182 هـ= 21 من إبريل 798م توفي أبو يوسف وصلى عليه الخليفة هارون الرشيد، وأمر بدفنه في مقابر قريش، وسمعه السامع يوم مات يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أَجُر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
مراجع الدراسة
• ابن خلكان – وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس- دار الثقافة – بيروت – 1968.
• أبو الوفاء القرشي – الجواهر المضية في طبقات الحنفية – تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو – عيسي البابي الحلبي- القاهرة – 1399هـ – 1979.
• محمد أبو زهرة – أبو حنيفة حياته وعصره – دار الفكر العربي – القاهرة – 1977م.
• محمد ضياء الدين الريس- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – دار المعارف – القاهرة – 1969م.
الألوسى
تمتعت الأسرة الآلوسية بمنزلة رفيعة وتقدير عظيم لمكانة أبنائها واشتغالهم بالعلم وتصدرهم للدرس والإفتاء والقضاء في بغداد. وأصل هذه الأسرة من جزيرة آلوس في نهر الفرات، ومن هنا جاءت التسمية، وقد ارتحل عميد هذه الأسرة الكريمة السيد محمود الخطيب الآلوسي إلى بغداد واتخذها وطنًا في الثلث الأخير من القرن القرن الثاني عشر الهجري، وكان عالمًا صالحًا، أحسن تربية أبنائه وتعليمهم، فساروا في طريقه، وجلسوا للتدريس والقضاء، وتعاقب أحفاده يحملون راية آبائهم في تواصل جاد وعمل مثمر حتى يومنا هذا، غير أن الذي طير شهرة العائلة، وجعلها محط الأنظار هو الإمام أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله صلاح الدين بن محمود الخطيب الآلوسي.
المولد والنشأة
ولد أبو الثناء محمود الآلوسي في بغداد في (15 شعبان 1217 هـ = 11 من ديسمبر 1803م).
ونشأ في بيت علم وفضل، فأبوه واحد من كبار علماء بغداد، وكان بيته كعبة للعلماء والطلاب، حيث تعقد جلسات العلم وتطرح سائله وقضاياه المختلفة في الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة والبيان وغيرها من العلوم.
وفي هذا الجو العلمي نشأ الصبي الصغير، وتعلقت عيناه بأبيه وهو يراه يتصدر تلك الحلقات مناقشًا ومحاورًا ومعلمًا، ويلقى من الحاضرين أسمى آيات التقدير والإعجاب، وسمت نفس الصبي إلى طلب العلم وتحصيله، وكان في نفسه استعداد عظيم للعلم، وحافظة قوية تلتهم ما تقرأه، وهمة عالية في المثابرة على المذاكرة، ولم تمض عليه سنوات قليلة حتى كان قد أتم حفظ المتون في الفقه والنحو والعقيدة والفرائض قبل أن يتم الرابعة عشرة من عمره.
ولم يقتصر الآلوسي في طلب العلم على والده، بل اتجه إلى حلقات غيره من أفذاذ العلماء في عصره، فاتصل بالشيخ علي السويدي، وأمين الحلي، وخالد النقشبندي، وعبد العزيز الشواف، ثم تطلعت همته إلى السفر إلى بيروت ودمشق، ليتتلمذ على علمائها.
علاقته بداود باشا
وفي تلك الفترة كانت العراق قد شهدت بواكير نهضة مباركة قام عليها داود باشا والي بغداد النابه، فاستقدم عددًا من الخبراء الأوروبيين وعهد إليهم بإنشاء المصانع وبناء المدارس، وأقام مطبعة حديدة، وأصدر صحيفة سماها جرنال العراق، وأعاد تعمير المساجد القديمة، وعين بها جماعة من العلماء للتدريس، وكان لهذه الجهود أثر لا ينكر في تحريك الحياة الراكدة، وكان من الطبيعي أن يجد الفتى النابه في داود باشا رمزًا للنهوض واليقظة، فوقف معه وعاونه.
ولما اشتد الخلاف بين داود باشا والدولة العثمانية، وكان هو واليا من قبلها وقف الآلوسي في صف الوالي وآزره، وحشد الرأي العام في تأييده ومعاونته ضد الجيش العثماني الذي أحكم الحصار على بغداد، وشاءت الأقدار أن ينتشر الطاعون في بغداد فيعصف بالأهالي في غير رحمة، وزاد الأمر سوءا فيضان دجلة بمياه كاسحة أغرقت المدينة، ولم يجد داود باشا فائدة من المقاومة فاستسلم للجيش العثماني.
وجاء قائد الحملة ليبحث عن رجال داود باشا ومعاونيه ويزج بهم في السجون، وكان الآلوسي واحدا ممن طالتهم المحنة، وحلت بهم المصيبة، وزجوا في السجون.
في كنف الوالي الجديد
غير أن نباهة الآلوسي وسعة علمه بلغت مسامع الوالي الجديد رضا باشا، فطلب بعض مؤلفاته ليقرأها وكان على حظ من المعرفة، فنالت إعجابه، وأصدر أمرًا بالإفراج عن الآلوسي وعينه خطيبًا لجامع الشيخ عبد القادر الجيلي، وكان يحضر دروسه، فأعجب بحسن بيانه وغزارة علمه، واتفق أن أنجز كتابه "كتاب البرهان في إطاعة السلطان" فقدمه إليه، فأجازه عليه بتولية أوقاف مدرسة مرجان التاريخية، وكانت لا تُعطي إلا للجهابذة من العلماء، ثم ولاه منصب الإفتاء في بغداد وهو في الثلاثين من عمره، تقديرًا لعلمه وكفايته ونبوغه وذكائه، كان يشترط فيمن يتولى هذا المنصب الجليل في الدولة العثمانية أن يكون حنفي المذهب؛ لأنه المذهب الرسمي للدولة، وعلى الرغم من كون الآلوسي شافعي المذهب فإنه استطاع في فترة قصيرة أن يدرس المذهب في أوسع كتبه ومدوناته الكبيرة، وأن يلم بقضاياه ومسائله.
ولما ظهرت نعمة الله على الآلوسي واتسع رزقه، اشترى دارًا واسعة، وجعل قسمًا منها مسكنًا لطلابه الذين يغدون إليه من أطراف العراق وكردستان لتلقي العلم عليه، ولم يكتف الآلوسي باستقبالهم في مسكنه، وإنما امتدت إليه مظلة كرمه، فكان يطعمهم ويتكفل بهم.
محنته
لم يمكث رضا باشا في ولايته على العراق طويلا، فحل مكانه محمد نجيب، ولم يجد الآلوسي في ظل ولايته ما كان يجده عند الوالي السابق من التقدير والإجلال، بل ضاق من مكانته ونفوذه العلمي في بغداد، فانتهز فرصة اشتعال مظاهرة ضده واتهم الآلوسي بأنه الذي يقف خلفها، وسارع بغزله عن الإفتاء، وحاربه في رزقه، وحال بينه وبين السفر إلى الأستانة لمقابلة الخليفة العثماني.
واضطرته هذه الظروف الصعبة إلى بيع أثاث بيته حتى يتمكن من الإنفاق على بيته وعلى العشرات من طلابه الذين يسكنون بيته، وكانت في الشيخ عزة نفس وإباء، فلم يشأ أن يعلن عن ضيق ذات يده، وفي الوقت نفسه انشغل بإكمال تفسيره للقرآن حيث كان يجد فيه السلوى عما به من ضيق، حتى إذا انقضت سنوات المحنة انطلق إلى الأستانة ومعه تفسيره (1267 هـ = 1851م).
الرحلة إلى الأستانة
وفي دار الخلافة العثمانية استقبله محمد عارف حكمت شيخ الإسلام استقبالا حسنًا، وأشار عليه أن يكتب إلى الصدر الأعظم مذكرة عن حاله وما يرجوه، فكتب إليه، فأعجب الصدر الأعظم بما كتب، ونعم برضا الخليفة عبد المجيد، الذي رتب له مالا جزيلا كل عام، وعاد إلى بغداد بعد أن مكث في دار الخلافة واحدًا وعشرين شهرًا، وخرجت بغداد كلها في استقباله.
مؤلفاته
ترك الآلوسي مؤلفات كثيرة، إذ كان ذا قلم سيال، وفكر متدفق، ومنطق منظم، وبدأ التأليف منذ فترة باكرة وهو في الثالثة عشرة، ثم تتابعت مؤلفاته تترى في حياته المديدة، ومن هذه المؤلفات:
- الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، وهو إجابة لأسئلة بعث بها إليه أهالي الهند يستفتونه في بعض المسائل، وقد أجازه السلطان العثماني محمود الثاني على هذا الكتاب جائزة سنية (قيمة).
- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية، ويحتوي على ثلاثين مسألة مهمة في الفقه والتفسير واللغة والمنطق.
- نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ودون فيه رحلته إلى عاصمة دار الخلافة واصفًا ما نزل به المدن، ومن قابله من الناس، وهي تعد وثيقة تاريخية تسجل فترة زمنية من التاريخ الاجتماعي والثقافي لأمتنا.
- سُفْرة الزاد لسَفْرة الجهاد، دعا فيها المسلمين إلى اليقظة علميًا واقتصاديًا وعسكريًا، وأعلن أن الجهاد فريضة محتومة أمام اعتداءات الاستعمار.
روح المعاني
غير أن أجل إنتاج الآلوسي وأعظم آثاره التي جعلت له اسمًا مدويًا، وجلبت له الذيوع والشهرة، وأنزلته منزلة رفيعة بين كبار العلماء هو تفسيره المعروف بـ"روح المعاني" في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، وهو تفسير جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير مثل تفسير ابن عطية وتفسير أبي حيان، والكشاف للزمخشري وتفسير أبي السعود وتفسير البيضاوي وتفسير الفخر الرازي، وصاغ من ذلك كله تفسيره بعد أن أطال النظر فيما قرأ، ووازن وقارن ورجح ما اختاره، معتمدًا على زاد كبير من الثقافة الواسعة في علوم الشرع واللغة.
وتوسع الآلوسي في تفسيره في المسائل البلاغية، وعني بمسائل النحو ولزم حدود الاعتدال في مناقشة الآراء الفقهية المخالفة للمذهب الحنفي.
