yaseen
12-03-2007, 12:31 PM
الدين والعلم الطبيعي .
الخلاف بين الناس حول التوافق أو التعارض بين الدين والنظريات والمعارف العلمية ، وبين نصوص القرءان الكريم ، خلاف قديم من ناحية المضمون ، ولكنه من ناحية الشكل ربما يتخذ في كل عصر شكلا جديدا تبعا لتطور المعارف العلمية وتطور المفاهيم التي تتعلق بالنصوص الدينية القابلة للتأويل . وهذا الاختلاف في أساسه انحسر في الأصل بين فريقين ؛ فريق انتصر للدين وحده ، وفريق انتصر للعلم وحده . إلا أن فريقا ثالثا اختار طريقا وسطا بين الدين والعلم ، واخذ هذا الفريق يسعى للتوفيق بين الدين والعلم بتفسيرات وتأويلات لا يرضى بها الكثير من المتدينين ، ولا يستسيغها معظم من يرون في العلوم الطبيعية سبيلا للوصول إلى الحقائق المتعلقة بالمادة وسلوكياتها . ويمكن القول: إن الخلاف بين الدين والعلم خلاف غير موجود أصلا إنما هو من ابتداع الفريقين الأولين ، وزاده احتداما الفريق الثالث الذي قام بالوساطة ، حيث إنه بوساطته هذه يؤكد أن التعارض بين الدين والعلم أمر حقيقي وما علينا إلا أن نجد حلولا وسطا تخفف من هذا التعارض .
إن الإنسان الواعي المثقف يمكنه أن ينفي التعارض المزعوم بين الدين والعلم من منطلق إيمانه المطلق بالله تعالى وقدرته ، وإيمانه بأن العلم في أساسه منحة من الله يهبها للمجتهد في تحصيلها بمقدار ٍ وكيفيةٍ يشاؤها الله لأهل كل عصر ، وإيمانه أيضا بأن للعلم منهجا إنسانيا ، ومجالا يظل ضيقا جدا إذا قورن بمجال الدين الواسع الذي لا حد له ، وأن منهج الدين ومنهج العلم لا يتعارضان أبدا بل إنهما متكاملان .
ونجد في القرءان الكريم بعض الإشارات والملاحظات العلمية دون تفصيل ، وكأن الله تعالى يحثنا على الملاحظة والتجربة والتفكير العلمي من أجل أن نحاول فهم التفاصيل هادفين من وراء ذلك إلى استجلاء بعض من قدرة الله وعظمته ، فنزداد إيمانا ينعكس على علاقاتنا الإنسانية عموما ، وإلى تحصيل ما يفيدنا في معاشنا الدنيوي . إن القرءان الكريم كتاب هداية ليس بعده كتاب ، وقد انزله الله إلى البشر كافة ، وليس إلى الذين يتخصصون في الفيزياء أو غيرها من العلوم فحسب .
