محمد عريف
07-10-2010, 02:29 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد نوفمبر - ديسمبر 2002
كشف النقاب عن التناظر الفائق(*)
ظاهرة غريبة مراوغة جرى تصورها في إطار فيزياء
الجسيمات الأولية، وكشف النقاب عنها في نوى الپلاتين والذهب.
<J. جولي>
التناظر الفائق هو تناظر غير عادي، فهو في فيزياء الجسيمات الأولية يبادل بين جسيمات من أصناف متباينة تمامًا ـ الصنف المسمى فرميونات fermions (مثل الإلكترونات والپروتونات والنيوترونات) وهي التي تشكل العالم المادي، والصنف المسمى بوزونات bosons (مثل الفوتونات) وهي التي تولّد قوى الطبيعة. فالفرميونات بطبيعتها هي الجسيمات الفردانية المحبة للعزلة في عالم الجسيمات الكمومية، إذ لا يشغل فرميونان مطلقا الحالة الكمومية نفسها. وكرهها للرفقة اللصيقة شديد لدرجة تجعل نجما نيوترونيا يقاوم الانهيار حتى عندما يكون الوزن التثاقلي الساحق قد تغلب على كل قوة أخرى من قوى الطبيعة. أما البوزونات فهي، على العكس من ذلك، ودودة محبة للتقليد وتتجمع في حالات متماثلة. وكل بوزون، وهو في حالة معينة، يشجع المزيد من أبناء جنسه على محاكاته. وتشكل البوزونات، في الظروف الصحيحة، جيوشا منظمة من الأنسال clones، مثل الفوتونات في حزمة ليزرية أو الذرات في الهليوم 4 الفائق الميوعة.
ومع ذلك فإن الفرميونات المتحفظة تبدو في مرآة التناظر الفائق، بطريقة ما كأنها السحر، شبيهة بالبوزونات الأنيسة، والعكس بالعكس. ويمكن القول مجازا إن ما يجعلك تقارن التفاح بالبرتقال هو تناظر. ضع تفاحة أمام مرآة التناظر الفائق وسوف يظهر شكل انعكاسها وطعمه مثل برتقالة. إن جميع التناظرات العادية في الفيزياء تفتقر إلى مثل هذا السحر. وهذه التناظرات يمكن أن تعمل مثل مرايا بيوت التسلية التي تشوه الأخيلة، فتجعل الإلكترونات المألوفة تبدو مثل النيوترينوهات الشبحية مثلا، ولكنها لا يمكنها أبدا أن تبدل الفرميون إلى بوزون. التناظر الفائق وحده هو الذي يفعل ذلك.
نظرة إجمالية إلى: رقصات مع النيوكليونات(**)
تُقسم جميع الجسيمات والحقول في الفيزياء الكمومية إلى نوعين متباينين تماما: الفرميونات والبوزونات. تشمل الفرميونات كلا من الإلكترونات والپروتونات والنيوترونات، وهي التي تشكل المادة. أما البوزونات فتشمل الفوتونات (المسؤولة عن الكهرمغنطيسية) والگلوونات (التي تربط الكواركات بعضها ببعض).
تؤدي التناظرات أدوارا رئيسية في الفيزياء كلها. وتحافظ جميع التناظرات العادية على الفرق بين البوزونات والفرميونات. أما نظريات التناظر الفائق فتحتوي على خواص رياضياتية فعالة تبادل بواسطتها البوزونات بالفرميونات. وقد تكون مثل هذه النظريات حاسمة لفهم فيزياء الجسيمات فهما عميقا، إلا أن التجارب لم تكشف بعد عن التناظر الفائق للجسيمات الأولية.
تشكل كل من الپروتونات والنيوترونات في النوى الذرية أزواجا تسلك سلوك البوزونات المركبة. ولذلك تصنف النوى في أربع طوائف (زوجية-زوجية وزوجية-فردية وفردية-زوجية وفردية-فردية) تبعا لإمكان تزاوج كل من الپروتونات والنيوترونات تزاوجا كاملا. وقد تنبأ الفيزيائيون بأن شكلا ما من التناظر الفائق يجب أن يكوّن علاقة بين أربع نوى من هذه الأنواع مشكلا «مربعا سحريا». وأثبت التجريبيون الآن هذه النبوءة.