وفاة الآلوسي
كان الآلوسي إمامًا لمدرسة كبيرة امتدت به، وتأثرت بطريقته ومنهجه في التأليف، ولولاه لربما تاخرت النهضة العلمية في العراق؛ لأن تلاميذه حملوا رايته ونهجوا طريقته، فاتصل تأثيره في الأجيال اللاحقة ولم ينقطع، وقد مدح في حياته ورثي بعد مماته بأشعار كثيرة لم تتح نظائرها إلا للملوك والأمراء، وقد جمع تلميذه الأديب عبد الفتاح الشواف، وابنه أبو البركات نعمان خير الدين هذه الأشعار في كتاب كبير من مجلدين سمياه: حديقة الورود في مدائح أبي الثناء محمود.
ولم تطل الحياة بعد عودة الآلوسي من عاصمة دار الخلافة، حيث لقي ربه في (25 من ذي القعدة سنة 1270 هـ = 19 أغسطس 1854م).
من مصادر الدراسة:
• محمد حسين الذهبي – التفسير والمفسرون – مكتبة وهبة – القاهرة.
• محمد رجب البيومي – النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق – 1415 هـ = 1995م.
عباس العزاوي – ذكرى أبي الثناء الآلوسي – بغداد – 1958م.
• محمد بهجة الأثري – الألسيون – موسوعة الحضارة الإسلامية (فصلة تجريبية – عماده 1989م.
الإمام البخاري
أمير أهل الحديث
الإمام الجليل والمحدث العظيم محمد بن إسماعيل البخاري أمير أهل الحديث وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، يقول البخاري: صنفت الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
ولم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث وفاق تلامذته وشيوخه على السواء.
ويقول عنه أحد العلماء: لا أعلم أني رأيت مثله كأنه لم يخلق إلا للحديث.
فمع سيرة البخاري ومواقف من حياته.
نسبه ومولده
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وكلمة بردزبه تعني بلغة بخارى "الزراع"
أسلم جده "المغيرة" على يدي اليمان الجعفي والي بخارى وكان مجوسيا وطلب والده إسماعيل بن إبراهيم العلم والتقى بعدد من كبار العلماء، وروى إسحاق بن أحمد بن خلف أنه سمع البخاري يقول سمع أبي من مالك بن أنس ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه.
ولد أبو عبد الله في يوم الجمعة الرابع من شوال سنة أربع وتسعين.
ويروى أن محمد بن إسماعيل عمي في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك شك البلخي فأصبحت وقد رد الله عليه بصره.
قوة حفظه وذاكرته
ووهب الله للبخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها أقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف.
يقول محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك قال ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب فقلت كم كان سنك فقال عشر سنين أو أقل ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت:هو الزبير بن عدي عن إبراهيم.
فأخذ القلم مني وأحكم( أصلح) كتابه وقال: صدقت.
فقيل للبخاري ابن كم كنت حين رددت عليه قال ابن إحدى عشرة سنة.
ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع.
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له إنك تختلف معنا ولا تكتب فما تصنع فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما إنكما قد أكثرتما على وألححتما فاعرضا على ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ثم قال أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وقال ابن عدي حدثني محمد بن أحمد القومسي سمعت محمد ابن خميرويه سمعت محمد بن إسماعيل يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح
قال وسمعت أبا بكر الكلواذاني يقول ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلماء فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة.
طلبه للحديث
رحل البخاري بين عدة بلدان طلبا للحديث الشريف ولينهل من كبار علماء وشيوخ عصره في بخارى وغيرها.
وروي عن البخاري أنه كان يقول قبل موته: كتبت عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم إلا صاحب حديث كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
ونعود إلى البخاري في رحلته في طلب العلم ونبدأها من مسقط رأسه بخارى فقد سمع بها من الجعفي المسندي ومحمد بن سلام البيكندي وجماعة ليسوا من كبار شيوخه ثم رحل إلى بلخ وسمع هناك من مكبن بن إبراهيم وهو من كبار شيوخه وسمع بمرو من عبدان بن عثمان وعلي بن الحسن بن شقيق وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وجماعة من العلماء وبالري من إبراهيم بن موسى.
وفي أواخر سنة 210هـ قدم البخاري العراق وتنقل بين مدنها ليسمع من شيوخها وعلمائها. وقال البخاري دخلت بغداد آخر ثمان مرات في كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل فقال لي في آخر ما ودعته يا أبا عبد الله تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان قال فأنا الآن أذكر قوله.
ثم رحل إلى مكة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ وخلاد بن يحي وحسان بن حسان البصري وأبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي والحميدي.
وسمع بالمدينة من عبد العزيز الأويسي وأيوب بن سليمان بن بلال وإسماعيل بن أبي أويس.
وأكمل رحلته في العالم الإسلامي آنذاك فذهب إلى مصر ثم ذهب إلى الشام وسمع من أبي اليمان وآدم بن أبي إياس وعلي بن عياش وبشر بن شعيب وقد سمع من أبي المغيرة عبد القدوس وأحمد بن خالد الوهبي ومحمد بن يوسف الفريابي وأبي مسهر وآخرين.
مؤلفات البخاري
عد العلماء كتاب الجامع الصحيح المعروف بـ"صحيح البخاري" أصح كتاب بعد كتاب الله، ويقول عنه علماء الحديث "هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء كثير من الأحاديث وذلك لأن أبا عبد الله أسن الجماعة وأقدمهم لقيا للكبار أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عنهم"
ويقول في قصة تأليفه "الجامع الصحيح ":" كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب"
ويقول في بعض الروايات:
ـ أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مائة ألف حديث.
ـ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
ـ ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.
ويروي البخاري أنه بدأ التأليف وعمره 18 سنة فيقول:
"في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله في الليالي المقمرة وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب، وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي فإذا جئت أستحي أن أسلم عليهم فقال لي مؤدب من أهلها كم كتبت اليوم فقلت: اثنين وأردت بذلك حديثين فضحك من حضر المجلس فقال شيخ منهم لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوما"
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم قلت لأبي عبد الله تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف فقال لا يخفى علي جميع ما فيه، وسمعته يقول صنفت جميع كتبي ثلاث مرات.
دقته واجتهاده
ظل البخاري ستة عشر عاما يجمع الأحاديث الصحاح في دقة متناهية، وعمل دؤوب، وصبر على البحث وتحري الصواب قلما توافرت لباحث قبله أو بعده حتى اليوم، وكان بعد كل هذا لا يدون الحديث إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين.
يروي أحد تلامذته أنه بات عنده ذات ليلة فأحصى عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة.
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها.
وروي عن البخاري أنه قال: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث إن كان الرجل فهما، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون.
وكان العباس الدوري يقول: ما رأيت أحدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل كان لا يدع أصلا ولا فرعا إلا قلعه ثم قال لنا لا تدعوا من كلامه شيئا إلا كتبتموه.
تفوقه على أقرانه في الحديث
ظهر نبوغ البخاري مبكرا فتفوق على أقرانه، وصاروا يتتلمذون على يديه، ويحتفون به في البلدان.
فقد روي أن أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شابا لم يخرج وجهه.
وروي عن يوسف بن موسى المروروذي يقول كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديا ينادي يا أهل العلم قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فقاموا في طلبه وكنت معهم فرأينا رجلا شابا يصلي خلف الأسطوانة فلما فرغ من الصلاة أحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم فلما كان الغد اجتمع قريب من كذا كذ ألف فجلس للإملاء وقال يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون منها.
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا لإسناد هذا و إسناد هذا لمتن هذا ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس فاجتمع الناس وانتدب أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته فقال لا أعرفه وسأله عن آخر فقال لا أعرفه وكذلك حتى فرغ من عشرته فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول والبخاري يقول لا أعرفه ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس وهو لا يزيدهم على لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فكذا والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة فرد كل متن إلى إسناده وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر له الناس بالحفظ فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول الكبش النطاح.
وروي عن أبي الأزهر قال كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطة البخاري فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن.
وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى قال محمد بن إسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له: يا أبا عبد الله بكماله قال: فسكت.
من كلمات البخاري
[لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة]
[ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في عامة كتب الرأي وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها فما تركت بها حديثا صحيحا إلا كتبته إلا ما لم يظهر لي]
[ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه]
مواقف من حياة البخاري
وقال بكر بن منير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا قلت صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا. وقل أن يقول فلان كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال إذا قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واه وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا وهذا هو والله غاية الورع.
يقول محمد بن أبي حاتم: كان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة وكان لا يوقظني في كل ما يقوم فقلت أراك تحمل على نفسك ولم توقظني قال أنت شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك.
*يروي البخاري فيقول كنت بنيسابور أجلس في الجامع فذهب عمرو بن زرارة وإسحاق بن راهويه إلى يعقوب بن عبد الله والي نيسابور فأخبروه بمكاني فاعتذر إليهم وقال مذهبنا إذا رفع إلينا غريب لم نعرفه حبسناه حتى يظهر لنا أمره فقال له بعضهم: بلغني أنه قال لك لا تحسن تصلي فكيف تجلس فقال لو قيل لي شيء من هذا ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة.
وذات يوم ناظر أبو بكر البخاري في أحاديث سفيان فعرفها كلها ثم أقبل محمد عليه فأغرب عليه مائتي حديث فكان أبو بكر بعد ذلك يقول ذاك الفتى البازل والبازل الجمل المسن إلا أنه يريد هاهنا البصير بالعلم الشجاع.
قال محمد بن أبي حاتم سمعت البخاري يقول دخلت بلخ فسألني أصحاب الحديث أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم.
قال أبو جعفر سمعت أبا عمر سليم بن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلام البيكتدي فقال لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث قال فخرجت في طلبه حتى لحقته قال أنت الذي يقول إني أحفظ سبعين ألف حديث قال نعم وأكثر ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركبانا على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة.
ورعه
• قال محمد بن أبي حاتم ركبنا يوما إلى الرمي، فجعلنا نرمي وأصاب سهم أبي عبد الله البخاري وتد القنطرة الذي على نهر ورادة فانشق الوتد فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا ورجعنا معه إلى المنزل. فقال لي يا أبا جعفر لي إليك حاجة مهمة قالها وهو يتنفس الصعداء، وقال لمن معنا اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته فقلت أية حاجة هي. قال لي: تضمن قضاءها؟ قلت نعم على الرأس والعين. قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له إنا قد أخللنا بالوتد فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان منا. وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري. فقال لي أبلغ أبا عبد الله السلام وقل له أنت في حل مما كان منك وجميع ملكي لك الفداء وإن قلت نفسي أكون قد كذبت، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي فأبلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار وأظهر سرورا وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث وتصدق بثلاث مائة درهم.