إن المطلع على آيات القرءان الكريم ، التي يصفها الذين يوفقون بين الدين والعلم بأنها آيات في الإعجاز العلمي ، سوف يتبين له أن غالبية المعارف العلمية الواردة فيها إنما ترد في نطاق الخبرة اليومية للإنسان العادي ، وأنها تهدف إلى تقديم الأدلة على وجود الخالق وقدرته التي لاحد لها على الخلق والإبداع . ومن الأمثلة على هذه الآيات : " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ." آل عمران ، الآية 190 . " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " فاطر. الآية 11 ، " الذي خلق سبع سموات طباقا . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير." الملك . الآية 3 ، " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير." النور . الآية 45 . الآيات السابقة ومثيلاتها من الآيات نقرؤها بتدبر وإمعان نظر فترانا وقد فطنا إلى الآية الكريمة : " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار." ، ونثبت على إيماننا ، الذي لا يساوره شك ، بعظمة الله وخبرته وحكمته ومقدرته .، ولا نروح نحمّل الآيات ما تحتمل وما لا تحتمل من تأويلات علمية متعمدة ، والتي ربما تختلف وتتغير مع تغير المعارف العلمية في كل عصر . وقد حدث مع من سبقونا بمئات السنين أنهم وقعوا في تأويلات لآيات قرءانية فهموا من ظاهر معناها ما يخالف الحقائق العلمية . ولقد كان سبب خطأ أولئك هو خبرتهم المبنية على مشاهداتهم الغير مستندة إلى التفكير العلمي الذي يفتقد المنهج السليم . لقد ظنوا ان الأرض ثابتة لا تتحرك ، وانها بسيطة وليست كالكرة ، قياسا على ما لاحظوه من حركة الأجسام الصغيرة أو سكونها وفقا لخبرتهم اليومية ، فراحوا يفسرون الآية : " وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ." الرعد.الآية 3 ، بما يروح بها بعيدا عن حقيقتها . ونجد في تفسير الإمام القرطبي ما يلي :
( في هذه الآية ردٌّ على من زعم أن الأرض كالكرة، وردٌّ على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها.). انتهى ما ورد في القرطبي . كما أن بعض القدماء ظنوا أن الآية التي تتحدث عن حركة الجبال ، وهي : " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي اتقن كل شيء .." الآية 88 من سورة النمل ، ظنوها تتحدث عن يوم القيامة لاعتقادهم بسكون الأرض . إن هذا التفسير الذي عُدّ في نظر المتدينين السابقين، من المسلمين وأهل الكتاب ، انتصارا للدين على من قال بكرّية الأرض أو حركتها أضحى ، في عصرنا بل قبل عصرنا ، باطلا كل البطلان . كما ان تفسير ابن الراوندي ، وهو ممن اتهموا بالزندقة والإلحاد ، لا يعدو أن يكون نظرية واهية لا تقوم على أساس علمي . ولو أراح أولئك السابقون أنفسهم ، ولم يتكلفوا ما لم يكن في قدرتهم ، واكتفوا بفهم قدرة الله فيما أبدع عموما ، أو كانوا على صلة بعلماء الطبيعة من المسلمين في عصرهم ، لكانوا على صواب ، ولم يكن ذلك ليمنعهم من فهم بعض أسرار الكون اجتهادا من عند انفسهم دون ان يلزموا القرءان الكريم بما هو غير ملزم به . وفي أيامنا هذه نجد من يقول : إن " الجوار الكنّس " ما هي إلا ما يدعوه علماء الفلك بالثقوب السوداء التي تجذب كل ما يقترب منها وتحتويه فلا يعود يظهر أبدا. وليس من المستبعد أن يأتي يوم يغيرون فيه أقوالهم ويعدلون عنها إلى غيرها كلما تقدم العلم الطبيعي أكثر وأكثر ، ونفى أو أكد أقوالا له قالها سابقا .
إن ما يقوم به أصحاب الحلول التوفيقية من ذوي النيات الحسنة ، والذين لهم اطلاع على العلوم الطبيعية ، ربما يضرون بالدين دون أن يقصدوا إلى ذلك أو يشعروا به . ويمكن أن يعتقدوا أن في ذلك خدمة للدين والعلم معا ؛ حيث يجد الدين سندا من العلم ، ويجد العلم سندا من الدين ، وهم ينسون أن الآلاف المؤلفة بل الملايين من المؤمنين السابقين من أقدم العصور لم يكونوا في غالبيتهم الغالبة من علماء الطبيعة بل ربما أن معظمهم كان من بسطاء الناس ، وما هداهم ربهم هدى التوفيق إلا لعلمه بحسن نواياهم وطهارة قلوبهم . وبالمقابل ، فإننا نرى بعض الملحدين من بين علماء الطبيعة في كل عصر وهم ينجزون الكثير من الإنجازات العلمية ، وذلك بهدى الدلالة التي لم يحرم الله منه أحدا بذل فيه جهدا، إلا ان هؤلاء العلماء الذين يمكن أن يستخدموا العلم في تدمير الإنسان ، لن يكونوا من العلماء الحقيقيين مثل الذين يخشون الله سبحانه حق خشيته ، ويؤمنون بأن الله هو الخالق المهيمن المسيطر ، وهو علام الغيوب ، وهو كذلك مالك يوم الدين : يجازي المحسن بالخير ، ويعاقب المسيء بالويل ، وفقا لما يشاء سبحانه ، وأن المؤمنين ما كانوا مؤمنين حقا إلا لمّا آمنوا وعملوا الصالحات .
