ندوشش
07-13-2011, 03:03 PM
الهندسة الوراثية للنبات
عبر تاريخه ظل الإنسان يبذل كل جهده ويسخر كل إمكاناته لتوفير كميات مضمونة من الطعام تكفيه وتكفي الآخرين معه، وابتكر لذلك شتى أساليب فلاحة الأرض وريها واستصلاحها لتوسيع الرقعة الزراعية. ولجأ إلى استخدام المخصبات العضوية والكيماوية لزيادة الإنتاجية، واستفاد من تجاربه المتوارثة ومن العلم الحديث لتحسين البذور وحمايتها من الآفات الزراعية وتخزينها لأطول مدة ممكنة. كان الإنسان يخشى أن يواجه مشكلة غذاء نتيجة الجفاف والتصحر والكوارث الطبيعية ثم (في العصر الحديث) نتيجة زيادة عدد السكان ونقص الرقعة الزراعية. وما أن بدأ يطمئن لمستقبل غذائه بفضل التقدم التقني وتنامي روح التكافل والتضامن الإنساني -كما هو ملحوظ حاليا في التكاتف من أجل إنقاذ ضحايا المجاعات والكوارث- إذا به يجد نفسه مواجها بخطر جديد لم يكن يتوقعه. فكما يقول المثل (يؤتى الحذر من مكمنه)، وقد يحفر قبره بيده. نفس التقدم العلمي الذي انعقد عليه الأمل واعتبر الملاذ الأخير لضمان توفر الغذاء انقلب ليصبح في رأي البعض عدوا يهدد بمشكلة غذائية لا أحد يدرك إلى أين تنتهي، إنها التقنية أو الهندسة الجينية التي أصبحت تثير الخوف والأمل في مختلف مجالات الحياة. استخدام الهندسة الوراثية في الحقل الزراعي كان قبل استخدامها مع الحيوان (النعجة دولي) بسنوات عديدة، وكان الناس في بعد عنها عندما كانت في المختبرات، وما أن أصبحت واقعا تجاريا حتى كان اعتراض البعض. ومحاور الاعتراض للتجربة العملية في الحقل كشفت جوانب جديدة لم يكن يتوقعها أحد. فقد ظهرت أمراض لم تكن في الحسبان، وأصبح خطر الاحتكار وتحكم الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الناس ماثلا للعيان، وصار كثير منا وهو يشتري متطلباته من مراكز التسويق أو أسواق الخضار والحبوب يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشتريا حتفه بنفسه فهو لا يدري المعالجات الجينية التي أخضع لها ذلك الطعام، ولا كمية المخصبات والمبيدات الحشرية التي استخدمت في إنتاجه. هذا الهاجس والخوف الكامنان تحولا إلى ممارسة عملية في أماكن أخرى من العالم، ورفع عدد متزايد من الناس صوته محذرا أو معترضا على تعديل جينات المحاصيل والخضراوات وغيرها من النباتات، وإن كان هناك متفائلون يرون أن هذه الأساليب الحديثة ستنقذ البشرية من خطر نقص الغذاء وبالتالي يرمون بثقلهم وراء دعمها وتأييدها. الذين يعترضون على تدخل الهندسة الجينية في غذاء الناس اليومي ينظرون للمشكلة من جوانبها الصحية والبيئية وخيارات المستهلكين وتركيز احتكار إنتاج وتوفير الغذاء في أيدي جهات محدودة تنظر للعائد التجاري قبل المصلحة العامة للبشرية وهم يقولون: إن العلماء لا يمكنهم التنبؤ بالمخاطر الكامنة في الهندسة الجينية كما كشف مرض جنون البقر الذي جاء من إدخال نوع جديد من التغذية. وقد ظهرت أنواع من الحساسية وحالات التسمم لم تكن معروفة من قبل، كما أن التحكم في الغذاء وإنتاجه سيصبح في أيدي شركات الزراعة الكيميائية. وسيؤدي ذلك إلى انقراض إن لم يكن إهمال التنوع النباتي، وسيصبح المستهلك مسيرا ليس أمامه أي خيار آخر غير الذي تحدده تلك الشركات وهم لا يعرفون ما تسوقهم إليه. إضافة إلى أن هذه التقنية تطرح أسئلة أخلاقية كبيرة عن حق التدخل في تغيير تركيب وتكوين النباتات والمحاصيل بصفة خاصة والمخلوقات بصفة عامة، أما المؤيدون لهندسة الجينات في حقل الغذاء فيدافعون بأن التقنية الجديدة تجعل الغذاء صالحا للاستخدام لفترات أطول، وتعطيه مذاقا أفضل كما تزيد من محتواه الغذائي، وتخفض معدلات الشحوم والدسم، إضافة إلى رفع معدلات الإنتاج وخفض التكلفة وتقليل استخدام المبيدات الحشرية والمبيدات النباتية. معارضة شرسة بالرغم من ذلك فإن المعارضين لتقنية الهندسة الجينية في حقل الغذاء يعلنون أنهم على استعداد للوقوف أمام المحاكم للدفاع عن مواقفهم. في بريطانيا حاليا