بائع الورد
12-18-2007, 04:42 PM
هندسة الدماغ والقابلية الرياضية
موسى ديب الخوري
تبين الأبحاث الحديثة أن أحد أسس الحساب وتصور الأرقام يرتكز على قاعدة بيولوجية عامة.فقد نُظّم في عام 2000 مؤتمر حول الرياضيات ألقيت فيه بعض الأبحاث الجديدة حول الأسس الدماغية للتفكير الرياضي. يثير دماغ الرياضيين العلماء منذ وقت طويل. وبشكل عام حاول العلماء أن يفهموا الدماغ والآليات التي يستطيع بها نسيج من الخلايا العصبية ونقاط الاشتباك العصبية أن تحول مجموعة من المعلومات إلى نظريات. وما هي التمثيلات العقلية والبنى العصبية التي تعطي للدماغ البشري ـ وللدماغ البشري وحده ـ إمكانية استكشاف الحقائق الرياضية. ولا يخفى الإمكانية الهائلة التي تنفتح أمام العلم وخاصة العلوم المعلوماتية لو أمكن التقدم في هذا المجال. ولا ننسى أن دماغ العالم ألبرت أينشتين كان موضوع أبحاث كثيرة أجريت عليه خلال حياته وبعد موته في محاولة لفهم آليات الإبداع العلمي لديه. وفي عام 1985، استطاع أحد العلماء في جامعة بركلي أن يبرهن على وجود كثافة عالية اكثر من المعتاد من الخلايا التي تشكل محيط الخلايا القشرية في المنطقة الجبهية من القشرة الدماغية لدماغ أينشتين. وفي عام 1999، أي بعد أربعين سنة من وفاة أينشتين، برهن أحد العلماء على وجود تشوه غير مألوف في البنية التشريحية لدماغ هذا العالم. وكان هذا التشوه كبيراً إلى حد أن منطقة كاملة من القشرة الدماغية هي الطباق الجبهي كانت غائبة من القشرة الدماغية. وعلى الرغم من أهمية هذه الأبحاث لكنها لا تشير إلى شيء واضح بالنسبة للقدرات الدماغية. من جهة أخرى وضع العلماء برنامجاً لدراسة أدمغة علماء الرياضيات بشكل مقارن، ويقول أحدهم إن الأدوات الرياضية تتطابق ولا بد مع حالات فيزيائية في دماغنا، بحيث لا بد في النهاية من رصدها بطرق تجريبية بفضل تطوير تقنيات التصوير الدماغي. وتسمح فعلاً التقنيات بالتصوير بالرنين المغنطيسي الوصول إلى دراسة تجريبية لكيفية تمثل الدماغ لأبسط الأدوات الرياضية التي يتقاسمها البشر كلهم ألا وهي الأعداد الصحيحة.
لماذا وقع اختيار العلماء على الأعداد بالذات؟ لأن الأعداد تشكل أحد البنى الأساسية للرياضيات على مر العصور، وكانت من أولى الاكتشافات التي حققها البشر. ولأن مسألة أساس الحساب تحتل مكاناً أساسياً في فلسفة الرياضيات، منذ أفلاطون وديكارت وحتى راسل وهيلبرت وغيرهم. ويرى العلماء أن أحد أسس الحساب، وهو تصور مفهوم الرقم أو العدد، يرجع في أصله إلى الهندسة البنيوية لدماغنا. وحدس مفهوم العدد متأصل ومتجذر في تلافيف قشرتنا الدماغية إلى حد أننا عندما نجري الحسابات لا ننتبه أبداً إلى أهمية ذلك .فنحن ندرك دون بذل أي مجهود أن 3 أصغر من 5. ويبدو لنا من المنطقي جداً أن 2 + 2 = 4، ولا ندرك أن الهندسة البنيوية للدماغ هي وراء هذه النتيجة. ولم يدرك العلماء أهمية الدماغ في هذه العملية إلا منذ نحو ثمانين سنة، عندما انتبهوا إلى أن تشوهاً دماغياً في المنطقة الجبهية في سن البلوغ وما قبل يمكن أن يؤدي إلى عدم فهم كامل لمعنى أو لمفهوم العدد. ويمكن أن يصل الأمر إلى حد عدم إمكانية قراءة وفك رموز الأعداد. وفي حالات أخرى قد يحفظ بعض المصابين ألفاظ الأعداد بل وحتى جدول الضرب، لكنهم لن يفهم أبداً معنى عملية جداء عددين ولا نتيجتها. وفي إحدى الحالات لم يستطع مصاب في حادث تعرض لتشوه في الفص الجبهي الأيمن أن يعرف معنى طرح عددين. وهذا يشير إلى أن العدد في النهاية مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببنية دماغنا.