ومن الأضرار التي يتسبب بحدوثها أنصار الدين في مواجهة العلم الطبيعي ممن يصرون على التفسير الحرفي الظاهري لبعض الآيات أنهم يوهمون الناس المتدينين الآخرين ذوي الدراية العلمية المعقولة بأن العلم مخطيء حتى في الحقائق العلمية مما يثير في نفوس هؤلاء مشاعر تتراوح بين الأسف والسخرية تجاه أولئك النفر من علماء الدين الذين يتبنّون تلك المواجهة ، وأنهم ذوو أفق ضيق وجهل وتزمت ، وربما يندفع بعضهم إلى إهمال الدين واعتباره قد تم تشويهه ، وانه قد ضاعت حقيقته . إن التوفيق بين الدين والعلم الطبيعي ليس مطلوبا أصلا ، فكيف إذا كان بطريقة خاطئة!.
والعلم يقوم ، في أساسه ، على أن العالم الذي نعيش فيه عالم منظم فائق التنظيم ، وهذا ما يؤمن به المتدينون عموما . لكن العلم يسعى جاهدا لفهم هذا النظام فهما دقيقا ، ويضع لذلك النظريات والفرضيات ، ويبتدع سبلا للتجريب والملاحظة والاختبار ليطلع بنتائج مقنعة تفسر له تصرف المادة وما يتعلق بها من ظواهر ، وهو يخطيء أحيانا ويصيب أحيانا أخرى ، ويغير ويبدل في الصواب النسبي وفقا لما يقتضيه البحث على مر التطور فيه . ولو ان الإنسان ظن انه يعيش في عالم تسوده الفوضى وتحكمه العبثية لما كان هناك من علم أصلا . ومنذ أن ظهر الإنسان على الأرض لاحظ حدوث أمور كثيرة ؛ لاحظ الجهة التي تطلع منها الشمس وأنها تلتزم في طلوعها تلك الجهة كل يوم فقرر أن تلك حقيقة عامة ثابتة . لاحظ أن النار تحرق ، وأن الأرض يرويها الماء فتنبت ؛ لاحظ أمورا كثيرة كهذه فأخذ يشق طريقه في الحياة وهو يكتشف الكثير من العلاقات بينه وبين ما حوله هادفا إلى منفعة نفسه وإلى التعامل الأمثل مع ما يشاركه في الأرض من كائنات : وبهذه الطريقة كانت بداية العلم لدى الإنسان . ويظل ميدان العلم ينمو ويتسع ، وتحقق العلوم المختلفة نجاحا هائلا في مختلف الميادين ، خاصة في زماننا هذا الحاضر ، مما كان له الأثر الملحوظ في النهضة التكنولوجية الحديثة التي من أخذ باسبابها امتلك ناصية القوة والنفوذ . وبهذا أصبح للعلم الطبيعي الإجلال والاحترام مما أوحى لبعض الناس بتقديسه ، متناسين قصوره عن إدراك الغيب المطلق الذي اختص الله به ذاته العلية .
والمنهج الذي ينتهجه العلم الطبيعي في مسيرته لا يصلح للنظر في أمور الدين وثوابته ؛ لأن الدين يقوم على الإيمان بالغيب والاعتقاد بثوابت الإيمان وأركانه ، بينما العلم يقوم على الفرض والشك والملاحظة والتجريب .