أكثر من ٣٢٥ حقل تجارب للمحاصيل المنتجة جينيا تمتلك معظمها شركة مونسانتو الأمريكية Monsanto الرائدة في هذا المجال، إلى جانب شركات ومختبرات بريطانية. وقد قامت مجموعات مناهضة تقنية الجينات في الحقول الزراعية بتدمير ٢٥ منها، وبعض الشركات لا تكشف عن مهاجمة حقولها خوفا من الكشف عن مواقعها أمام مزيد من المهاجمين. يقول المراقبون إن التحالف الحالي بين منظمات حماية البيئة وحركات السلام والتنظيمات الناشئة للدفاع عن الغذاء ليس سوى قمة رأس جبل الجليد ضد الشركات التي تروج لتقنية أغذية الهندسة الوراثية GM Food Technologies. فهناك أعداد متزايدة في بريطانيا تعبر عن رفضها أو خوفها من المستقبل الغذائي ولم تقتنع بحجج الشركات القائلة: إن الأغذية المستولدة جينيا سليمة وصحية وستفيد الدول النامية. منظمة السلام الأخضر وأصدقاء الأرض والحزب الأخضر واتحاد الأرض جميعها تريد حظر إدخال بذور المحاصيل المعالجة وراثيا إلى بريطانيا، بل إن المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية مثل أوكسفام وكريستيان ايد تعبر عن تحفظات عميقة تجاه الادعاء القائل بأن التقنية الجديدة ستعالج مشكلة الجوع. على الجانب الآخر- التسوق والاستهلاك- تتخوف محلات بيع الخضار من التورط في تسويق المحاصيل والخضراوات المعالجة جينيا ويعبر المستهلكون وربات البيوت في استبانات الرأي عن مخاوفهم. الحكومة البريطانية كونت لجنة من أربع وزارات لاستباق ما يمكن أن يتحول إلى أزمة داخلية بعد أن احتج البريطانيون بأن الرأي العام ومؤسساته لم يستشر في إدخال هذه التقنية إلى بريطانيا التي فرضتها اتفاقيات دولية وقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد سببت عمليات الهجوم المنظمة على تلك الحقول خسائر للشركات المعنية بلغت ملايين الجنيهات ونجحت في تأجيل برنامج إنتاج تلك المحاصيل على مستوى تجاري، ولم تعد معارضة إنتاج المحاصيل والخضراوات والفواكه عبر تقنية الجينات محصورة في بريطانيا فقط، فقد أصبح عدد من أعضاء اتحاد المزارعين الفرنسي أبطالا شعبيين بعد أن أصدرت المحاكم في حقهم أحكاما بالسجن لقيامهم بتدمير محاصيل منتجة جينيا. وفي أيرلندا اعتقل سبعة أشخاص للسبب نفسه، ورفعت القضية أمام المحكمة العليا. في ألمانيا ألبت حركة منظمة السلام الأخضر ٢٥٠ ألف مستهلك، وهناك رفض معلن في هولندا والدانمارك، وأجرت سويسرا مؤخرا استفتاء شعبيا حول مستقبل التقنية البيولوجية. لم يكتف الأوروبيون بمعارضة تقنية الجينات الزراعية في بلادهم وإنما أرسلوا وفدا إلى ولاية ميسوري مقر شركة مونسانتو في الولايات المتحدة وهي الشركة الرائدة في هذا المجال، حيث يعقد هناك اجتماع عالمي ضد التدخل في تعديل جينات المحاصيل والمنتجات الزراعية بشكل عام. ماذا لو احتكرت شركة إنتاج الأرز؟ في الدول النامية تقود الهند حملة المعارضة، وكان أكثر من ٧٥٠ مزارعا قد تظاهروا في السنوات الماضية ضد منظمة التجارة العالمية وضد الشركات الأمريكية التي تتجه لاحتكار حق ملكية البذور المحسنة Patenting Seeds وألغى بنك جرامين -الذي أنشئ في بنجلاديش لتقديم القروض الميسرة لفقراء المزارعين- اتفاقا كان قد وقعه مع مونسانتو لإقامة مشروع مشترك بعد أن أدرك خطورة التقنية. في المؤتمر السنوي لمجلس الحبوب العالمي الذي عقد في لندن مؤخرا تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لهجوم شديد من الهند لقيامها بتسجيل ملكية إنتاج نوع معين من الأرز البسمتي تمت معالجته جينيا، ويعطي إنتاجية عالية، واحتكار زراعته. وقال وزير الغذاء الهندي أمام ممثلي العالم إن إعطاء احتكار إنتاج الأرز المعالج جينيا لشركة، يجعلها تتحكم في إنتاجه وتسويقه، وهذا مثال للقرصنة الاقتصادية، وينبئ عن انتكاسة كبيرة للجهود الهادفة إلى خلق ظروف مواتية لتجارة عالمية نزيهة وعادلة. وكيل وزارة الزراعة الأمريكية جيس شوماشير Schumacher أكد في ذلك المؤتمر أن المزارعين الأمريكيين