• وقال بن أبي حاتم ورأيته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث فقلت له إني أراك تقول إني ما أثبت شيئا بغير علم قط منذ عقلت فما الفائدة في الاستلقاء قال أتعبنا أنفسنا اليوم وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العد فأحببت أن استريح وآخذ أهبة فإن فاجئنا العدو كان بنا حراك.
• وضيفه بعض أصحابه في بستان له وضيفنا معه فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه وذلك أنه كان عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره فقال له يا أبا عبد الله كيف ترى فقال هذه الحياة الدنيا.
• وقال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن يعني إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته فقال لا أعلم من مالي درهما من حرام ولا درهما من شبهة قال أحمد فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك ثم قال أبو عبد الله أصدق ما يكون الرجل عند الموت.
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة كان قليل الكلام وكان لا يطمع فيما عند الناس وكان لا يشتغل بأمور الناس كل شغله كان في العلم.
عمله بالتجارة
وعمل البخاري بالتجارة فكان مثالا للتاجر الصدوق الذي لا يغش ولا ينقض نيته مهما كانت المغريات.
روي أنه حملت إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد فاجتمع بعض التجار إليه فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم فقال انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف فقال إني نويت بيعها للذين أتوا البارحة.
ثناء الأئمة عليه
قال أبو إسحاق السرماري: من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه فلينظر إلى محمد بن إسماعيل.
قال أبو جعفر سمعت يحيى بن جعفر يقول لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم.
وكان نعيم بن حماد يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.
قال مصعب الزهري محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث.
وروي عن إسحاق بن راهويه أنه كان يقول اكتبوا عن هذا الشاب يعني البخاري فلو كان في زمن الحسن لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه.
وكان علي بن حجر يقول أخرجت خراسان ثلاثة أبو زرعة ومحمد بن إسماعيل وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم.
وقال محمد بن أبي حاتم سمعت إبراهيم بن خالد المروزي يقول رأيت أبا عمار الحسين بن حريث يثني على أبي عبد الله البخاري ويقول لا أعلم أني رأيت مثله كأنه لم يخلق إلا للحديث.
وقال محمد حدثني حاتم بن مالك الوراق قال سمعت علماء مكة يقولون محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.
وقال أبو الطيب حاتم بن منصور الكسي يقول محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم.
وقال سليم بن مجاهد يقول لو أن وكيعا وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل.
وروي عن قتيبة بن سعيد أنه قال لو كان محمد في الصحابة لكان آية. نظرت في الحديث ونظرت في الرأي وجالست الفقهاء والزهاد والعباد ما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وقال أبو عبد الله الحاكم: محمد بن إسماعيل البخاري إمام أهل الحديث.
قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.
قال محمد بن حمدون بن رستم سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى البخاري فقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله.
وقال سعيد بن جعفر: سمعت العلماء بالبصرة يقولون ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح.
من كرم البخاري وسماحته
قال محمد بن أبي حاتم كانت له قطعة أرض يؤجرها كل سنة بسبع مائة درهم فكان ذلك المؤجر ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثاة أو قثاتين لأن أبا عبد الله كان معجبا بالقثاء النضيج وكان يؤثره على البطيخ أحيانا فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثاء إليه أحيانا.
قال وسمعته يقول كنت أستغل كل شهر خمس مائة درهم فأنفقت كل ذلك في طلب العلم فقلت كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى اجتمع له فقال أبو عبد الله: ما عند الله خير وأبقى (الشورى:36)
وكان يتصدق بالكثير يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد وكان لا يفارقه كيسه.
ويقول عبد الله بن محمد الصارفي: كنت عند أبي عبد الله البخاري في منزله فجاءته جارية وأرادت دخول المنزل فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها: كيف تمشين؟ قالت إذا لم يكن طريق كيف أمشي فبسط يديه وقال لها اذهبي فقد أعتقتك. قال فقيل له فيما بعد يا أبا عبد الله أغضبتك الجارية قال إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت.
محنة البخاري
تعرض البخاري للامتحان والابتلاء، وكثيرا ما تعرض العلماء الصادقون للمحن فصبروا على ما أوذوا في سبيل الله، ولقد حسد البعض البخاري لما له من مكانة عند العلماء وطلاب العلم وجماهير المسلمين في كل البلاد الإسلامية، فأثاروا حوله الشائعات بأنه يقول بخلق القرآن، ولذلك قصة يرويها أبو أحمد بن عدي فيقول: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل البخاري لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه واجتماعهم عليه. فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول اللفظ بالقران مخلوق فامتحنوه في المجلس فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقران مخلوق هو أم غير مخلوق فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل يا أبا عبد الله فأعاد عليه القول فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة فالتفت إليه البخاري وقال القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله.
وقالوا له بعد ذلك ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك قال لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته، وكان يقول أما أفعال العباد فمخلوقة فقد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبو مالك عن ربعي عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته.
وبه قال وسمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة قال البخاري حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق قال الله تعالى {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت 49).
وقال البخاري: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر.
وقال أيضا: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة.
وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري فقلت يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى فقبض على لحيته ثم قال "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد" (غافر 44) اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا ولا طلبا للرئاسة إنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير ثم قال لي يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، فأخبرت جماعة أصحابنا فو الله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره.
وقال محمد بن أبي حاتم أتى رجل عبد الله البخاري فقال يا أبا عبد الله إن فلانا يكفرك فقال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما" وكان كثير من أصحابه يقولون له إن بعض الناس يقع فيك فيقول "إن كيد الشيطان كان ضعيفا" (النساء 76)، ويتلو أيضا "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" (فاطر 43) فقال له عبد المجيد بن إبراهيم كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال صلى الله عليه وسلم "من دعا على ظالمه فقد انتصر"
محنته مع أمير بخارى
روى أحمد بن منصور الشيرازي قال سمعت بعض أصحابنا يقول لما قدم أبوعبد الله بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق أحد إلا استقبله ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي أياما قال فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا لا نفارقه فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج.
قال أحمد بن منصور فحكى لي بعض أصحابنا عن إبراهيم بن معقل النسفي قال رأيت محمد بن إسماعيل في اليوم الذي أخرج فيه من بخارى فتقدمت إليه فقلت يا أبا عبد الله كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر فقال لا أبالي إذا سلم ديني.
وروي عن بكر بن منير بن خليد بن عسكر أنه قال: بعث الأمير خالد ابن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إلي كتاب الجامع و التاريخ وغيرهما لأسمع منك فقال لرسوله أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضر في مسجدي أو في داري وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة لأني لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار" فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
وفاة البخاري
توفي البخاري ـ رحمه الله ـ ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين وقد بلغ اثنتين وستين سنة، وروي في قصة وفاته عدة روايات منها:
قال محمد بن أبي حاتم سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: إنه أقام عندنا أياما فمرض واشتد به المرض، فلما وافى تهيأ للركوب فلبس خفيه وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذ بعضده ورجل آخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبها فقال رحمه الله أرسلوني فقد ضعفت فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى رحمه الله فسال منه العرق شيء لا يوصف فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه وكان فيما قال لنا وأوصى إلينا أن كفنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ففعلنا ذلك فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك فدام ذلك أياما ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره فجعل الناس يختلفون ويتعجبون وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر حتى ظهر القبر ولم نكن نقدر على حفظ القبر بالحراس وغلبنا على أنفسنا فنصبنا على القبر خشبا مشبكا لم يكن أحد يقدر على الوصول إلى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب ولم يكونوا يخلصون إلى القبر وأما ريح الطيب فإنه تداوم أياما كثيرة حتى تحدث أهل البلدة وتعجبوا من ذلك وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته وخرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة مما كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب قال محمد بن أبي حاتم ولم يعش أبو منصور غالب بن جبريل بعده إلا القليل وأوصى أن يدفن إلى جنبه.
وقال محمد بن محمد بن مكي الجرجاني سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت ما وقوفك يا رسول الله قال أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
رحم الله الإمام البخاري رحمة واسعة وجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين وعن حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم ).
ـــــــــــــ
المصادر:
(1) سير أعلام النبلاء.
(2) تاريخ بخارى.
(3) مقدمة صحيح البخاري.
البرماوي
يعتبر شيخ الاسلام برهان الدين ابراهيم بن محمد بن شهاب الدين خالد البرماوي من أعلام الازهر العاملين وعمدة المحققين الكبار ومن جهابذة المجتهدين الذين منحهم الله علما غزيرا وفضلا كبيرا. تلقي علومه الشرعية في الازهر الشريف وتفقه علي مذهب الامام الشافعي رضي الله عنه وارضاه وبلغ فيه مبلغا عظيما يبني رأيه علي علم واسع بأصول علوم الشريعة وفروعها وكان فقيها ورعا يستنبط الاحكام من الادلة ملتزما بقواعد المذهب الشافعي يدور في فلكه ولا يخرج عنه.
تولي مشيخة الازهر سنة1101 هـ-1690 م وظل شيخا الي أن انتقل الي جوار ربه ورحمة مولاه سنة1106 هـ-1694م. وترك للاجيال المتعاقبة من العلماء والدارسين ثروة علمية في فروع العلم المختلفة في الفقه والحديث, فله حاشية علي منظومة في مصطلح الحديث وحاشية علي الرحبية في المواريث وحاشية علي شرح الشيخ ابراهيم الباجوري علي شرح العلامة ابن قاسم الغزي علي متن الشيخ ابي شجاع في مذهب الامام الشافعي. وهي من أهم ما خلفه الشيخ البرماوي من تراث فقهي عظيم له قدره ووزنه في عصره.
وقد ذكر الشيخ البرماوي السبب الذي من أجله وضع هذه الحاشية علي الشرح المذكور بقوله: ان ولده احمد كان قد اولع بمطالعة شرح الغاية والتقريب للعلامة ابن القاسم فسأل احمد والده الشيخ البرماوي ان يضع حاشية لطيفة علي هذا الشرح ينتفع بها هو وغيره من طلاب العلم المبتدئين فقام الشيخ البرماوي بالتعليق علي شرح ابن قاسم من اول الفقه الي نهايته وهذه التعليقات في غاية الحسن والوضوح والدقة المتناهية وهذا يدل علي مكانة الشيخ البرماوي العلمية ومدي تمكنه من فهم المسائل الفقيهة الفقهية.