فهو مثلا لا يؤمن بوجود الجن والملائكة علميا . والدين يقوم ابتداء على نصوص قطعية الدلالة والثبوت مقدسة عند المؤمنين ، لا يجوز عليها التبديل او التعديل ، وهي عندهم من المسلمات ، ولا يشك المؤمنون في صحتها أبدا ، ومن شك فيها فلن يكون مؤمنا حقيقيا . أما العلم فلديه مسلمات يسلم بصحتها مؤقتا وفقا لما تقتضيه الضرورة العلمية . وإن تمكن العلم من دحض ما سلم به فإنه لا يتوانى عن ذلك أبدا . إلا أنه والحق يقال إن العلم الذي لا يؤمن بالغيب فإنه لا يدعي إنكاره أيضا في الوقت الذي لايصدق بثبوته . وهناك أمر بين الدين والعلم يمكن ملاحظته ، وهو أن العلم في العصور الحديثة يقترب في فلسفته من الدين أحيانا . وما النظريات العلمية التي أدت إلى ظهور مفاهيم علمية مثل القول بعدم فناء المادة ، وأن المادة يمكن ان توجد بأشكال أخرى مثل الطاقة ، لدليل ذو أهمية ، وفقا لظني ، على اقتراب العلم الطبيعي من الدين الذي من ثوابته أن الله يبعث الموتى من قبورهم أينما كانوا . وما دام العلم لا يمكنه نفي أو إثبات الأمور الغيبية المطلقة فيمكننا ، نحن المؤمنين ، أن نخاطبه بما نسب إلى المعري من أبيات :
قال المنجم والطبيب كلاهما = لا بعث بعد الموت قلت : إليكما
إن صحّ ظنكما فلست بنادم = أو صح ظني فالخسار عليكما
وما أظن ان المعري كان شاكا في الدين طيلة حياته أو ضعيف الإيمان ، إنما خاطب الطبيب والمنجم اللذين كانا مثلا على المنكرين المرتابين بالغيب ، في بعض الأزمنة .
الخلاصة : الدين ليس بحاجة للوساطة بينه وبين العلم ؛ فلكل منهجه . للدين منهج شامل كامل لمنفعة الإنسان في دنياه وآخرته . أما المنهج العلمي فهو محدود بما وضع الإنسان له من قوانين ونظريات . ويمكن للعلم أن يستخدم في غير طريق الخير ، ومع هذا فمن الممكن أن يقترب العلم من الدين في فلسفته .
الخلاف بين الناس حول التوافق أو التعارض بين الدين والنظريات والمعارف العلمية ، وبين نصوص القرءان الكريم ، خلاف قديم من ناحية المضمون ، ولكنه من ناحية الشكل ربما يتخذ في كل عصر شكلا جديدا تبعا لتطور المعارف العلمية وتطور المفاهيم التي تتعلق بالنصوص الدينية القابلة للتأويل . وهذا الاختلاف في أساسه انحسر في الأصل بين فريقين ؛ فريق انتصر للدين وحده ، وفريق انتصر للعلم وحده . إلا أن فريقا ثالثا اختار طريقا وسطا بين الدين والعلم ، واخذ هذا الفريق يسعى للتوفيق بين الدين والعلم بتفسيرات وتأويلات لا يرضى بها الكثير من المتدينين ، ولا يستسيغها معظم من يرون في العلوم الطبيعية سبيلا للوصول إلى الحقائق المتعلقة بالمادة وسلوكياتها . ويمكن القول: إن الخلاف بين الدين والعلم خلاف غير موجود أصلا إنما هو من ابتداع الفريقين الأولين ، وزاده احتداما الفريق الثالث الذي قام بالوساطة ، حيث إنه بوساطته هذه يؤكد أن التعارض بين الدين والعلم أمر حقيقي وما علينا إلا أن نجد حلولا وسطا تخفف من هذا التعارض .
إن الإنسان الواعي المثقف يمكنه أن ينفي التعارض المزعوم بين الدين والعلم من منطلق إيمانه المطلق بالله تعالى وقدرته ، وإيمانه بأن العلم في أساسه منحة من الله يهبها للمجتهد في تحصيلها بمقدار ٍ وكيفيةٍ يشاؤها الله لأهل كل عصر ، وإيمانه أيضا بأن للعلم منهجا إنسانيا ، ومجالا يظل ضيقا جدا إذا قورن بمجال الدين الواسع الذي لا حد له ، وأن منهج الدين ومنهج العلم لا يتعارضان أبدا بل إنهما متكاملان .