يخسرون مئتي مليون دولار من صادرات الذرة المعالجة جينيا بسبب ما تواجهه من معارضة في الأسواق الأوروبية. دعم حكومي غير محدود غير أن شركة مونسانتو تتمتع بدعم غير محدود من الحكومة الأمريكية والشركات الكبرى التي تستثمر في المجال الزراعي، باعتبار أن هذه التقنية ستمكن الشركات الأمريكية من احتكار إنتاج الغذاء على مستوى العالم. فهي تمضي متسلحة بهذا الدعم غير مكترثة بالاحتجاج والرفض الذي تواجهه في كل مكان. حاليا لدى مونسانتو أكثر من مائة مليون أيكر (الأيكر نحو أربعة آلاف متر مربع) مزروعة بمحاصيل ومنتجات زراعية معالجة جينيا في قارات العالم الأربع. وتستخدم الولايات المتحدة نفوذها في منظمة التجارة العالمية لاستصدار قرار بالموافقة على تسويق المنتجات البايوتكنولوجية، وذلك بإلغاء تصنيف المنتجات الزراعية إضافة إلى إلغاء الدعم الذي تقدمه الحكومات للمزارعين وخفض التعريفات الجمركية أو إلغائها وإلغاء نظام الكوتات. توظف مونسانتو حملة إعلانية بلغت تكلفتها في بريطانيا وحدها مليون جنيه استرليني للترويج لمنتجاتها، لكن السلطات المعنية بالموافقة على معايير الإعلان تتلقى اتصالات وشكاوى مستمرة ضد تلك الإعلانات، ويقوم ضباط اتصالات من الشركة بزيارات مستمرة للصحف ورؤساء التحرير وكتاب الأعمدة، كما أنشأت مونسانتو موقعا لها على الإنترنت وخصصت هاتفا مجانيا للرد على الاستفسارات. ومونسانتو ليست وحدها، فشركات إنتاج البذور المستوردة جينيا ومعالجة كيميائيا ومعاهد الأبحاث الزراعية في هذا المجال والجامعات التي تنتج محاصيل مسجلة ملكية خاصة تحظر على الآخرين زراعتها أو إنتاجها بدأت تشعر بالخطر. ويبعدنا ذلك إلى القوانين التي أصدرتها العام الماضي أربع عشرة ولاية امريكية تمنع المواطنين من الاعتراض على تغذية الحيوانات بأحشاء وبقايا الأبقار Bovine Offal فهي تدل على المدى الذي يمكن أن يصل إليه المشرع الأمريكي لحماية مصالح الشركات في مواجهة مصالح المواطن العادي مما جعل صحيفة الجارديان البريطانية تعلق على ذلك بقولها(لا نملك إلا أن نحمد الله على أن محيطا يفصل بيننا وبين بلوتغراطية Plutocracy الأمريكيين). استغلال التقنية التطور العلمي في مجال هندسة الجينات النباتية (الثورة البايوتكنولوجية) يمكن أن يستخدم في إنتاج أسلحة بيوكيميائية، وبمثل ما فعلت الصناعات النووية من قبلها فإن حمقى التقنيات البايولوجيةيمكن أن يتجاهلوا خطورة ما يفعلونه فيرتكبون حماقة جديدة أسوأ من الحماقات النووية. شراء وسائل الإعلام والأقلام بادرت شركة مونسانتو بعد تحقيق اختراقات ملحوظة في هندسة الجينات منذ الكشف عنها في أواخر الثمانينيات إلى دعوة الصحفيين، وتحمل نفقات سفرهم إلى مقرها الرئيس في سانت لويس بمقاطعة ميسوري، وكانت ترغب في أن تنشر الصحافة صورة إيجابية عنها تروج منتجاتها التي يتم التحكم فيها جينيا. لكن بخلاف ما توقعت فعندما بدأت مقالات أولئك الصحفيين تظهر منبهة إلى احتمال وجود تأثيرات سلبية لهذه التكنولوجيا تدخل محامو الشركة ولجأوا إلى استخدام أساليبهم ضد وسائل الإعلام. هذا النشاط الذي يدعمه استخدام الضغوط حافل بالأمثلة، فقد سبق أن مورس في مجال التكنولوجيا النووية لأكثر من جيلين، ففي عام ١٩٥٦ عندما بدأ تشغيل أول مفاعل نووي للاستخدام المدني في بريطانيا وجد ترحيبا واسعا. في ذلك الوقت لم يدرك إلا قلة أن منتجات المفاعلات النووية للاستدخام المدني تقوم بتغذية صناعة عسكرية في طور النمو لتأجيج الحرب الباردة، واليوم نادرا ما يعقد حوار مفتوح حول تبادل خبرة التقنيات البايولوجية التي لابد أنها تتم في الخفاء بين المؤسسات البحثية في المجالين المدني والعسكري. مستقبل غامض إن الهندسة الجينية التي تعد بالكثير لتحسين صحة البشر ومعيشتهم في كل مكان هي العلم والتقنية نفسها التي يمكن استغلالها لتطوير ترسانات بايوتكنلوجية لها قدرة على الإبادة الجماعية. فالخبرة التي يتم اكتسابها من استهداف