ومما ينبغي التنبيه اليه ان وضع الحواشي والتقارير العلمية والتعليق علي الشروح كان السمة البارزة في هذا العصر الذي ساد فيه التقليد المطلق واغلق فيه باب الاجتهاد مع أن الحاجة الي الاجتهاد دائمة واحوال المجتمع تتغير وتتطور وشريعة الاسلام صالحة لكل زمان ومكان. ولابد من اعمال الذهن في الحوادث والوقائع وكل ذلك يقضي بأن يبذل العالم جهده ويستفرغ وسعه في استنباط الحكم من الدليل وحتي لا تخلو الارض من قائم لله بحجة ويخلو العصر من مجتهد واذا وقع ذلك وتعطل الاجتهاد فالمسلمون جميعا آثمون.
ثم ان حدوث فترات جمود وتأخر في الفكر الإسلامي لا يعني سد باب الاجتهاد أو انقطاعه فمتي وجدت القدرات والامكانات وجب الاجتهاد والاستنباط.
فكان العصر الذي عاش فيه الشيخ البرماوي هو العصر الذي ساد فيه التقليد المطلق وجمد فيه الفقه وعمل العلماء في هذا العصر هو اختصار الكتب المؤلفة قبلهم وقد ولعوا بذلك ولعا كبيرا ولم يكن الاختصار بدعة من بدع هذا الدور الخامس وحده بل كان موجودا في الدور الرابع ايضا. فكان تلاميذ الائمة يختصرون كلام الائمة ويرتبون ما املاه الائمة ويحذفون مالا تدعو الحاجة اليه من المسائل وظل هذا الاختصار هو دأب العلماء واستمروا منذ منتصف القرن السابع الهجري الي اوائل القرن الثامن عشر.
وفي ظل هذه المرحلة اتجه العلماء الي الاختصار بطريقة عجيبة وغريبة وهي أنهم اجتهدوا في جمع الكثير من المعاني في القليل من الالفاظ حتي تحول الكلام في الفقه الي ما يشبه الالغاز وصارت كل كلمة او جملة تشير الي بحث واسع او مسألة طويلة. ومن ثم اصبحت الكتب الفقهيه تحتاج في تفهمها الي وقت طويل وجهد كبير وقد تطلب ذلك وضع الحواشي والتقارير العلمية علي الشروح لتفسير غوامض الكتب المختصرة والكشف عن معمياتها بل اكثر من ذلك جنحوا الي شرح تلك الحواشي بالتعليق عليها فكان هناك تراث فقهي له الوان ثلاثة: المتون وهي الكتب المختصرة والشروح وهي الكتب التي تشرح المختصرات وشارحة الشروح وهي المسماة بالحواشي والتعليق علي شرح الشروح التقريرات او التعليقات علي الحواشي ونتيجة لهذا العمل فقد ظفر الفقه الاسلامي بتراث جيد غزير يعجز عن عده العادون ولكن الاشتغال بهذه الحواشي والتقريرات علي الشروح وان كان قد اسهم اسهامات كثيرة في حل الالفاظ وفك الغازها فهو قد ابتعد عن جوهر العلم لأنه وقف عند النظر في اساليب الكلام ومحاولة حل تراكبيها ومعمياتها وهذا اضر بالفقه ضررا بالغا اذ جعل كل هم رجاله هو تفهم الكتب وحل عباراتها وتركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وهما المصدران الاساسيان لمعرفة الاحكام الشرعية واستنباطها من المصادر الاصلية ظنا منهم انهم لم يبلغوا مبلغ المجتهدين من فيهم ان الفضل قد ذهب به من سبقهم فلم يبق لهم منه نصيب وكان لذلك اثره السلبي علي الحركة العلمية والنشاط الفكري وضاع بسبب ذلك الاستقلال العلمي.
الجوينى إمام الحرمين
مولده ونشأته:
ولد الجويني في 18 من المحرم 419هـ - 12 من فبراير 1028م، في بيت عرف بالعلم والتدين؛ فقد كان أبوه "عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيويه" واحدًا من علماء نيسابور المعروفين، وأحد فقهاء المذهب الشافعي، وله مؤلفات كثيرة في التفسير والفقه والعقائد والعبادات، وقد اشتهر بحبه الشديد للعلم، كما عرف بالصلاح والورع، ومن ثم فقد حرص على تنشئة ابنه "عبد الملك" تنشئة إسلامية صحيحة، في جو من العلم والأدب والثقافة الإسلامية.
وكان مثالا أو قدوة احتذي بها ابنه في كثير من الصفات، وحرص الأب على أن يعلم ابنه بنفسه منذ حداثة سنه؛ فدَرَّس له الفقه والعربية وعلومها، واجتهد في تعليمه الفقه والخلاف والأصول، واستطاع الجويني أن يحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وكان يحضر مجالس والده حتى برز على أقرانه، وتفوق على كثير ممن كانوا يتلقون العلم في مدرسة أبيه، وقد ساعده على ذلك ما حباه الله به من عقل راجح، وذهن موقد، وحافظة قوية، مع حبه للعلم وشغفه بالاطلاع والبحث.
* الجويني بين الدرس والتدريس:
وكان الجويني ذا روح وثّابة إلى الحق والمعرفة، يميل إلى البحث والنقد والاستقصاء؛ فلا يقبل ما يأباه عقله، ويرفض ما بدا له فيه أدنى شبهة أو ريبة، وظل الجويني ينهل من العلم والمعرفة في شغف ودأب شديدين حتى صار من أئمة عصره المعروفين، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، فلما توفى أبوه جلس مكانه للتدريس وهو في تلك السن المبكرة؛ فكان يدرس المذهب الشافعي، ويدافع عن العقيدة الأشعرية، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في البحث ومواصلة التحصيل والاطلاع؛ فكان تلميذا وأستاذا في آن واحد.
شيوخه وأساتذته:
ومع أن والده كان هو المعلم الأول في حياته، فإن ذلك لم يمنعه من التلقي على مشاهير علماء عصره؛ فأخذ علوم الفقه عن "أبي القاسم الإسفراييني"، كما تلقى علوم القرآن الكريم على يد "أبي عبد الله محمد بن علي النيسابوري الجنازي" والذي عرف بشيخ القراء وغيرهم
الرحيل إلى الحجاز:
كان نجم الجويني قد بدأ يلمع في نيسابور وما حولها، وانتشر صيته حتى بلغ العراق والشام والحجاز ومصر، لكنه تعرض لبعض العنت والتضييق، فاضطر إلى مغادرة نيسابور، وتوجه إلى بغداد فأقام فيها فترة وتوافد عليه الطلاب والدارسون، وما لبث أن رحل إلى الحجاز فأقام بمكة وظل بها أربع سنوات يدرس ويفتي ويناظر حتى لقبه الناس "إمام الحرمين" لعلمه واجتهاده، فكان يقضي يومه بين العلم والتدريس ويقيم ليله طائفا متعبدا في الكعبة المشرفة؛ فصفت نفسه، وعلت همته، وارتفع قدره.
الجويني والتصوف:
وقد عرف التصوف الحق طريقه إلى قلب الجويني؛ فكانت مجالسه الصوفية رياضة روحية وسياحة نفسية يحلق بها في آفاق إيمانية وحبه، يبكي فيبكي الحاضرون لبكائه، ويجد فيها مجاهدة لنفسه ومراجعة لها.
العودة إلى نيسابور:
وعاد الجويني مرة أخرى إلى نيسابور؛ حيث قام بالتدريس في المدرسة النظامية التي أنشأها له الوزير "نظام الملك" لتدريس المذهب السني.
وظل الإمام الجويني يدرس بالمدرسة النظامية، فذاع صيته بين العلماء، وقصده الطلاب والدارسون من البلاد الأخرى.
وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الإمام؛ ففيها بلغ أوج نضجها العلمي، وصنف الكثير من مؤلفاته.
آثاره ومؤلفاته:
ومؤلفات الجويني على كثرتها لم تنل القدر الملائم لها من العناية والاهتمام من قبل الباحثين والمحققين، فمعظمها لا يزال مخطوطا، ولم يطبع منها إلا عدد قليل منها:
- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد.
- البرهان في أصول الفقه.
- الرسالة النظامية (أو العقيدة النظامية).
- الشامل في أصول الدين.
- غياث الأمم في التياث الظلم.
- لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة.
- الورقات في أصول الفقه.
وبرغم ما عرفه به الجويني من غزارة العلم، وما اتسم به من رجاحة العقل وحب العلم، وما بذله من جهد صادق في خدمة الدين، فإنه كان هدفا لبعض الطاغين عليه، الذين حاولوا النيل من علمه والتشكيك في صحة عقيدته، وذلك من خلال أقوال اقتطعوها من كلامه، وأخرجوها من سياقها، وراحوا يفسرونها على هواهم، وفق ما أرادوا توجيهها إليه، ولكنها اتهامات مرسلة، ومطاعن واهية لا تستند إلى حقائق علمية.
نهاية الرحلة:
وبعد رحلة حياة حافلة بالعلم والعطاء، أصيب الجويني بعلة شديدة، فلما أحس بوطأة المرض عليه انتقل إلى "بشتنقان" للاستشفاء بجوها المعتدل، ولكن اشتد عليه المرض فمات بها، وذلك في مساء الأربعاء 25 من ربع الآخر 478هـ - 20 من أغسطس 1185م، عن عمر بلغ تسعا وخمسين عاما.
الحافظ السلفى
ارتبطت مدينة الإسكندرية في العصر الإسلامي في (القرن السادس الهجري) بالعالم الجليل "الحافظ السِّلَفي"، فلا تُذكر إلا مقرونة به، ولا يُذكر إلا بها، وأصبحت بوجوده مقصد العلماء، وكعبة القصَّاد، وموئل العلماء، يَفِدون إليها من المشرق والمغرب، يأخذون عنه، ويستمعون إليه، ويتتلمذون على يديه.
وقوَّى هذا الارتباط أن الحافظ السلفي أقام بالإسكندرية خمسة وستين عامًا يقوم بالتدريس لطلاب العلم، وإفتاء الناس، ولم يغادرها إلى غيرها من المدن، فكان استقراره طوال هذه المدة من أقوى الأسباب في هذا الارتباط، ولم يكن الحافظ السلفي مصري الأصل أو حتى سكندري المنبت، حتى يقال إن ارتباط الإسكندرية به جاء من عصبية أهلها لابن من أبنائها، ولكنه كان أصبهانيًّا من فارس، فدلَّ على أن هذا الرباط الوثيق كان سببه علم الشيخ وورعه، فهفت إليه الأفئدة، وتسابق طلاب العلم لنيل شرف صحبته والتلمذة على يديه.