ما هي النتائج التي يصل إليها العلماء من دراساتهم هذه؟ هناك عدد كبير من هذه الحالات أصبح مسجلاً في دراسات منهجية. وهي تشير كلها إلى أن تشوهات تلافيف المنطقة الجبهية تترافق باضطرابات حادة في إمكانيات حدس الكميات. إن عسر الحساب مماثل عند الأطفال لعسر القراءة، وهو يتراوح بين 3 إلى 6 % عند الأطفال بحسب النشرات الإحصائية القليلة المتوفرة. وبعض هؤلاء الأطفال يعانون من نقص حاد في الحساب يماثل النقص الذي نجده عند البالغين الذين تعرضوا لحادث أثر على دماغهم. ومن الأبحاث الهامة التي يعتمد عليها العلماء دراسات تمت على شاب عادي الذكاء ويعاني من صعوبات كبيرة في التعامل مع الأرقام. وهذا الشاب يملك مؤهلات ممتازة، فهو دكتور في علم النفس ويتقن اللغة إتقاناً ممتازاً. ومع ذلك فهو يحتاج دائماً للعد على أصابعه لإنجاز العمليات الحسابية. وبينت التحليلات النفسية أنه ليس لدى الشاب أي تصور لمفهوم العدد، وهو غير قادر على تحديد عدد الأشياء الموجودة أمامه مثلاً حتى وإن كانت 2 أو 3، هذا إذا لم نترك له الوقت لعدها على أصابعه. وهو يحتاج دائماً إلى العد ليعرف إن كان العدد 9 أكبر من العدد 2. وبين التصوير بالرنين المغنطيسي وجود تشوه في الموضع نفسه الذي افترض العلماء أنه توجد فيه السيالات الخاصة بالفهم الكمي للأشياء، أي في المنطقة الجبهية السفلى. ويبدو أنه حتى قبل الولادة يمكن أن يحدث تشوه او ارتحال غير عادي او ناقص في أعصاب القشرة الدماغية. ويبدو أن بعض الأمراض الوراثية أو حتى بعض العوامل مثل التعرض للإدمان على الكحول خلال الحمل يؤدي إلى مثل هذه التشوهات الدماغية المبكرة. إن العلماء يؤكدون حالياً أن نقص القدرة الحسابية الكبير يرجع إلى البنية الدماغية. وكان يُعتقد أن الرياضيات هي بناء يرجع إلى أساس ثقافي وبيئي يرتكز على اختراع الرموز والقواعد الشكلية، أو أنها لغة عالمية تصف البنية الكونية. لكن يبدو أن هذه اللغة لا يصبح لها معنى إلا لأن دماغنا مزود منذ الولادة بتيارات عصبية قابلة لإدراك البنية الحدسية للمجال الذي سيصبح الرياضيات. فإن كانت الرياضيات العالية تبنى بفضل اللغة والتعليم لكن أساسها أكثر اولية ويكمن في مفاهيم بسيطة مثل الأعداد والفضاء والزمن والعمليات… وهي مفاهيم أولية لا بد أنها موجودة في الدماغ بشكل أولي. لكن وجود قاعدة عالمية بيولوجية لمعنى العدد لا يعني أن بعضهم يمكن أن يلدوا مزودين بكم أكبر أو بقدرة أعلى على التعامل بالأعداد وبالرياضيات. بل على العكس، فإن الحدس العددي هو حصيلة مورثية موجودة عند الجميع، وهي تنمو بدرجات مختلفة بحسب الفرص والاهتمام الذي ينصب عليها.