معالجة الجينات مباشرة أو في تطويع الفيروسات لتدخل إلى الشفرة الجينية لشخص أو مخلوق ما نباتا كان أو حيوانا، والتي تعتبر جزءا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه في إنتاج سلالات جديدة من الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى، أو أنواع خاصة من المبيدات الحشرية يمكن أن تستخدم أيضا لإنتاج ذخيرة بايولوجية متطورة توجه لمهاجمة الجينات البشرية في الحروب القادمة. قد يبدو ذلك بعيدا اليوم، لكن مع التقدم المسـتمر في كشف أسرار شفرة الجينات البشـرية وتصـنيفها ضـمـن ما يعــرف بـ مشروع الجينات البشرية الذي يعكف العلماء على تنفيذه حاليا فقد عبر المختصون في المهن الطبية عن تخوفهم من استغلال هذه التقنية المتطورة في مجال الغذاء لإنتاج أسلحة تهاجم تكوينات معينة في البناء الجيني للإنسان مقصورة على أجناس دون غيرها. العلماء يخفون الحقيقة مثلما فعل مهندسو الطاقة النووية من قبل فإن علماء التكنولوجيا البايولوجية يقومون اليوم باللعبة نفسها فيقللون من المخاطر التي يمكن أن يقود إليها عملهم، إحدى أكثر تجاربهم إثارة للجدل في بريطانيا ذلك الاختبار الذي أجروه على مبيد حشري تم إنتاجه بوساطة الهندسة الجينية في مزرعة للكرمب (الملفوف) بالقرب من اكسفورد. فعلى الرغم من الموافقة الرسمية على إجراء تلك التجربة إلا أن سكان المنطقة احتجوا لأن المبيدات الجينية المستخدمة يمكن أن تضر بالحياة الطبيعية الغنية في غابة ويثام Wytham Wood المجاورة، لكن العلماء القائمين على التجربة نفوا أن تكون هناك أي مخاطر جانبية. ولم تتم سوى ثلاث سنوات فقط من تلك التجربة إلا واعترف أحد العلماء الرئيسين المشاركين فيها أن الموقع اختير بصفة خاصة لقربه من تلك الغابة، وكان الهدف هو مراقبة ما يحدث من تأثير على الحياة النباتية والحيوانية فيها ومعرفته. تطور الوعي العام لسوء حظ شركة مونسانتو وغيرها من الشركات العاملة في مجال استثمار ابتكارات هندسة الجينات لم يعد ذلك المناخ الذي كان في الستينيات والسبعينيات من حيث التغاضي عن أضرار التقنية النووية أو جهلها سائدا اليوم. لقد أصبح الوعي العام بتلك المخاطر قويا ومؤثرا، وأصبح هناك اعتراض واسع على نشر التقنيات النووية مما يعني أن تقنية الجينات خصوصا استخداماتها في النطاق المدني ستواجه المصير نفسه. يقوم حاليا في الدول التي تتم فيها زراعة محاصيل أو خضراوات وفواكه مخصبة أو مستولدة جينيا يقوم المستهلكون بتنظيم تظاهرات واحتجاجات ضد إنزالها إلى السوق. وتتعرض المختبرات التي تعمل في هذا المجال إلى تهديدات مستمرة، كما رفع المزارعون الذين ينتجون محاصيل مخصبة عضويا أو بالأساليب الزراعية المعروفة قضايا أمام المحاكم، ورفض بعض المستشفيات والثكنات الجماعية والمدارس استقبال تلك المنتجات. إن الحكمة المتوارثة تقول: من رأى ليس كمن سمع وبعد أن شهد الناس تفشي مرض جنون البقر (التليف الدماغي) وحديث الباحثين بأنه ينتقل إلى الإنسان إذا أكل لحومها، ثم ظهور المحاصيل الزراعية المنتجة جينيا التي يستخدم في تخصيبها مركبات كيميائية بدأت ربات البيوت والمتسوقون في المدن الغربية الكبرى يتجنبون المنتجات الزراعية المعلبة والطازجة المعروضة في السوبر ماركت. ويهربون إلى الأسواق المقامة في المناطق الزراعية وعلى أطراف تقاطعات الطرق الزراعية بحثا عن منتجات حقلية لا تستخدم فيها مخصبات كيميائية ولا مبيدات حشرية مكثفة أو تقنية جينية. في هذه المواقع التي أطلق عليها أسواق المزارعين والتي انتشرت في كثير من الدول الغربية خصوصا في بريطانيا التي ظهر فيها مرض جنون البقر لأول مرة يشتري المتسوقون من المنتجين مباشرة اللحم والمنتجات الحقلية والفواكه والخضراوات، ويستفسرون منهم عن كمية المخصبات والمبيدات الحشرية المستعملة وأنواعها إن كانت عضوية أو بايولوجية مصنعة. هل يعوق ذلك الثورة الجينية في الحقل الزراعي؟ ربما، ولكن استقراء الواقع لا يدل على ذلك.