تلك هي النظرية على الأقل. وقد درس الفيزيائيون النظريون المختصون بالجسيمات الأولية التناظر الفائق بصورة مكثفة منذ ابتكاره في السبعينات، ويعتقد الكثير منهم أن فيه مفتاح التقدم الكبير التالي في فهمنا للجسيمات والقوى الأساسية. ولكن التجريبيين بحثوا بواسطة مصادماتهم ذات الطاقة العالية عن الجسيمات التي تنبأ بها التناظر الفائق ولكن من دون طائل حتى الآن.
وفي الثمانينات، اقترح النظريون النوويون ما مفاده أن التصادمات الفائقة العنف ليست بالضرورة الطريقة الوحيدة لرؤية التناظر الفائق؛ وتنبؤوا بإمكان وجود شكل آخر من التناظر الفائق في نوى ذرية معينة. وهنا أيضا يربط التناظر بين أشياء متباينة تماما في الفيزياء: بين نوى ذات عدد زوجي من الپروتونات والنيوترونات وأخرى ذات أعداد فردية منها. (ولهذا علاقة بالفرميونات والبوزونات كذلك، لأن جسيما مركبا مكونا من عدد فردي من الفرميونات هو فرميون، في حين يعطي العدد الزوجي بوزونا.)
ولكي نفهم التناظر الفائق النووي بصورة أفضل، لنتخيل قاعة رقص ممتلئة بالراقصين بدلا من النيوكليونات التي تشكل النواة. فحين يكون عدد الراقصين زوجيا يكون لكل واحد منهم رفيق، وتوصف القاعة عندئذ بأنها مملوءة بأزواج من الراقصين. وفي الحالة الفردية هناك شخص إضافي يتخبط دون رفيق. أما في مرآة التناظر الفائق فيبدو هذا الشخص، بصورة سحرية، مثل زوج آخر يرقص بإيقاع مع الآخرين. وبصورة مشابهة فإن النواة ذات العدد الفردي من الپروتونات والنيوترونات والتي تدعى جميعها نيوكليونات، تقابلها نواة تكون فيها جميع النيوكليونات متزاوجة.
وقد رصد التجريبيون مؤخرا شكلا من هذا التناظر غير العادي في نظائر الذهب والپلاتين، حيث تجري الأمور وكأن الپروتونات والنيوترونات مجموعتان منفصلتان من الراقصين ـ مثل طلبة مدرستين تقيمان حفلتيهما الراقصتين في القاعة نفسها. وفي هذا التناظر الفائق النووي ترتبط أربع حالات، بدلا من اثنتين، ببعضها: الحالة التي يكون فيها في كل من المدرستين شاب دون رفيقة (عدد فردي من كل من الپروتونات والنيوترونات) والحالتان اللتان يتحقق فيهما ذلك في واحدة من المدرستين فقط (عدد زوجي من الپروتونات ولكن مع عدد فردي من النيوترونات، أو العكس) والحالة التي يكون فيها لكل فرد رفيقة (عدد زوجي من كل من الپروتونات والنيوترونات).
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002017.jpg
يختلف التفاح والبرتقال، اللذان يضرب المثل باختلاف أحدهما عن الآخر، بقدر ما يختلف نوعا الجسيمات المدعوان فرميونات وبوزونات. ومثلما أنه ليس بإمكان مرآة عادية أن تجعل تفاحة تبدو فيها مثل برتقالة، كذلك ليس بإمكان أي تناظر عادي في الفيزياء أن يحول فرميونا إلى بوزون أو بالعكس. ولإجراء مثل هذه الحيلة يلزم التناظر الفائق، الذي هو طائفة غير عادية من التناظرات التي قد يكمن فيها الحل لفهم الكون فهما عميقا.
إن النواة الذرية منظومة كمومية مذهلة فيها الكثير من الأسرار. وقد كانت دراستها على مر العقود مصدرا مستمرا للمشاهدات غير المتوقعة. ويجب على النظريين أن يستخدموا أدوات متعددة لكي يفهموا جميع جوانب الفيزياء البالغة التعقيد للنوى. وتضيف النتيجة الجديدة التناظر الفائق إلى مجموعة الأدوات هذه ـ وهي تبين أن التناظر الفائق ليس مجرد فضول رياضياتي ولكنه موجود في العالم.
وأبحاث الفيزياء النووية توفر هي الأخرى أدوات لازمة لفهم منظومات كمومية أخرى تتصف بصفات عامة تشبه النوى ـ وهي ما يدعى بمنظومات الأجسام المتعددة المنتهية التي تحوي أي عدد من الجسيمات بدءا من عدد قليل إلى المئات منها. وتتيح الطرائق التجريبية الآن دراسة مثل هذه الأجسام المؤلفة من أعداد صغيرة من الذرات أو الجزيئات. وربما كان التناظر الفائق مهما بالنسبة إلى هذه المجالات من الفيزياء كذلك.