المولد والنشأة
في مدينة أصبهان كان مولد أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني، والسِّلفة لفظ فارسي معناه ثلاث شفاه؛ لأن شفته كانت مشقوقة، فصارت مثل شفتين، غير الأخرى الأصلية، ومن هنا جاءت نسبته إليها، فعُرف بالسلفي، ولم يُعرف على وجه اليقين سنة مولده، وإن كان يرجح أنه وُلد في عام (475هـ = 1082م).
تلقى السلفي علومه الأولى في أصبهان، واتجه إلى دراسة الحديث النبوي، وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولزم حلقات محدثي أصبهان المعروفين، من أمثال: "القاسم بن الفضل الثقفي"، و"عبد الرحمن بن محمد"، و"الفضل بن علي الحنفي"، ثم بدأ في الرحلة لطلب الحديث والتزام حلقات كبار الحفاظ المنتشرة في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، وكانت التقاليد العلمية تقضي بذلك، فلم يكن هناك بلد يستأثر بالحفّاظ أو كبار الفقهاء دون غيره، ولكي يحصل طالب العلم شيئا له قدره، ويستكمل ما بدأ، فلابد له من الرحلة إلى مراكز العلم وحواضر الثقافة.
رحلاته في طلب العلم
رحل السلفي إلى بغداد، ودرس الفقه على "ألْكيا أبي حسن على الهرّاس" الفقيه الأصولي المعروف، ودرس اللغة على "الخطيب أبي زكريا التبريزي"، وقرأ الحديث على "ثابت بن بندار"، ثم غادر بغداد، بعد أن ظل بها نحو أربع سنوات، ورحل إلى الحجاز، وسمع من علمائها في مكة والمدينة، ثم عاد إلى بغداد وأقام بها مدة، ثم رحل منها سنة (500هـ = 1106م) إلى المشرق الإسلامي، فزار همذان، واتصل بالشيخ الورع "أحمد بن محمد الغزالي" أخي حجة الإسلام "أبي حامد الغزالي" صاحب كتاب "إحياء علوم الدين"، وأقام معه فترة وتردد عليه في مجالس وعظه، ثم اتجه بعد ذلك إلى "دينور" و"قزوين" و"نهاوند"، وواصل سيره إلى "آمد" و"خلاط" و"نصيبين"، ولا يَسمع بعالم مبرّز في هذه البقاع إلا شدّ الرحال إليه ولازمه، حتى إذا أقبل عام (509هـ = 1115م) ولّى شطره إلى "دمشق"، وأقام بها عامين، ظل خلالهما موضع اهتمام وتقدير من علمائها وأهلها.
في الإسكندرية
غادر السلفي دمشق إلى الإسكندرية، فوصلها في سنة (511هـ = 117م)، وكان في السادسة والثلاثين من عمره، واشتغل منذ أن حلّ بها بتدريس الحديث، واستقرت به الحال، وتزوج سيدة ثرية من فضليات نساء الإسكندرية، كانت ابنه لرجل صالح، فتحسنت أحواله المالية، وتفرغ للقراءة والبحث والتأليف والتدريس، ولم يلبث أن طارت شهرته في الآفاق، فقصده طلاب العلم من مصر وخارجها، وظلّ يُلقي دروسه أول الأمر في داره أو مساجد المدينة نحو 27 سنة، إلى أن استقر في المدرسة التي عُرفت باسمه.
المدرسة السلفية
في الفترة التي أقام بها السلفي في الإسكندرية سنة (544هـ = 1149م) كانت مصر تتبع الدول الفاطمية، وكانت تمر بمرحلة متدهورة من تاريخ حياتها، فلما ولِي الوزارة "العادل ابن السلام"- وكان وزيرا سُنيًّا- بنى مدرسة خاصة له في الإسكندرية لتدريس المذهب الشافعي، وجعل عليها أبا الطاهر السلفي، فغلبت نسبته عليها حتى عُرفت باسم "المدرسة السلفية".
وهذه المدرسة السلفية كانت الثانية في الإسكندرية لتدريس المذهب السُنّي، بعد المدرسة التي بناها الوزير "رضوان بن ولخش" في سنة (532هـ = 1138م) لتدريس المذهب المالكي، وكانت الإسكندرية من أهم مراكز المقاومة السنية في مصر للمذهب الإسماعيلي الشيعي- المذهب الرسمي للدولة الفاطمية، وأدت المدرستان دورهما، وأدتا إلى انتصار المذهب السني في مصر، بعد أن سقطت الدولة الفاطمية على يد "صلاح الدين الأيوبي".
كان السلفي هو أستاذ المدرسة، يعاونه عدد من المعيدين الذين يعيدون الدرس مرة أخرى على الطلاب، كما تقضي بذلك التقاليد العلمية في ذلك العصر، وتدور الدروس التي يلقيها الشيخ حول الفقه والتفسير والحديث، وهذه الدروس إما يمليها على تلاميذه من ذاكرته، أو يقرؤها من كتاب من الكتب المعتمدة.
واتسم مجلسه بالأدب والوقار، وكانت له هيبة تملأ النفوس إجلالا وإكبارا، فإذا ما اتخذ مجلسه في قاعة الدرس انصرف إليه الحاضرون بحواسهم يتابعون شيخهم في درسه، ويتابعهم هو حتى يتيقن من إنصاتهم له، وكان لا يستحيي أن يزجر أحدًا من الحاضرين، مهما كان منصبه، إذا انشغل في حديث جانبي خافت مع جاره.
وكان درسه في المدرسة يؤمه العلماء والشعراء ورجال الحكم والتجار، الذين ينزلون الإسكندرية، وكانت أكبر ميناء تجاري في البحر المتوسط، فضلا عن تلاميذه وطلابه من كل حدب وصوب، وحسبك أن تعلم أن "صلاح الدين الأيوبي" كان ممن يترددون على دروس الحافظ السلفي في مدرسته، فتذكر المصادر التاريخية أن "صلاح الدين" خرج إلى الإسكندرية في أواخر شعبان (سنة 572هـ)، وفي صحبته ولداه: "الأفضل علي"، و"العزيز عثمان"، وكبار رجال الدولة، فقضوا هناك شهر رمضان، وسمعوا فيه الحديث من أبي طاهر أحمد السلفي.
مؤلفات السلفي
صنّف السلفي مؤلفات كثيرة يأتي في مقدمتها: "معجم السفر"، وترجم فيه لألفين من أعلام عصره، ممن تتلمذ عليهم، أو تتلمذوا على يديه، وهو كتاب حافل بصورة الحركة العلمية في عصره أحسن تصوير، وقد تم طبع هذا الكتاب في بغداد بعناية وزارة الثقافة والفنون، وصدر في سنة (1978م)، كما خصّ شيوخه في أصبهان بمعجم خاص بهم، وكذا شيوخه في بغداد، وله أيضا كتاب "الأربعين البلدانية"، وهو كتاب يضم أربعين حديثا نبويا اختارهم وانتقاهم بمنهج خاص؛ حيث جمع أربعين حديثا أخذهم عن أربعين شيخا قابلهم في أربعين بلدة ومدينة.
ويجدر بالذكر أن السلفي لم يقتصر في كتابه "معجم السفر" على تراجم الرجال من فقهاء ومحدثين وشعراء ممن عاصرهم في الإسكندرية، وإنما تناول بعض نساء المدينة ممن شاركن في الحركة العلمية، واشتغلن بالعلم والأدب، وأخذ عنهن أو أخذن عنه، فيقول عن "عائشة بنت أحمد بن إبراهيم الرازى": "عائشة هذه مُحدّثة، وابنة محدّث، وأخت محدث، وكانت صالحة، قرأنا عليها سنة 534هـ".
ويترجم لأختها خديجة، وكانت محدثة أيضا، فيقول: " خديجة هذه أبوها محدّث، وأخوها محدّث، وقد حدثت أختها، كما حدثت هي، ومن شيوخها ابن عبد الولي، وابن الدليل، وأبوها، وقد قرأنا عليها عن هؤلاء كلهم، توفيت (سنة 526هـ)، وهي بكر لم تتزوج قط".
وفاة الحافظ السلفي
قضى السلفي نحو 65 سنة في الإسكندرية، لم يغادرها إلا مرة واحدة إلى القاهرة؛ حيث أقام في الفسطاط، واتخذ حلقة في جامع عمرو بن العاص لتدريس الحديث، واتصل بعلماء الفسطاط، وأخذ عنهم، وأخذوا عنه، ثم عاد إلى الإسكندرية لا يفارقها، متفرغا لعلمه ودرسه، وقد أثنى عليه كبار العلماء، فقال عنه الذهبي: "لا أعلم أحدا في الدنيا حدّث نيفا وثمانين سنة سوى السلفي".
وظل السلفي يقرأ الحديث ويمليه على طلابه، لم يمنعه عن ذلك كبر سنه وضعف جسمه، فقد كانت ذاكرته متوهجة، حاضرة، لم يؤثر فيها كرّ السنين، حتى تُوفي في (15 من ربيع الآخر 576 هـ = 8 من سبتمبر 1180م)، وقد سجل السُبكي في طبقات الشافعية اللحظات الأخيرة في عمره بقوله:
"ولم يزل يُقرأ عليه إلى أن غربت الشمس من يوم وفاته، وهو يرد على القارئ اللحن الخفي، وصلى يوم الجمعة الصبح عند انفجار الفجر، وتُوفي عقبيه فجأة".
من مصادر الدراسة:
• الذهبي (محمد بن أحمد): سير أعلام النبلاء- مؤسسة الرسالة بيروت (1990م).
• السبكي (عبد الوهاب): طبقات الشافعية- تحقيق/ محمود محمد الطناحي وعبد التفاح الحلو- دار إحياء الكتب العربية – القاهرة (1971م).
• ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية- عالم الكتاب- بيروت (1407هـ = 1987م).
• جمال الدين الشيال: أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي- دار المعارف- القاهرة (1965م).
جلال الدين السيوطي
ولد السيوطي مساء يوم الأحد غرة شهر رجب [849هـ= سبتمبر 1445م] بالقاهرة، واسمه عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري الأسيوطي، وكان سليل أسرة اشتهرت بالعلم والتدين، وكان أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة التي جعلت بعض أبناء العلماء والوجهاء يتلقون العلم على يديه.