أرجو أن تكونو قد استفدتم
تحياتي
عبر تاريخه ظل الإنسان يبذل كل جهده ويسخر كل إمكاناته لتوفير كميات مضمونة من الطعام تكفيه وتكفي الآخرين معه، وابتكر لذلك شتى أساليب فلاحة الأرض وريها واستصلاحها لتوسيع الرقعة الزراعية. ولجأ إلى استخدام المخصبات العضوية والكيماوية لزيادة الإنتاجية، واستفاد من تجاربه المتوارثة ومن العلم الحديث لتحسين البذور وحمايتها من الآفات الزراعية وتخزينها لأطول مدة ممكنة. كان الإنسان يخشى أن يواجه مشكلة غذاء نتيجة الجفاف والتصحر والكوارث الطبيعية ثم (في العصر الحديث) نتيجة زيادة عدد السكان ونقص الرقعة الزراعية. وما أن بدأ يطمئن لمستقبل غذائه بفضل التقدم التقني وتنامي روح التكافل والتضامن الإنساني -كما هو ملحوظ حاليا في التكاتف من أجل إنقاذ ضحايا المجاعات والكوارث- إذا به يجد نفسه مواجها بخطر جديد لم يكن يتوقعه. فكما يقول المثل (يؤتى الحذر من مكمنه)، وقد يحفر قبره بيده. نفس التقدم العلمي الذي انعقد عليه الأمل واعتبر الملاذ الأخير لضمان توفر الغذاء انقلب ليصبح في رأي البعض عدوا يهدد بمشكلة غذائية لا أحد يدرك إلى أين تنتهي، إنها التقنية أو الهندسة الجينية التي أصبحت تثير الخوف والأمل في مختلف مجالات الحياة. استخدام الهندسة الوراثية في الحقل الزراعي كان قبل استخدامها مع الحيوان (النعجة دولي) بسنوات عديدة، وكان الناس في بعد عنها عندما كانت في المختبرات، وما أن أصبحت واقعا تجاريا حتى كان اعتراض البعض. ومحاور الاعتراض للتجربة العملية في الحقل كشفت جوانب جديدة لم يكن يتوقعها أحد. فقد ظهرت أمراض لم تكن في الحسبان، وأصبح خطر الاحتكار وتحكم الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الناس ماثلا للعيان، وصار كثير منا وهو يشتري متطلباته من مراكز التسويق أو أسواق الخضار والحبوب يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشتريا حتفه بنفسه فهو لا يدري المعالجات الجينية التي أخضع لها ذلك الطعام، ولا كمية المخصبات والمبيدات الحشرية التي استخدمت في إنتاجه. هذا الهاجس والخوف الكامنان تحولا إلى ممارسة عملية في أماكن أخرى من العالم، ورفع عدد متزايد من الناس صوته محذرا أو معترضا على تعديل جينات المحاصيل والخضراوات وغيرها من النباتات، وإن كان هناك متفائلون يرون أن هذه الأساليب الحديثة ستنقذ البشرية من خطر نقص الغذاء وبالتالي يرمون بثقلهم وراء دعمها وتأييدها. الذين يعترضون على تدخل الهندسة الجينية في غذاء الناس اليومي ينظرون للمشكلة من جوانبها الصحية والبيئية وخيارات المستهلكين وتركيز احتكار إنتاج وتوفير الغذاء في أيدي جهات محدودة تنظر للعائد التجاري قبل المصلحة العامة للبشرية وهم يقولون: إن العلماء لا يمكنهم التنبؤ بالمخاطر الكامنة في الهندسة الجينية كما كشف مرض جنون البقر الذي جاء من إدخال نوع جديد من التغذية. وقد ظهرت أنواع من الحساسية وحالات التسمم لم تكن معروفة من قبل، كما أن التحكم في الغذاء وإنتاجه سيصبح في أيدي شركات الزراعة الكيميائية. وسيؤدي ذلك إلى انقراض إن لم يكن إهمال التنوع النباتي، وسيصبح المستهلك مسيرا ليس أمامه أي خيار آخر غير الذي تحدده تلك الشركات وهم لا يعرفون ما تسوقهم إليه. إضافة إلى أن هذه التقنية تطرح أسئلة أخلاقية كبيرة عن حق التدخل في تغيير تركيب وتكوين النباتات والمحاصيل بصفة خاصة والمخلوقات بصفة عامة، أما المؤيدون لهندسة الجينات في حقل الغذاء فيدافعون بأن التقنية الجديدة تجعل الغذاء صالحا للاستخدام لفترات أطول، وتعطيه مذاقا أفضل كما تزيد من محتواه الغذائي، وتخفض معدلات الشحوم والدسم، إضافة إلى رفع معدلات الإنتاج وخفض التكلفة وتقليل استخدام المبيدات الحشرية والمبيدات النباتية. معارضة شرسة بالرغم من ذلك فإن المعارضين لتقنية الهندسة الجينية في حقل الغذاء يعلنون أنهم على استعداد للوقوف أمام المحاكم للدفاع عن مواقفهم. في بريطانيا حاليا أكثر من ٣٢٥ حقل تجارب