نوى تكتنفها الأسرار(***)
كل شيء مادي في العالم من حولنا مؤلف من ذرات، وهي غمامات من الإلكترونات تحيط بنوى ذرية دقيقة ذات كتل كبيرة. يفهم الفيزيائيون والكيميائيون بصورة جيدة جدا كيف تنتظم الإلكترونات وكيف تنشأ الخواص التي تسود عالمنا المادي من تلك البنى. وتتعلق بعض أكثر التنبؤات دقة في العلم بالتفاصيل الدقيقة لمستويات طاقة الإلكترونات في الذرات. أما النوى الذرية فقد بقيت، على العكس من ذلك، أكثر غموضا بكثير.
ويكمن السبب الأساسي لهذا الاختلاف في طبيعة القوى ذات العلاقة. فالإلكترونات تبقى في مداراتها حول الذرات بفضل القوة الكهرمغنطيسية، وهي ضعيفة نسبيا. أما القوة المهيمنة داخل النوى فهي أقوى بنحو 100 مرة (ومن هنا اسمها: القوة النووية القوية). وحين يتعلق الأمر بقوة شديدة مثل القوة النووية فإن التقنيات النظرية التي تصف بنجاح القوى الضعيفة مثل الكهرمغنطيسية تفشل. يضاف إلى ذلك أن الإلكترونات هي جسيمات أولية عديمة البنية، في حين أن الپروتونات والنيوترونات هي نفسها حزم معقدة من جسيمات تدعى كواركات وگلوونات. والقوة المؤثرة بين هذه النيوكليونات ليست قوة أساسية مباشرة مثل الكهرمغنطيسية التي نعرف معادلاتها معرفة دقيقة، بل هي ناتج معقد من التآثرات بين الكواركات والگلوونات المكوّنة للنيوكليونات.
إن القوة النووية هي قوة جذب قوي في مدى عدد صغير من الفمتومتر (15-10متر) تهبط إلى الصفر أبعد من ذلك. وهذه القوة هي التي ترصّ النيوكليونات قريبا من بعضها بعضا. ويتآثر كل نيوكليون بقوة مع النيوكليونات الأخرى التي تقع داخل المدى. (على العكس من ذلك تقع مدارات الإلكترونات على نحو 000 10 مرة أبعد من تلك.) إن البنية الحاصلة واحدة من أكثر المنظومات الكمومية المعروفة مدعاة للتحدي. وعلى مدى العقود طور الفيزيائيون العديد من النماذج النظرية لمحاولة وصفها [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. بعض هذه النماذج تعامل النواة كقطرة من مائع كمومي يمكنها أن تتذبذب وتهتز بطرق معينة. في حين يحاكي آخرون البنية التي تعمل بصورة جيدة جدا بالنسبة إلى الإلكترونات في مداراتها، بأنها طبقات ****ls من المدارات المنفصلة التي تملؤها النيوكليونات تباعا ابتداء من أخفض مستوى طاقة.
تميل النماذج المختلفة لأن تعمل بصورة أفضل بالنسبة إلى طوائف معينة من النوى، وذلك تبعا لعدد النيوكليونات الكلي في النواة وتبعا لمدى امتلاء الطبقات الخارجية بالپروتونات والنيوترونات. ولما كانت الپروتونات والنيوترونات تميل إلى تشكيل أزواج فإن سلوك نواة ما يتوقف بصورة حاسمة على كونها تحوي عددا زوجيا أو فرديا من الپروتونات والنيوترونات [انظر الشكل في الصفحة 70]. وهكذا فإن النوى المسماة زوجية ـ زوجية هي الأبسط، تليها في ذلك الزوجية ـ فردية، ثم الفردية ـ فردية وهي أصعبها كلها.
إن التناظر أداة مهمة وفعالة لتطوير مثل هذه النماذج واستخدامها. ومبادئ التناظر تظهر في الفيزياء كلها، وغالبا بطرق لا يتوقعها المرء. فقانون انحفاظ الطاقة، على سبيل المثال، يمكن أن يُستخرج من مبدأ تناظر يشمل جريان الزمن. وتتمايز طبقات المدارات، للإلكترونات والنيوكليونات على السواء، بخواص تتعلق بالتناظرات، مثل الاندفاع (الزخم) الزاوي angular momentum للجسيمات في المدار، وفيما إذا كان المدار لا يتغير بالانعكاس (وهي خاصية تسمى النّديّة parity). كما أن المعادلات التي تحكم فيزياء الجسيمات الأولية تستند من حيث الأساس إلى التناظرات.