(منقول)
موسى ديب الخوري
تبين الأبحاث الحديثة أن أحد أسس الحساب وتصور الأرقام يرتكز على قاعدة بيولوجية عامة.فقد نُظّم في عام 2000 مؤتمر حول الرياضيات ألقيت فيه بعض الأبحاث الجديدة حول الأسس الدماغية للتفكير الرياضي. يثير دماغ الرياضيين العلماء منذ وقت طويل. وبشكل عام حاول العلماء أن يفهموا الدماغ والآليات التي يستطيع بها نسيج من الخلايا العصبية ونقاط الاشتباك العصبية أن تحول مجموعة من المعلومات إلى نظريات. وما هي التمثيلات العقلية والبنى العصبية التي تعطي للدماغ البشري ـ وللدماغ البشري وحده ـ إمكانية استكشاف الحقائق الرياضية. ولا يخفى الإمكانية الهائلة التي تنفتح أمام العلم وخاصة العلوم المعلوماتية لو أمكن التقدم في هذا المجال. ولا ننسى أن دماغ العالم ألبرت أينشتين كان موضوع أبحاث كثيرة أجريت عليه خلال حياته وبعد موته في محاولة لفهم آليات الإبداع العلمي لديه. وفي عام 1985، استطاع أحد العلماء في جامعة بركلي أن يبرهن على وجود كثافة عالية اكثر من المعتاد من الخلايا التي تشكل محيط الخلايا القشرية في المنطقة الجبهية من القشرة الدماغية لدماغ أينشتين. وفي عام 1999، أي بعد أربعين سنة من وفاة أينشتين، برهن أحد العلماء على وجود تشوه غير مألوف في البنية التشريحية لدماغ هذا العالم. وكان هذا التشوه كبيراً إلى حد أن منطقة كاملة من القشرة الدماغية هي الطباق الجبهي كانت غائبة من القشرة الدماغية. وعلى الرغم من أهمية هذه الأبحاث لكنها لا تشير إلى شيء واضح بالنسبة للقدرات الدماغية. من جهة أخرى وضع العلماء برنامجاً لدراسة أدمغة علماء الرياضيات بشكل مقارن، ويقول أحدهم إن الأدوات الرياضية تتطابق ولا بد مع حالات فيزيائية في دماغنا، بحيث لا بد في النهاية من رصدها بطرق تجريبية بفضل تطوير تقنيات التصوير الدماغي. وتسمح فعلاً التقنيات بالتصوير بالرنين المغنطيسي الوصول إلى دراسة تجريبية لكيفية تمثل الدماغ لأبسط الأدوات الرياضية التي يتقاسمها البشر كلهم ألا وهي الأعداد الصحيحة.
لماذا وقع اختيار العلماء على الأعداد بالذات؟ لأن الأعداد تشكل أحد البنى الأساسية للرياضيات على مر العصور، وكانت من أولى الاكتشافات التي حققها البشر. ولأن مسألة أساس الحساب تحتل مكاناً أساسياً في فلسفة الرياضيات، منذ أفلاطون وديكارت وحتى راسل وهيلبرت وغيرهم. ويرى العلماء أن أحد أسس الحساب، وهو تصور مفهوم الرقم أو العدد، يرجع في أصله إلى الهندسة البنيوية لدماغنا. وحدس مفهوم العدد متأصل ومتجذر في تلافيف قشرتنا الدماغية إلى حد أننا عندما نجري الحسابات لا ننتبه أبداً إلى أهمية ذلك .فنحن ندرك دون بذل أي مجهود أن 3 أصغر من 5. ويبدو لنا من المنطقي جداً أن 2 + 2 = 4، ولا ندرك أن الهندسة البنيوية للدماغ هي وراء هذه النتيجة. ولم يدرك العلماء أهمية الدماغ في هذه العملية إلا منذ نحو ثمانين سنة، عندما انتبهوا إلى أن تشوهاً دماغياً في المنطقة الجبهية في سن البلوغ وما قبل يمكن أن يؤدي إلى عدم فهم كامل لمعنى أو لمفهوم العدد. ويمكن أن يصل الأمر إلى حد عدم إمكانية قراءة وفك رموز الأعداد. وفي حالات أخرى قد يحفظ بعض المصابين ألفاظ الأعداد بل وحتى جدول الضرب، لكنهم لن يفهم أبداً معنى عملية جداء عددين ولا نتيجتها. وفي إحدى الحالات لم يستطع مصاب في حادث تعرض لتشوه في الفص الجبهي الأيمن أن يعرف معنى طرح عددين. وهذا يشير إلى أن العدد في النهاية مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببنية دماغنا.