للمحاصيل المنتجة جينيا تمتلك معظمها شركة مونسانتو الأمريكية Monsanto الرائدة في هذا المجال، إلى جانب شركات ومختبرات بريطانية. وقد قامت مجموعات مناهضة تقنية الجينات في الحقول الزراعية بتدمير ٢٥ منها، وبعض الشركات لا تكشف عن مهاجمة حقولها خوفا من الكشف عن مواقعها أمام مزيد من المهاجمين. يقول المراقبون إن التحالف الحالي بين منظمات حماية البيئة وحركات السلام والتنظيمات الناشئة للدفاع عن الغذاء ليس سوى قمة رأس جبل الجليد ضد الشركات التي تروج لتقنية أغذية الهندسة الوراثية GM Food Technologies. فهناك أعداد متزايدة في بريطانيا تعبر عن رفضها أو خوفها من المستقبل الغذائي ولم تقتنع بحجج الشركات القائلة: إن الأغذية المستولدة جينيا سليمة وصحية وستفيد الدول النامية. منظمة السلام الأخضر وأصدقاء الأرض والحزب الأخضر واتحاد الأرض جميعها تريد حظر إدخال بذور المحاصيل المعالجة وراثيا إلى بريطانيا، بل إن المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية مثل أوكسفام وكريستيان ايد تعبر عن تحفظات عميقة تجاه الادعاء القائل بأن التقنية الجديدة ستعالج مشكلة الجوع. على الجانب الآخر- التسوق والاستهلاك- تتخوف محلات بيع الخضار من التورط في تسويق المحاصيل والخضراوات المعالجة جينيا ويعبر المستهلكون وربات البيوت في استبانات الرأي عن مخاوفهم. الحكومة البريطانية كونت لجنة من أربع وزارات لاستباق ما يمكن أن يتحول إلى أزمة داخلية بعد أن احتج البريطانيون بأن الرأي العام ومؤسساته لم يستشر في إدخال هذه التقنية إلى بريطانيا التي فرضتها اتفاقيات دولية وقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد سببت عمليات الهجوم المنظمة على تلك الحقول خسائر للشركات المعنية بلغت ملايين الجنيهات ونجحت في تأجيل برنامج إنتاج تلك المحاصيل على مستوى تجاري، ولم تعد معارضة إنتاج المحاصيل والخضراوات والفواكه عبر تقنية الجينات محصورة في بريطانيا فقط، فقد أصبح عدد من أعضاء اتحاد المزارعين الفرنسي أبطالا شعبيين بعد أن أصدرت المحاكم في حقهم أحكاما بالسجن لقيامهم بتدمير محاصيل منتجة جينيا. وفي أيرلندا اعتقل سبعة أشخاص للسبب نفسه، ورفعت القضية أمام المحكمة العليا. في ألمانيا ألبت حركة منظمة السلام الأخضر ٢٥٠ ألف مستهلك، وهناك رفض معلن في هولندا والدانمارك، وأجرت سويسرا مؤخرا استفتاء شعبيا حول مستقبل التقنية البيولوجية. لم يكتف الأوروبيون بمعارضة تقنية الجينات الزراعية في بلادهم وإنما أرسلوا وفدا إلى ولاية ميسوري مقر شركة مونسانتو في الولايات المتحدة وهي الشركة الرائدة في هذا المجال، حيث يعقد هناك اجتماع عالمي ضد التدخل في تعديل جينات المحاصيل والمنتجات الزراعية بشكل عام. ماذا لو احتكرت شركة إنتاج الأرز؟ في الدول النامية تقود الهند حملة المعارضة، وكان أكثر من ٧٥٠ مزارعا قد تظاهروا في السنوات الماضية ضد منظمة التجارة العالمية وضد الشركات الأمريكية التي تتجه لاحتكار حق ملكية البذور المحسنة Patenting Seeds وألغى بنك جرامين -الذي أنشئ في بنجلاديش لتقديم القروض الميسرة لفقراء المزارعين- اتفاقا كان قد وقعه مع مونسانتو لإقامة مشروع مشترك بعد أن أدرك خطورة التقنية. في المؤتمر السنوي لمجلس الحبوب العالمي الذي عقد في لندن مؤخرا تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لهجوم شديد من الهند لقيامها بتسجيل ملكية إنتاج نوع معين من الأرز البسمتي تمت معالجته جينيا، ويعطي إنتاجية عالية، واحتكار زراعته. وقال وزير الغذاء الهندي أمام ممثلي العالم إن إعطاء احتكار إنتاج الأرز المعالج جينيا لشركة، يجعلها تتحكم في إنتاجه وتسويقه، وهذا مثال للقرصنة الاقتصادية، وينبئ عن انتكاسة كبيرة للجهود الهادفة إلى خلق ظروف مواتية لتجارة عالمية نزيهة وعادلة. وكيل وزارة الزراعة الأمريكية جيس شوماشير Schumacher أكد في ذلك المؤتمر أن المزارعين الأمريكيين يخسرون مئتي مليون