ونجد في القرءان الكريم بعض الإشارات والملاحظات العلمية دون تفصيل ، وكأن الله تعالى يحثنا على الملاحظة والتجربة والتفكير العلمي من أجل أن نحاول فهم التفاصيل هادفين من وراء ذلك إلى استجلاء بعض من قدرة الله وعظمته ، فنزداد إيمانا ينعكس على علاقاتنا الإنسانية عموما ، وإلى تحصيل ما يفيدنا في معاشنا الدنيوي . إن القرءان الكريم كتاب هداية ليس بعده كتاب ، وقد انزله الله إلى البشر كافة ، وليس إلى الذين يتخصصون في الفيزياء أو غيرها من العلوم فحسب .
إن المطلع على آيات القرءان الكريم ، التي يصفها الذين يوفقون بين الدين والعلم بأنها آيات في الإعجاز العلمي ، سوف يتبين له أن غالبية المعارف العلمية الواردة فيها إنما ترد في نطاق الخبرة اليومية للإنسان العادي ، وأنها تهدف إلى تقديم الأدلة على وجود الخالق وقدرته التي لاحد لها على الخلق والإبداع . ومن الأمثلة على هذه الآيات : " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ." آل عمران ، الآية 190 . " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " فاطر. الآية 11 ، " الذي خلق سبع سموات طباقا . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير." الملك . الآية 3 ، " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير." النور . الآية 45 . الآيات السابقة ومثيلاتها من الآيات نقرؤها بتدبر وإمعان نظر فترانا وقد فطنا إلى الآية الكريمة : " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار." ، ونثبت على إيماننا ، الذي لا يساوره شك ، بعظمة الله وخبرته وحكمته ومقدرته .، ولا نروح نحمّل الآيات ما تحتمل وما لا تحتمل من تأويلات علمية متعمدة ، والتي ربما تختلف وتتغير مع تغير المعارف العلمية في كل عصر . وقد حدث مع من سبقونا بمئات السنين أنهم وقعوا في تأويلات لآيات قرءانية فهموا من ظاهر معناها ما يخالف الحقائق العلمية . ولقد كان سبب خطأ أولئك هو خبرتهم المبنية على مشاهداتهم الغير مستندة إلى التفكير العلمي الذي يفتقد المنهج السليم . لقد ظنوا ان الأرض ثابتة لا تتحرك ، وانها بسيطة وليست كالكرة ، قياسا على ما لاحظوه من حركة الأجسام الصغيرة أو سكونها وفقا لخبرتهم اليومية ، فراحوا يفسرون الآية : " وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ." الرعد.الآية 3 ، بما يروح بها بعيدا عن حقيقتها . ونجد في تفسير الإمام القرطبي ما يلي :
( في هذه الآية ردٌّ على من زعم أن الأرض كالكرة، وردٌّ على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها.). انتهى ما ورد في القرطبي . كما أن بعض القدماء ظنوا أن الآية التي تتحدث عن حركة الجبال ، وهي : " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي اتقن كل شيء .." الآية 88 من سورة النمل ، ظنوها تتحدث عن يوم القيامة لاعتقادهم بسكون الأرض . إن هذا التفسير الذي عُدّ في نظر المتدينين السابقين، من المسلمين وأهل الكتاب ، انتصارا للدين على من قال بكرّية الأرض أو حركتها أضحى ، في عصرنا بل قبل عصرنا ، باطلا كل البطلان . كما ان تفسير ابن الراوندي ، وهو ممن اتهموا بالزندقة والإلحاد ، لا يعدو أن يكون نظرية واهية لا تقوم على أساس علمي . ولو أراح أولئك السابقون أنفسهم ، ولم يتكلفوا ما لم يكن في قدرتهم ، واكتفوا بفهم قدرة الله فيما أبدع عموما ، أو كانوا على صلة بعلماء الطبيعة من المسلمين في عصرهم ، لكانوا على صواب ، ولم يكن ذلك ليمنعهم من فهم بعض أسرار الكون اجتهادا من عند انفسهم دون ان يلزموا القرءان الكريم بما هو غير ملزم به . وفي أيامنا هذه نجد من يقول : إن " الجوار الكنّس " ما هي إلا ما يدعوه علماء الفلك بالثقوب السوداء التي تجذب كل ما يقترب منها وتحتويه فلا يعود يظهر أبدا. وليس من المستبعد أن يأتي يوم يغيرون فيه أقوالهم ويعدلون عنها إلى غيرها كلما تقدم العلم الطبيعي أكثر وأكثر ، ونفى أو أكد أقوالا له قالها سابقا .