وقد توفي والد السيوطي ولابنه من العمر ست سنوات، فنشأ الطفل يتيمًا، واتجه إلى حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، فاتسعت مداركه وزادت معارفه. وكان السيوطي محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم "الكمال بن الهمام الحنفي" أحد كبار فقهاء عصره، وتأثر به الفتى تأثرًا كبيرًا خاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة.
شيوخه
عاش السيوطي في عصر كثر فيه العلماء الأعلام الذين نبغوا في علوم الدين على تعدد ميادينها، وتوفروا على علوم اللغة بمختلف فروعها، وأسهموا في ميدان الإبداع الأدبي، فتأثر السيوطي بهذه النخبة الممتازة من كبار العلماء، فابتدأ في طلب العلم سنة [ 864 هـ= 1459م] ودرس الفقه والنحو والفرائض، ولم يمض عامان حتى أجيز بتدريس العربية، وألف في تلك السنة أول كتبه وهو في سن السابعة عشرة، فألف "شرح الاستعاذة والبسملة" فأثنى عليه شيخه "علم الدين البلقيني".
وكان منهج السيوطي في الجلوس إلى المشايخ هو أنه يختار شيخًا واحدًا يجلس إليه، فإذا ما توفي انتقل إلى غيره، وكان عمدة شيوخه "محيي الدين الكافيجي" الذي لازمه السيوطي أربعة عشر عامًا كاملة وأخذ منه أغلب علمه، وأطلق عليه لقب "أستاذ الوجود"، ومن شيوخه "شرف الدين المناوي" وأخذ عنه القرآن والفقه، و"تقي الدين الشبلي" وأخذ عنه الحديث أربع سنين فلما مات لزم "الكافيجي" أربعة عشر عامًا وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني، وأخذ العلم ـ أيضًا ـ عن شيخ الحنفية "الأفصرائي" و"العز الحنبلي"، و"المرزباني" "وجلال الدين المحلي" و"تقي الدين الشمني" وغيرهم كثير، حيث أخذ علم الحديث فقط عن
(150) شيخًا من النابهين في هذا العلم.
ولم يقتصر تلقي السيوطي على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيوخ من النساء اللاتي بلغن الغاية في العلم، منهن "آسية بنت جار الله بن صالح"، و"كمالية بنت محمد الهاشمية" و "أم هانئ بنت أبي الحسن الهرويني"، و"أم الفضل بنت محمد المقدسي" وغيرهن كثير.
رحلاته
كانت الرحلات وما تزال طريقًا للتعلم، إلا أنها كانت فيما مضى من ألزم الطرق للعالم الذي يريد أن يتبحر في علمه، وكان السيوطي ممن سافر في رحلات علمية ليلتقي بكبار العلماء، فسافر إلى عدد من الأقاليم في مصر كالفيوم ودمياط والمحلة وغيرها، وسافر إلى الشام واليمن والهند والمغرب والتكرور (تشاد حاليًا) ورحل إلى الحجاز وجاور بها سنة كاملة، وشرب من ماء زمزم ليصل في الفقه إلى رتبة سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني.
ولما اكتملت أدوات السيوطي جلس للإفتاء سنة [871 هـ=1466م] وأملى الحديث في العام التالي، وكان واسع العلم غزير المعرفة، يقول عن نفسه: "رُزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع"، بالإضافة إلى أصول الفقه والجدل، والقراءات التي تعلمها بنفسه، والطب، غير أنه لم يقترب من علمي الحساب والمنطق.
ويقول: "وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله تعالى لا فخرًا.. وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر؟!!".
وكانت الحلقات العلمية التي يعقدها السيوطي يقبل عليها الطلاب، فقد عُيّن في أول الأمر مدرسًا للفقه بالشيخونية، وهي المدرسة التي كان يلقي فيها أبوه دروسه من قبل، ثم جلس لإملاء الحديث والإفتاء بجامع ابن طولون، ثم تولى مشيخة الخانقاه البيبرسية التي كانت تمتلئ برجال الصوفية.
وقد نشب خلاف بين السيوطي وهؤلاء المتصوفة، وكاد هؤلاء المتصوفة يقتلون الرجل، حينئذ قرر أن يترك الخانقاه البيبرسية، ويعتزل الناس ومجتمعاتهم ويتفرغ للتأليف والعبادة.
اعتزال السيوطي الحياة العامة
قضى السيوطي فترة غير قصيرة في خصومات مع عدد من علماء عصره، كان ميدانها الحملات الشرسة في النقد اللاذع في الترجمة المتبادلة، ومن خصومه: البرهان الكركي، وأحمد بن محمد القسطلاني، والشمس الجوجري، غير أن أشد خصوماته وأعنفها كانت مع شمس الدين السخاوي، الذي اتهم السيوطي بسرقة بعض مؤلفاته، واغتصاب الكتب القديمة التي لا عهد للناس بها ونسبتها إلى نفسه.
ولم يقف السيوطي مكتوف الأيدي في هذه الحملات، بل دافع عن نفسه بحماسة بالغة وكان من عادته أن يدعم موقفه وقراره بوثيقة ذات طابع أدبي، فألف رسالة في الرد على السخاوي، اسمها "مقامة الكاوي في الرد على السخاوي" نسب إليه فيها تزوير التاريخ، وأكل لحوم العلماء والقضاة ومشايخ الإسلام.
وكان لهذه العلاقة المضطربة بينه وبين بعض علماء عصره، وما تعرض له من اعتداء في الخانقاه البيبرسية أثر في اعتزال الإفتاء والتدريس والحياة العامة ولزوم بيته في روضة المقياس على النيل، وهو في الأربعين من عمره، وألف بمناسبة اعتزاله رسالة أسماها "المقامة اللؤلؤية"، ورسالة "التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس".
وقد تنبه بعض خصوم السيوطي إلى خطئهم فيما صوبوه إلى هذا العالم الجليل من سهام في النقد والتجريح وخصومات ظالمة، فأعلنوا عن خطئهم، وفي مقدمتهم الشيخ القسطلاني الذي أراد أن يسترضي هذا العالم الجليل الذي لزم بيته وعزف عن لقاء الناس، فتوجه إليه حافيًا معتذرًا، غير أن هذا الأمر لم يجعل السيوطي يقطع عزلته ويعود إلى الناس، ولكنه استمر في تفرغه للعبادة والتأليف.
اعتزال السلاطين
عاصر السيوطي (13) سلطانًا مملوكيًا، وكانت علاقته بهم متحفظة، وطابعها العام المقاطعة وإن كان ثمة لقاء بينه وبينهم، وضع نفسه في مكانته التي يستحقها، وسلك معهم سلوك العلماء الأتقياء، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم، فقد ذهب يومًا للقاء السلطان الأشرف قايتباي وعلى رأسه الطيلسان [عمامة طويلة] فعاتبه البعض، فأنشأ رسالة في تبرير سلوكه أطلق عليها "الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان".
وفي سلطنة طومان باي الأول حاول هذا السلطان الفتك بالسيوطي، لكن هذا العالم هجر بيته في جزيرة الروضة واختفى فترة حتى عُزل هذا السلطان.
وكان بعض الأمراء يأتون لزيارته، ويقدمون له الأموال والهدايا النفيسة، فيردها ولا يقبل من أحد شيئا، ورفض مرات عديدة دعوة السلطان لمقابلته، وألف في ذلك كتابًا أسماه "ما وراء الأساطين في عدم التردد على السلاطين".
ريادة ثقافية في عصر العلماء
كان السيوطي من أبرز معالم الحركة العلمية والدينية والأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، حيث ملأ نشاطه العلمي في التأليف مختلف الفروع في ذلك الزمان من تفسير وحديث وفقه وتاريخ وطبقات ونحو ولغة وأدب وغيرها، فقد كان موسوعي الثقافة والاطلاع.
وقد أعانه على كثرة تأليفه انقطاعه التام للعمل وهو في سن الأربعين حتى وفاته، وثراء مكتبته وغزارة علمه وكثرة شيوخه ورحلاته، وسرعة كتابته، فقد اتسع عمره التأليفي (45) سنة، حيث بدأ التأليف وهو في السابعة عشرة من عمره، وانقطع له (22) عامًا متواصلة، ولو وُزع عمره على الأوراق التي كتبها لأصاب اليوم الواحد (40) ورقة، على أن القسم الأكبر من تأليفه كان جمعًا وتلخيصًا وتذييلا على مؤلفات غيره، أما نصيبه من الإبداع الذاتي فجِدّ قليل.
وقد تمنى السيوطي أن يكون إمام المائة التاسعة من الهجرة لعلمه الغزير، فيقول: "إني ترجيت من نعم الله وفضله أن أكون المبعوث على هذه المائة، لانفرادي عليها بالتبحر في أنواع العلوم".
وزادت مؤلفات السيوطي على الثلاثمائة كتاب ورسالة، عدّ له بروكلمان (415) مؤلفا، وأحصى له "حاجي خليفة" في كتابه "كشف الظنون" حوالي (576) مؤلفا، ووصل بها البعض كابن إياس إلى (600) مؤلف.
ومن مؤلفاته في علوم القرآن والتفسير: "الاتقان في علوم التفسير"، و"متشابه القرآن"، و" الإكليل في استنباط التنزيل"، و"مفاتح الغيب في التفسير"، و"طبقات المفسرين"، و"الألفية في القراءات العشر".
أما الحديث وعلومه، فكان السيوطي يحفظ مائتي ألف حديث كما روى عن نفسه، وكان مغرما بجمع الحديث واستقصائه لذلك ألف عشرات الكتب في هذا المجال، يشتمل الواحد منها على بضعة أجزاء، وفي أحيان أخرى لا يزيد عن بضع صفحات.. ومن كتبه: "إسعاف المبطأ في رجال الموطأ"، و" تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك"، و" جمع الجوامع"، و" الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة"، و" المنتقى من شعب الإيمان للبيهقي"، و"أسماء المدلسين"، و"آداب الفتيا"، و" طبقات الحفاظ".
وفي الفقه ألف "الأشباه والنظائر في فقه الإمام الشافعي"، و"الحاوي في الفتاوي"، و" الجامع في الفرائض" و" تشنيف الأسماع بمسائل الإجماع".
وفي اللغة وعلومها كان له فيها أكثر من مائة كتاب ورسالة منها: "المزهر في اللغة"، و"الأشباه والنظائر في اللغة"، و"الاقتراح في النحو"، و"التوشيح على التوضيح"، و"المهذب فيما ورد في القرآن من المعرب"، و"البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك".
وفي ميدان البديع كان له: "عقود الجمان في علم المعاني والبيان"، و"الجمع والتفريق في شرح النظم البديع"، و"فتح الجليل للعبد الذليل".