دولار من صادرات الذرة المعالجة جينيا بسبب ما تواجهه من معارضة في الأسواق الأوروبية. دعم حكومي غير محدود غير أن شركة مونسانتو تتمتع بدعم غير محدود من الحكومة الأمريكية والشركات الكبرى التي تستثمر في المجال الزراعي، باعتبار أن هذه التقنية ستمكن الشركات الأمريكية من احتكار إنتاج الغذاء على مستوى العالم. فهي تمضي متسلحة بهذا الدعم غير مكترثة بالاحتجاج والرفض الذي تواجهه في كل مكان. حاليا لدى مونسانتو أكثر من مائة مليون أيكر (الأيكر نحو أربعة آلاف متر مربع) مزروعة بمحاصيل ومنتجات زراعية معالجة جينيا في قارات العالم الأربع. وتستخدم الولايات المتحدة نفوذها في منظمة التجارة العالمية لاستصدار قرار بالموافقة على تسويق المنتجات البايوتكنولوجية، وذلك بإلغاء تصنيف المنتجات الزراعية إضافة إلى إلغاء الدعم الذي تقدمه الحكومات للمزارعين وخفض التعريفات الجمركية أو إلغائها وإلغاء نظام الكوتات. توظف مونسانتو حملة إعلانية بلغت تكلفتها في بريطانيا وحدها مليون جنيه استرليني للترويج لمنتجاتها، لكن السلطات المعنية بالموافقة على معايير الإعلان تتلقى اتصالات وشكاوى مستمرة ضد تلك الإعلانات، ويقوم ضباط اتصالات من الشركة بزيارات مستمرة للصحف ورؤساء التحرير وكتاب الأعمدة، كما أنشأت مونسانتو موقعا لها على الإنترنت وخصصت هاتفا مجانيا للرد على الاستفسارات. ومونسانتو ليست وحدها، فشركات إنتاج البذور المستوردة جينيا ومعالجة كيميائيا ومعاهد الأبحاث الزراعية في هذا المجال والجامعات التي تنتج محاصيل مسجلة ملكية خاصة تحظر على الآخرين زراعتها أو إنتاجها بدأت تشعر بالخطر. ويبعدنا ذلك إلى القوانين التي أصدرتها العام الماضي أربع عشرة ولاية امريكية تمنع المواطنين من الاعتراض على تغذية الحيوانات بأحشاء وبقايا الأبقار Bovine Offal فهي تدل على المدى الذي يمكن أن يصل إليه المشرع الأمريكي لحماية مصالح الشركات في مواجهة مصالح المواطن العادي مما جعل صحيفة الجارديان البريطانية تعلق على ذلك بقولها(لا نملك إلا أن نحمد الله على أن محيطا يفصل بيننا وبين بلوتغراطية Plutocracy الأمريكيين). استغلال التقنية التطور العلمي في مجال هندسة الجينات النباتية (الثورة البايوتكنولوجية) يمكن أن يستخدم في إنتاج أسلحة بيوكيميائية، وبمثل ما فعلت الصناعات النووية من قبلها فإن حمقى التقنيات البايولوجيةيمكن أن يتجاهلوا خطورة ما يفعلونه فيرتكبون حماقة جديدة أسوأ من الحماقات النووية. شراء وسائل الإعلام والأقلام بادرت شركة مونسانتو بعد تحقيق اختراقات ملحوظة في هندسة الجينات منذ الكشف عنها في أواخر الثمانينيات إلى دعوة الصحفيين، وتحمل نفقات سفرهم إلى مقرها الرئيس في سانت لويس بمقاطعة ميسوري، وكانت ترغب في أن تنشر الصحافة صورة إيجابية عنها تروج منتجاتها التي يتم التحكم فيها جينيا. لكن بخلاف ما توقعت فعندما بدأت مقالات أولئك الصحفيين تظهر منبهة إلى احتمال وجود تأثيرات سلبية لهذه التكنولوجيا تدخل محامو الشركة ولجأوا إلى استخدام أساليبهم ضد وسائل الإعلام. هذا النشاط الذي يدعمه استخدام الضغوط حافل بالأمثلة، فقد سبق أن مورس في مجال التكنولوجيا النووية لأكثر من جيلين، ففي عام ١٩٥٦ عندما بدأ تشغيل أول مفاعل نووي للاستخدام المدني في بريطانيا وجد ترحيبا واسعا. في ذلك الوقت لم يدرك إلا قلة أن منتجات المفاعلات النووية للاستدخام المدني تقوم بتغذية صناعة عسكرية في طور النمو لتأجيج الحرب الباردة، واليوم نادرا ما يعقد حوار مفتوح حول تبادل خبرة التقنيات البايولوجية التي لابد أنها تتم في الخفاء بين المؤسسات البحثية في المجالين المدني والعسكري. مستقبل غامض إن الهندسة الجينية التي تعد بالكثير لتحسين صحة البشر ومعيشتهم في كل مكان هي العلم والتقنية نفسها التي يمكن استغلالها لتطوير ترسانات بايوتكنلوجية لها قدرة على الإبادة الجماعية. فالخبرة التي يتم اكتسابها من استهداف معالجة الجينات مباشرة أو في