إن ما يقوم به أصحاب الحلول التوفيقية من ذوي النيات الحسنة ، والذين لهم اطلاع على العلوم الطبيعية ، ربما يضرون بالدين دون أن يقصدوا إلى ذلك أو يشعروا به . ويمكن أن يعتقدوا أن في ذلك خدمة للدين والعلم معا ؛ حيث يجد الدين سندا من العلم ، ويجد العلم سندا من الدين ، وهم ينسون أن الآلاف المؤلفة بل الملايين من المؤمنين السابقين من أقدم العصور لم يكونوا في غالبيتهم الغالبة من علماء الطبيعة بل ربما أن معظمهم كان من بسطاء الناس ، وما هداهم ربهم هدى التوفيق إلا لعلمه بحسن نواياهم وطهارة قلوبهم . وبالمقابل ، فإننا نرى بعض الملحدين من بين علماء الطبيعة في كل عصر وهم ينجزون الكثير من الإنجازات العلمية ، وذلك بهدى الدلالة التي لم يحرم الله منه أحدا بذل فيه جهدا، إلا ان هؤلاء العلماء الذين يمكن أن يستخدموا العلم في تدمير الإنسان ، لن يكونوا من العلماء الحقيقيين مثل الذين يخشون الله سبحانه حق خشيته ، ويؤمنون بأن الله هو الخالق المهيمن المسيطر ، وهو علام الغيوب ، وهو كذلك مالك يوم الدين : يجازي المحسن بالخير ، ويعاقب المسيء بالويل ، وفقا لما يشاء سبحانه ، وأن المؤمنين ما كانوا مؤمنين حقا إلا لمّا آمنوا وعملوا الصالحات .
ومن الأضرار التي يتسبب بحدوثها أنصار الدين في مواجهة العلم الطبيعي ممن يصرون على التفسير الحرفي الظاهري لبعض الآيات أنهم يوهمون الناس المتدينين الآخرين ذوي الدراية العلمية المعقولة بأن العلم مخطيء حتى في الحقائق العلمية مما يثير في نفوس هؤلاء مشاعر تتراوح بين الأسف والسخرية تجاه أولئك النفر من علماء الدين الذين يتبنّون تلك المواجهة ، وأنهم ذوو أفق ضيق وجهل وتزمت ، وربما يندفع بعضهم إلى إهمال الدين واعتباره قد تم تشويهه ، وانه قد ضاعت حقيقته . إن التوفيق بين الدين والعلم الطبيعي ليس مطلوبا أصلا ، فكيف إذا كان بطريقة خاطئة!.