وفي التاريخ والطبقات ألف أكثر من (55) كتابًا ورسالة يأتي في مقدمتها: "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، و"تاريخ الخلفاء"، و"الشماريخ في علم التاريخ"، و"تاريخ الملك الأشرف قايتباي"، و"عين الإصابة في معرفة الصحابة"، و"بغية الوعاة في طبقات النحاة"، و"نظم العقيان في أعيان الأعيان"، و"در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة"، و"طبقات الأصوليين".
ومن مؤلفاته الأخرى الطريفة: "منهل اللطايف في الكنافة والقطايف"، و"الرحمة في الطب والحكمة"، و"الفارق بين المؤلف والسارق"، و"الفتاش على القشاش"، و"الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".
وقد شاءت إرادة الله أن تحتفظ المكتبة العربية والإسلامية بأغلب تراث الإمام السيوطي، وأن تطبع غالبية كتبه القيمة وينهل من علمه الكثيرون.
تلاميذه
وتلاميذ السيوطي من الكثرة والنجابة بمكان، وأبرزهم "شمس الدين الداودي" صاحب كتاب "طبقات المفسرين"، و"شمس الدين بن طولون"، و"شمس الدين الشامي"، محدث الديار المصرية، والمؤرخ الكبير "ابن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهور".
وفاته
توفي الإمام السيوطي في منزله بروضة المقياس على النيل بالقاهرة في [19 جمادى الأولى 911هـ= 20 أكتوبر 1505 م] ودفن بجواره والده.
المصادر:
• جلال الدين السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة ـ الطبعة الأولى 1387 هـ=1967م.
• مصطفى الشكعة: جلال الدين السيوطي ـ مطبعة الحلبي 1401هـ= 1981م.
• عبد الحفيظ فرغلي القرني: الحفاظ جلال الدين السيوطي ـ سلسلة أعلام العرب (37) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1990.
• محمد عبد الله عنان: مؤرخو مصر الإسلامية ـ الهيئة العامة للكتاب ـ "سلسلة مكتبة الأسرة".
الإمام الشاطبى
منذ أن أشرق على أرض الكنانة نور الإسلام والمصريون يعنون بالقرآن الكريم، حيث أقبلوا عليه يتلقونه من أفواه الصحابة الكرام، وامتلأت مساجدهم بحلقات القراءة والترتيل، يقوم عليها الصحابة وكبار التابعين، ويؤمها الراغبون في القراءة والتجويد، ثم تطلعت همة كثير من المصريين إلى الرحلة في طلب قراءات الذكر الحكيم، فقصدوا مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حيث عالمها الفذ الإمام "نافع بن عبد الرحمن" الذي طبقت شهرته في قراءات القرآن العالم الإسلامي حتى وفاته سنة (169هـ=785م).
وكان من تلاميذ الإمام نافع من المصريين: "عثمان بن سعيد" المعروف بـ "ورش" المتوفى سنة (197 هـ=812م) وعرف بتمكنه من العربية، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية، وقصده الناس من كل مكان يتلقون عنه، وحمل عنه قراءته أهل المغرب، وهي القراءة التي لا يزالون حتى الآن يقرءون بها، كما انتشرت في بلاد الأندلس.
ومنذ ذلك الحين ومصر لا تخلو في كل عصر من أئمة القراءات، حتى إن السيوطي أحصى 135 عالمًا ممن تصدروا حلقات القراءات حتى زمانه، ولا شك أن هناك أعدادًا كثيرة غيرهم كانوا أقل شهرة ومكانة منهم.
وكان ممن بروزا في مصر من علماء القراءات في القرن الرابع الهجري "عبد المنعم بن غلبون" المتوفى سنة ( 389 هـ=998م) صاحب كتاب "الإرشاد"، وابنه طاهر بن غلبون المتوفى سنة (399هـ= 1008م) صاحب كتاب " التذكرة في القراءات"، وتلقى عنه العالم الكبير أبو عمرو الداني أكبر قراء الأندلس في عصره، وهو من أعظم علماء القراءات قاطبة، وصاحب التصانيف المعروفة في هذا العلم كالتمهيد والتيسير. كما تلقى عنه وعن أبيه مكي بن أبي طالب القيرواني.
وفي القرن الخامس الهجري لمع عدد كبير من أهل الإقراء في مقدمتهم عبد الجبار الطرسوسي المتوفى سنة (420هـ=1039م) صاحب كتاب المجتبى، والحسن بن محمد البغدادي، المتوفى سنة (428هـ= 1046م) ،وإسماعيل بن خلف المتوفى سنة (455هـ=1063م).
وفي القرن السادس الهجري نلتقي بعدد وافر من علماء القراءات، كان أبرزهم القاسم بن فيره الذي قدم من الأندلس واستقر بمصر، واشتهر بالشاطبي، وأقبل عليه طلبة العلم من كل مكان.
المولد والنشأة
شاطبة مدينة أندلسية تقع على نحو خمسين كيلومترًا جنوب غربي بلنسية على مقربة من البحر المتوسط، وكانت مدينة زاهرة في ظل العهد الإسلامي، وظلت من أهم قواعد الأندلس الشرقية حتى سقطت من أيدي المسلمين سنة (647هـ= 1249م).
ويعود بقاء تردد اسمها إلى اليوم على ألسنة كثير من أهل العلم إلى اثنين من أنبغ من أنجبت الثقافة الإسلامية، أما أحدهما فهو الفقيه الأصولي إبراهيم بن موسى بن محمد المعروف بـ "الشاطبي" صاحب كتاب "الموافقات في أصول الفقه"، و"الاعتصام"، وأما الآخر فهو القاسم بن فيره صاحب المنظومة المعروفة بالشاطبية في علم القراءات.
في هذه المدينة العريقة ولد القاسم بن فيره بن خلف في سنة (538هـ= 1143م) وكف بصره صغيرًا، وعنيت به أسرته، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم طرفًا من الحديث والفقه، واتجه إلى حلقات العلم التي كانت تعقد في مساجد شاطبة، ومالت نفسه إلى علم القراءات، فتلقاها على أبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفزي، ثم شد رحاله إلى بلنسية وكانت من حواضر العلم في الأندلس، فقرأ على ابن هزيل، وسمع الحديث منه ومن أبي عبد الله محمد بن أبي يوسف بن سعادة، وأبي محمد عاشر بن محمد بن عاشر، وأبي محمد عبد الله بن أبي جعفر المرسي، ودرس كتاب سيبويه، والكامل للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة على أبي عبد الله محمد بن حميد، ودرس التفسير على أبي الحسن بن النعمة، صاحب كتاب "ري الظمآن في تفسير القرآن
الاستقرار بالقاهرة
رحل القاسم إلى الحج، وهو في طريقه إلى الأراضي الحجازية نزل الإسكندرية، حيث الحافظ أبي طاهر السلفي، وكانت شهرته في الحديث قد عمت "الآفاق" ويشد إليه العلماء الرحال من الشرق والمغرب يتتلمذون على يديه،.
استقر الشاطبي بالإسكندرية فترة من الزمن تلقى فيها الحديث عن الحافظ السلفي، ثم استكمل طريقة إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، وفي طريق العودة دخل مصر وكانت تحت حكم الأيوبيين؛ فأكرم "القاضي الفاضل" وفادته وأحسن استقباله وعرف مكانته، وأنزله مدرسته التي بناها بدرب الملوخية بالقاهرة، وجعله شيخًا لها.
طابت للشاطبي الحياة بالقاهرة فاستوطنها واستقر بها، وجلس للإقراء والتعليم، فطارت شهرته في الآفاق، وأقبل عليه الطلاب من كل مكان، وكان الشيخ إمامًا متقنًا في علمه، متبحرًا في فنه، آية في الفهم والذكاء، حافظًا للحديث بصيرًا باللغة العربية، إمامًا في اللغة، مع زهد ودين وورع وإخلاص، زاده هيبة وإجلالا، وأسبغ عليه الاشتغال بالقرآن نورًا كسا وجهه وألقى محبة له في القلوب.
ولما فتح الله على الناصر صلاح الدين باسترداد مدينة بيت المقدس -رد الله غربتها- سنة (583هـ= 1187م) توجه إلى الشاطبي فزاره سنة (589هـ= 1193م)، ثم رجع فأقام بالمدرسة الفاضلية وأقام بها يقرئ الناس ويعلمهم.
منظومة الشاطبية
تعود شهرة القاسم بن فيره إلى منظومته "حزر الأماني ووجه التهاني" في القراءات السبع، وهي قراءات نافع إمام أهل المدينة، وابن كثير إمام أهل مكة، وأبي عمرو بن العلاء بن العلاء إمام أهل البصرة، وعاصم وحمزة والكسائي أئمة أهل الكوفة، وابن عامر إمام أهل الشام.
والشاطبية قصيدة لامية اختصرت كتاب "التيسير في القراءات السبع" للإمام أبي عمرو الداني المتوفى سنة (444هـ= 1052م)، وقد لقيت إقبالا منقطع النظير، ولا تزال حتى يومنا هذا العمدة لمن يريد إتقان القراءات السبع، وظلت موضع اهتمام العلماء منذ أن نظمها الشاطبي رواية وأداء، وذلك لإبداعها العجيب في استعمال الرمز وإدماجه في الكلام، حيث استعمله عوضًا عن أسماء القراء أو الرواة، فقد يدل الحرف على قارئ واحد أو أكثر من واحد، وهناك رموز ومصطلحات في المنظومة البديعة، لا يعرفها إلا من أتقن منهج الشاطبي وعرف مصطلحه، وقد ضمّن في مقدمة المنظومة منهجه وطريقته، ومن أبياتها:
جزى الله بالخيرات عنا أئمة لنا نقلوا القرآن عذبًا وسلسلا
فمنهم بدور سبعة قد توسطت سماء العلا والعدل زهر وكُمَّلا
لها شهب عنها استنارت فنورت سواد الدجى حتى تفرق وانجلا
ولم يحظ كتاب في القراءات بالعناية التي حظيت بها هذه المنظومة، حيث كثر شُراحها وتعددت مختصراتها، ومن أشهر شروح الشاطبية:
• فتح الوصيد في شرح القصيد لـ "علم الدين السخاوي"، المتوفى سنة (643هـ= 1245م).
• وإبراز المعاني من حرز التهاني لـ "أبي شامة"، المتوفى (665هـ= 1266م).
• وكنز المعاني في شرح حرز الأماني ووجه التهاني لـ "الجعبري"، المتوفى سنة (_732هـ=1331م).
• وسراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهي لـ "ابن القاصح"، المتوفى (801هـ= 1398م).
• وتقريب النفع في القراءات السبع للشيخ "علي محمد الضياع"، شيخ عموم المقارئ المصرية.
وقد حصر أحد الباحثين المغاربة أكثر من مائة عمل ما بين شرح للشاطبية وحاشية على الشرح. وللشاطبي منظومتان معروفتان هما:
• عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد، وهي في بيان رسم المصحف.
• وناظمة الزهرة في أعداد آيات السور.
وفاته
ظل الشاطبي في القاهرة يقيم حلقته في مدرسته، ويلتف حوله تلاميذه النابهون من أمثال أبي الحسن على بن محمد السخاوي، وكان أنبغ تلاميذه، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بعد شيخه، وأبي عبد الله محمد بن عمر القرطبي، وأبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب وغيرهم كثير. ولم تطل بالشاطبي الحياة، حيث تُوفي وعمره اثنان وخمسون عامًا في (28 من جمادى الآخرة 590هـ= 20 من يونيو 1194م)، ودفن في تربة القاضي الفاضل بالقرب من سفح جبل المقطم بالقاهرة.
من مصادر الدراسة:
• ابن الجزري: غاية النهاية في طبقات القراء ـ تحقيق ج برحستراسر ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ (1402 هـ= 1982م).
• شمس الدين الذهبي: معرفة القراء الكبار ـ تحقيق بشار عواد معروف وآخرين ـ مؤسسة الرسالة بيروت ـ بدون تاريخ.
• عبد الوهاب السبكي: طبقات الشافعية الكبرى ـ تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناجي ـ هجر للطباعة والنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ (1413 هـ= 1992م).
• ابن خلكان: وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار صادر ـ بيروت ـ (1398هـ= 1978م).
• الإسنوي: طبقات الشافعية ـ تحقيق عبد الله الجبوري ـ رئاسة ديوان الأوقاف ـ بغداد ـ 1391م.
• أحمد اليزيدي: الجعبري ومنهجه في كنز المعاني في شرح حرز الأماني ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ الرباط ـ (1419هـ= 1998م).
شوقي ضيف: عصر الدول والإمارات (مصر ـ سوريا) دار المعارف ـ القاهرة ـ 1984م.
الشوكاني
نسبه ونسبته:
هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن، انتسب إلى هجرة شوكان، فقال: (وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل والصلاح والدين من قديم الزمان، لا يخلو وجود عالم منهم في كل زمن..).
مولده:
ولد رحمه الله يوم الاثنين في الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف في هجرة شوكان. ولد في بيت أعانه على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فقد حفظ القرآن وجوده، كما حفظ الطثير من المتون والمختصرات في فنون متعددة قبل عهد الطلب.
طلبه للعلم:
تتلمذ رحمه الله على أجلة شيوخ اليمن، وكان لا يكتفي بدراسة الطتاب، بل يتتبع شيوخه حتى يستفرغ ما عندهم من مادة، كما فعل ب "شرح الأزهار"، حيث قرأه على أربعة من مشايخه.
ولم يغادر الشوكاني صنعاء طلباً للعلم، لأسباب ذكرها في البدر الطالع (2/218).
وتصدر الإفتاء وهو في سن العشرين، وجلس إليه التلاميذ ينهلون من بحر لا تكدره الدلاء، فكانت تبلغ دروسه في اليوم والليلة نحو ثلاثين درساً في فنون شتى.
فكان رحمه الله معطاء، ينفق مما رزقه الله من العلم والفهم، لم يحتجب عن طلبة العلم، ولم يمنعه التأليف عن ذلك.
شيوخه:
عدد الشوكاني رحمه الله ثلاثة عشر شيخاً درس عليهم، وهم:
1 - والده رحمه الله.
2 - عبد الرحمن بن قاسم المداني.
3 - أحمد بن عام رالحدائي.
4 - أحمد بن محمد الحرازي.
5 - إسماعيل بن الحسن بن أحمد.
6 - عبد الله بن إسماعيل الهتمي.
7 - القاسم بن يحيى الخولاني.
8 - الحسن بن إسماعيل المغربي.
9 - عبد القادر بن أحمد.
10 - هادي بن إسماعيل القاراني.
11 - عبد الرحمن بن حسن الأكوع.
12 - علي بن إبراهيم بن علي.
13 - يحيى بن محمد الحوثي.
مؤلفاته:
يعد الشوكاني من المكثرين، وقد امتازت مؤلفاته بالأسلوب الماتع، المنصاع للحجة والدليل والبرهان، ومنها:
1 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار
2 - التحف في مذاهب السلف
3 - شرح الصدور بتحريم رفع القبور
4 - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
5 - إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول
6 - الدرر البهية
7 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير.
8 - السيل الجرار المتدفق من حدائق الأزهار.
9 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع.
10 - نيل الأرب
11 - الفوائد المجموعة وغيرها كثير.
وفاته :
توفاه الله تعالى يوم الأربعاء في السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمسين ومائتين وألف من الهجرة، رحمه الله، وأسكنه الفردوس الأعلى، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته.
مصادر ترجمته:
1 - البدر الطالع للشوكاني.
2 - أبجد العلوم لصديق حسن خان.
3 - هدية العارفين للبغدادي.
4 - إيضاح المكنون للبغدادي.
5 - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة.
6 - التاج المكلل لصديق حسن خان.
7 - الرسالة المستطرفة للكتاني.
8 - فهرس الفهارس للكتاني.
9 - طبقات فقهاء اليمن للبجلي.
الصنعاني
هو السيد، العلامة، بدر الملة النَّيِّر، المؤيَّد بالله: محمد ابن الإمام، المتوكل على الله: إسماعيل بن صلاح، الأمير، الصنعاني، اليمني : الإمام الكبير، المحدث، الأصولي، المتكلم الشهير؛ قرأ كتب الحديث، وبرع فيها؛ وكان إماما في الزهد والورع، يعتقده العامة والخاصة، ويأتونه بالنذور، فيردها ويقول: إن قبولها تقرير لهم على اعتقادهم أنه من الصالحين، وهو يخاف أنه من الهالكين.
حكى بعض أولاده: أنه قرأ - وهو يصلي بالناس صلاة الصبح -: (هل أتاك حديث الغاشية)، فبكى وغشي عليه؛ وكان والده: ولي الله بلا نزاع، من أكابر الأئمة وأهل الزهد والورع، استوى عنده الذهب والحجر؛ وخلف أولادا هم أعيان العلماء والحكماء.
قال الشيخ أحمد بن عبد القادر الحفظي، الشافعي، - في ذخيرة الآمال، في شرح عقد جواهر اللآل -: الإمام، السيد، المجتهد الشهير، المحدث الكبير، السراج المنير: محمد بن إسماعيل، الأمير، مسند الديار، ومجدد الدين في الأقطار، صنف أكثر من مائة مؤلف، وهو لا ينسب إلى مذهب، بل مذهبه: الحديث.
قال: أخذ عن علماء الحرمين، واستجاز منهم، وارتبط بأسانيدهم.
له مصنفات جليلة ممتعة، تنبئ عن سعة علمه، وغزارة اطلاعه على العلوم النقلية والعقلية، وكان ذا علم كبير، ورياسة عالية، وله في النظم اليد الطولى، بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولم يقلد أحدا من أهل المذاهب، وصار إماما، كاملا، مكملا بنفسه.
مصنفاته أزيد من أن تذكر ، منها: (سبل السلام، شرح بلوغ المرام)، و(منحة الغفار، حاشية ضوء النهار)؛ و (إسبال المطر، على قصب السكر) و (جمع التشتيت، في شرح أبيات التثبيت) و(توضيح الأفكار، في شرح تنقيح الأنظار)... إلى غير ذلك من الرسائل والمسائل التي لا تحصى، وكلها فريدة في بابها، خطيبة في محرابها؛ حجَّ وزار، واستفاد من علماء الحرمين الشريفين، وغيرهم من فضلاء الأمصار، فهو أكرم من أن يصفه مثلي، وقفت له على قصائد بديعة، ونظم رائق، وكان له صولة في الصدع بالحق، واتباع السنة، وترك البدعة، لم ير مثله في هذا الأمر.
توفي - رحمه الله - في سنة 1182 هـ.
أفاده القنوجي رحمه الله في أبجد العلوم.
ابن جرير الطبري
التعريف بابن جرير الطبري :
هو أبو جعفر ، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، الإمام الجليل ، المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة ، وهو من أهل آمل طبرستان، ولد بها سنة 224هـ أربع وعشرين ومائتين من الهجرة ، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، سنة ست وثلاثين ومائتين ، وطوّف في الأقاليم ، فسمع بمصر والشام والعراق ، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد ، وبقى بها إلى أن مات سنة عشر وثلاثمائة .
مبلغه من العلم والعدالة :
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام ، يُحكم بقوله ، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظـًا لكتاب الله ، بصيرًا بالقرآن ، عارفـًا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن ، عالمـًا بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفـًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام ، عارفـًا بأيام الناس وأخبارهم .. هذا هو ابن جرير في نظر الخطيب البغدادي، وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال ، وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول : محمد بن جرير فقيه عالم ، وهذه الشهادة جد صادقة ؛ فإن الرجل برع في علوم كثيرة ، منها : علم القراءات ، والتفسير ، والحديث ، والفقه ، والتاريخ ، وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنف .
مصنفاته :
كتاب التفسير، وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل ، وكتاب اختلاف العلماء ، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين ، وكتاب أحكام شرائع الإسلام ، وكتاب التبصر في أصول الدين … وغير هذا كثير .
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد ، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة ، سوى كتاب التفسير ، وكتاب التاريخ .
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير ، كما اعتبر أبا للتاريخ الإسلامي ، وذلك بالنظر لما في هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية ، ويقول ابن خلكان : إنه كان من الأئمة المجتهدين ، لم يقلد أحدًا ، ونقل : أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكره في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين ، قالوا : وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهبه ، يقال لهم الجريرية ، ولكن هذا المذهب الذي أسسه ـ على ما يظهر ـ بعد بحث طويل ، ووجد له أتباعـًا من الناس ، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين ؛ ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متمذهبـًا بمذهب الشافعي ، يدلنا على ذلك ما جاء في الطبقات الكبرى لابن السبكي ، من أن ابن جرير قال : أظهرت فقه الشافعي ، وأفتيت به ببغداد عشر سنين .