تطويع الفيروسات لتدخل إلى الشفرة الجينية لشخص أو مخلوق ما نباتا كان أو حيوانا، والتي تعتبر جزءا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه في إنتاج سلالات جديدة من الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى، أو أنواع خاصة من المبيدات الحشرية يمكن أن تستخدم أيضا لإنتاج ذخيرة بايولوجية متطورة توجه لمهاجمة الجينات البشرية في الحروب القادمة. قد يبدو ذلك بعيدا اليوم، لكن مع التقدم المسـتمر في كشف أسرار شفرة الجينات البشـرية وتصـنيفها ضـمـن ما يعــرف بـ مشروع الجينات البشرية الذي يعكف العلماء على تنفيذه حاليا فقد عبر المختصون في المهن الطبية عن تخوفهم من استغلال هذه التقنية المتطورة في مجال الغذاء لإنتاج أسلحة تهاجم تكوينات معينة في البناء الجيني للإنسان مقصورة على أجناس دون غيرها. العلماء يخفون الحقيقة مثلما فعل مهندسو الطاقة النووية من قبل فإن علماء التكنولوجيا البايولوجية يقومون اليوم باللعبة نفسها فيقللون من المخاطر التي يمكن أن يقود إليها عملهم، إحدى أكثر تجاربهم إثارة للجدل في بريطانيا ذلك الاختبار الذي أجروه على مبيد حشري تم إنتاجه بوساطة الهندسة الجينية في مزرعة للكرمب (الملفوف) بالقرب من اكسفورد. فعلى الرغم من الموافقة الرسمية على إجراء تلك التجربة إلا أن سكان المنطقة احتجوا لأن المبيدات الجينية المستخدمة يمكن أن تضر بالحياة الطبيعية الغنية في غابة ويثام Wytham Wood المجاورة، لكن العلماء القائمين على التجربة نفوا أن تكون هناك أي مخاطر جانبية. ولم تتم سوى ثلاث سنوات فقط من تلك التجربة إلا واعترف أحد العلماء الرئيسين المشاركين فيها أن الموقع اختير بصفة خاصة لقربه من تلك الغابة، وكان الهدف هو مراقبة ما يحدث من تأثير على الحياة النباتية والحيوانية فيها ومعرفته. تطور الوعي العام لسوء حظ شركة مونسانتو وغيرها من الشركات العاملة في مجال استثمار ابتكارات هندسة الجينات لم يعد ذلك المناخ الذي كان في الستينيات والسبعينيات من حيث التغاضي عن أضرار التقنية النووية أو جهلها سائدا اليوم. لقد أصبح الوعي العام بتلك المخاطر قويا ومؤثرا، وأصبح هناك اعتراض واسع على نشر التقنيات النووية مما يعني أن تقنية الجينات خصوصا استخداماتها في النطاق المدني ستواجه المصير نفسه. يقوم حاليا في الدول التي تتم فيها زراعة محاصيل أو خضراوات وفواكه مخصبة أو مستولدة جينيا يقوم المستهلكون بتنظيم تظاهرات واحتجاجات ضد إنزالها إلى السوق. وتتعرض المختبرات التي تعمل في هذا المجال إلى تهديدات مستمرة، كما رفع المزارعون الذين ينتجون محاصيل مخصبة عضويا أو بالأساليب الزراعية المعروفة قضايا أمام المحاكم، ورفض بعض المستشفيات والثكنات الجماعية والمدارس استقبال تلك المنتجات. إن الحكمة المتوارثة تقول: من رأى ليس كمن سمع وبعد أن شهد الناس تفشي مرض جنون البقر (التليف الدماغي) وحديث الباحثين بأنه ينتقل إلى الإنسان إذا أكل لحومها، ثم ظهور المحاصيل الزراعية المنتجة جينيا التي يستخدم في تخصيبها مركبات كيميائية بدأت ربات البيوت والمتسوقون في المدن الغربية الكبرى يتجنبون المنتجات الزراعية المعلبة والطازجة المعروضة في السوبر ماركت. ويهربون إلى الأسواق المقامة في المناطق الزراعية وعلى أطراف تقاطعات الطرق الزراعية بحثا عن منتجات حقلية لا تستخدم فيها مخصبات كيميائية ولا مبيدات حشرية مكثفة أو تقنية جينية. في هذه المواقع التي أطلق عليها أسواق المزارعين والتي انتشرت في كثير من الدول الغربية خصوصا في بريطانيا التي ظهر فيها مرض جنون البقر لأول مرة يشتري المتسوقون من المنتجين مباشرة اللحم والمنتجات الحقلية والفواكه والخضراوات، ويستفسرون منهم عن كمية المخصبات والمبيدات الحشرية المستعملة وأنواعها إن كانت عضوية أو بايولوجية مصنعة. هل يعوق ذلك الثورة الجينية في الحقل الزراعي؟ ربما، ولكن استقراء الواقع لا يدل على ذلك.
أرجو أن تكونو قد استفدتم
تحياتي