والعلم يقوم ، في أساسه ، على أن العالم الذي نعيش فيه عالم منظم فائق التنظيم ، وهذا ما يؤمن به المتدينون عموما . لكن العلم يسعى جاهدا لفهم هذا النظام فهما دقيقا ، ويضع لذلك النظريات والفرضيات ، ويبتدع سبلا للتجريب والملاحظة والاختبار ليطلع بنتائج مقنعة تفسر له تصرف المادة وما يتعلق بها من ظواهر ، وهو يخطيء أحيانا ويصيب أحيانا أخرى ، ويغير ويبدل في الصواب النسبي وفقا لما يقتضيه البحث على مر التطور فيه . ولو ان الإنسان ظن انه يعيش في عالم تسوده الفوضى وتحكمه العبثية لما كان هناك من علم أصلا . ومنذ أن ظهر الإنسان على الأرض لاحظ حدوث أمور كثيرة ؛ لاحظ الجهة التي تطلع منها الشمس وأنها تلتزم في طلوعها تلك الجهة كل يوم فقرر أن تلك حقيقة عامة ثابتة . لاحظ أن النار تحرق ، وأن الأرض يرويها الماء فتنبت ؛ لاحظ أمورا كثيرة كهذه فأخذ يشق طريقه في الحياة وهو يكتشف الكثير من العلاقات بينه وبين ما حوله هادفا إلى منفعة نفسه وإلى التعامل الأمثل مع ما يشاركه في الأرض من كائنات : وبهذه الطريقة كانت بداية العلم لدى الإنسان . ويظل ميدان العلم ينمو ويتسع ، وتحقق العلوم المختلفة نجاحا هائلا في مختلف الميادين ، خاصة في زماننا هذا الحاضر ، مما كان له الأثر الملحوظ في النهضة التكنولوجية الحديثة التي من أخذ باسبابها امتلك ناصية القوة والنفوذ . وبهذا أصبح للعلم الطبيعي الإجلال والاحترام مما أوحى لبعض الناس بتقديسه ، متناسين قصوره عن إدراك الغيب المطلق الذي اختص الله به ذاته العلية .
والمنهج الذي ينتهجه العلم الطبيعي في مسيرته لا يصلح للنظر في أمور الدين وثوابته ؛ لأن الدين يقوم على الإيمان بالغيب والاعتقاد بثوابت الإيمان وأركانه ، بينما العلم يقوم على الفرض والشك والملاحظة والتجريب .
فهو مثلا لا يؤمن بوجود الجن والملائكة علميا . والدين يقوم ابتداء على نصوص قطعية الدلالة والثبوت مقدسة عند المؤمنين ، لا يجوز عليها التبديل او التعديل ، وهي عندهم من المسلمات ، ولا يشك المؤمنون في صحتها أبدا ، ومن شك فيها فلن يكون مؤمنا حقيقيا . أما العلم فلديه مسلمات يسلم بصحتها مؤقتا وفقا لما تقتضيه الضرورة العلمية . وإن تمكن العلم من دحض ما سلم به فإنه لا يتوانى عن ذلك أبدا . إلا أنه والحق يقال إن العلم الذي لا يؤمن بالغيب فإنه لا يدعي إنكاره أيضا في الوقت الذي لايصدق بثبوته . وهناك أمر بين الدين والعلم يمكن ملاحظته ، وهو أن العلم في العصور الحديثة يقترب في فلسفته من الدين أحيانا . وما النظريات العلمية التي أدت إلى ظهور مفاهيم علمية مثل القول بعدم فناء المادة ، وأن المادة يمكن ان توجد بأشكال أخرى مثل الطاقة ، لدليل ذو أهمية ، وفقا لظني ، على اقتراب العلم الطبيعي من الدين الذي من ثوابته أن الله يبعث الموتى من قبورهم أينما كانوا . وما دام العلم لا يمكنه نفي أو إثبات الأمور الغيبية المطلقة فيمكننا ، نحن المؤمنين ، أن نخاطبه بما نسب إلى المعري من أبيات :
قال المنجم والطبيب كلاهما = لا بعث بعد الموت قلت : إليكما
إن صحّ ظنكما فلست بنادم = أو صح ظني فالخسار عليكما
وما أظن ان المعري كان شاكا في الدين طيلة حياته أو ضعيف الإيمان ، إنما خاطب الطبيب والمنجم اللذين كانا مثلا على المنكرين المرتابين بالغيب ، في بعض الأزمنة .
الخلاصة : الدين ليس بحاجة للوساطة بينه وبين العلم ؛ فلكل منهجه . للدين منهج شامل كامل لمنفعة الإنسان في دنياه وآخرته . أما المنهج العلمي فهو محدود بما وضع الإنسان له من قوانين ونظريات . ويمكن للعلم أن يستخدم في غير طريق الخير ، ومع هذا فمن الممكن أن يقترب العلم من الدين في فلسفته .