ما هي النتائج التي يصل إليها العلماء من دراساتهم هذه؟ هناك عدد كبير من هذه الحالات أصبح مسجلاً في دراسات منهجية. وهي تشير كلها إلى أن تشوهات تلافيف المنطقة الجبهية تترافق باضطرابات حادة في إمكانيات حدس الكميات. إن عسر الحساب مماثل عند الأطفال لعسر القراءة، وهو يتراوح بين 3 إلى 6 % عند الأطفال بحسب النشرات الإحصائية القليلة المتوفرة. وبعض هؤلاء الأطفال يعانون من نقص حاد في الحساب يماثل النقص الذي نجده عند البالغين الذين تعرضوا لحادث أثر على دماغهم. ومن الأبحاث الهامة التي يعتمد عليها العلماء دراسات تمت على شاب عادي الذكاء ويعاني من صعوبات كبيرة في التعامل مع الأرقام. وهذا الشاب يملك مؤهلات ممتازة، فهو دكتور في علم النفس ويتقن اللغة إتقاناً ممتازاً. ومع ذلك فهو يحتاج دائماً للعد على أصابعه لإنجاز العمليات الحسابية. وبينت التحليلات النفسية أنه ليس لدى الشاب أي تصور لمفهوم العدد، وهو غير قادر على تحديد عدد الأشياء الموجودة أمامه مثلاً حتى وإن كانت 2 أو 3، هذا إذا لم نترك له الوقت لعدها على أصابعه. وهو يحتاج دائماً إلى العد ليعرف إن كان العدد 9 أكبر من العدد 2. وبين التصوير بالرنين المغنطيسي وجود تشوه في الموضع نفسه الذي افترض العلماء أنه توجد فيه السيالات الخاصة بالفهم الكمي للأشياء، أي في المنطقة الجبهية السفلى. ويبدو أنه حتى قبل الولادة يمكن أن يحدث تشوه او ارتحال غير عادي او ناقص في أعصاب القشرة الدماغية. ويبدو أن بعض الأمراض الوراثية أو حتى بعض العوامل مثل التعرض للإدمان على الكحول خلال الحمل يؤدي إلى مثل هذه التشوهات الدماغية المبكرة. إن العلماء يؤكدون حالياً أن نقص القدرة الحسابية الكبير يرجع إلى البنية الدماغية. وكان يُعتقد أن الرياضيات هي بناء يرجع إلى أساس ثقافي وبيئي يرتكز على اختراع الرموز والقواعد الشكلية، أو أنها لغة عالمية تصف البنية الكونية. لكن يبدو أن هذه اللغة لا يصبح لها معنى إلا لأن دماغنا مزود منذ الولادة بتيارات عصبية قابلة لإدراك البنية الحدسية للمجال الذي سيصبح الرياضيات. فإن كانت الرياضيات العالية تبنى بفضل اللغة والتعليم لكن أساسها أكثر اولية ويكمن في مفاهيم بسيطة مثل الأعداد والفضاء والزمن والعمليات… وهي مفاهيم أولية لا بد أنها موجودة في الدماغ بشكل أولي. لكن وجود قاعدة عالمية بيولوجية لمعنى العدد لا يعني أن بعضهم يمكن أن يلدوا مزودين بكم أكبر أو بقدرة أعلى على التعامل بالأعداد وبالرياضيات. بل على العكس، فإن الحدس العددي هو حصيلة مورثية موجودة عند الجميع، وهي تنمو بدرجات مختلفة بحسب الفرص والاهتمام الذي ينصب عليها.
(منقول)