إن إحدى السمات الأساسية للتناظر في الفيزياء الكمومية هي تقسيم الجسيمات إلى بوزونات وفرميونات، ولهذه وتلك حالات كمومية متباينة بصورة أساسية وسلوك مختلف اختلافا كاملا. فالفرميونات تخضع لمبدأ الاستبعاد لپاولي Pauli exclusion principle الذي يقضي بأنه لا يمكن لفرميونين من النوع نفسه أن يكونا في الحالة الكمومية ذاتها في وقت واحد. في حين تفضل البوزونات، على العكس من ذلك، أن تتجمع في حالات متماثلة، وهذا ما تشهد عليه ذرات الهليوم 4 في مائع فائق.
وذرة الهليوم 4 مثال لجسيم مركّب هو بوزون. فهي مؤلفة من ستة فرميونات (پروتونين ونيوترونين وإلكترونين). والنيوكليونات نفسها هي في الحقيقة فرميونات مركبة يحتوي الواحد منها على ثلاثة فرميونات أساسية (كواركات). والقاعدة العامة تقول إن عددا زوجيا من الفرميونات يشكل بوزونا مركبا، في حين يشكل عدد فردي منها فرميونا مركبا. وتقابل التناظرات العادية بالضرورة البوزونات بالبوزونات والفرميونات بالفرميونات. أما التناظر الفائق فإنه يفتح ـ بمقابلته البوزونات بالفرميونات ـ طائفة جديدة من العلاقات المحتملة بين الجسيمات. وكذلك فإن الرياضيات الجديدة لهذه العلاقات تؤدي إلى قوة حاسوبية أعظم لتحليل سلوك منظومة ما أو التنبؤ به.
تناظرات نووية(****)
يؤدي التناظر دورا أساسيا فيما يسمى نموذج البوزونات المتآثرة interacting boson model للنوى، الذي ابتكره في منتصف التسعينات <A. أريما> [من جامعة طوكيو] و<F. إياشيلُّو> [الذي كان حينذاك في جامعة خرونينگن بهولندا] [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. يحلل هذا النموذج النوى كما لو أنها مؤلفة من أزواج پروتونية وأخرى نيوترونية؛ فالأزواج هي البوزونات في هذا النموذج. وقد وجد أريما وإياشيلو ثلاثة أنواع خاصة من النوى الزوجية-زوجية في نموذجهما؛ يرتبط كل منها بتناظر خاص. وكان اثنان من هذه الأصناف وتناظراتهما معروفين من قبل من نموذج القطرة السائلة السابق، وكانا مدروسين تجريبيا لكن الثالث اشتمل على تناظر لم يُشاهد قط في النوى. وفي أواخر السبعينات اكتشف كل من <F .R. كاستن> و<A .J. سيزڤسكي> [كانا حينذاك في مختبر بروكهاڤن الوطني] أن نوى الپلاتين تبدي التناظر الجديد، مما أدى إلى دعم نموذج البوزونات المتآثرة دعما كبيرا. وسرعان ما أصبح واضحا أن نموذج البوزونات المتآثرة يمثل تقريبا جيدا للعديد من النوى.
نماذج نووية(*****)
إن النوى (a)، وهي أكبر كثافة من الماء بمئة ترليون (1014) مرة، هي رزم متراصة جدا من الپروتونات (اللون البرتقالي) ومن النيوترونات (اللون الأزرق). وبسبب قوة وشدة تعقيد القوة النووية الشديدة التي تربط النيوكليونات بعضها ببعض، لجأ الفيزيائيون خلال حقبة طويلة من الزمن إلى نماذج تقريبية لوصف الحالات الكمومية للنوى.
يشبه النموذج الطبقي ****l model (b) إلى حد بعيد وصف الإلكترونات في الذرات. فهو ينظر إلى النواة الذرية كما لو أنها جملة من النيوترونات والپروتونات (النيوكليونات) المتآثرة تآثرا ضعيفا والمحصورة ضمن بئر طاقة كامنة. بإمكان النيوكليونات أن تحتل مدارات مختلفة مشابهة لمدارات الإلكترونات في الذرة، إنما توجد هنا مجموعتان منها ـ إحداهما هي الپروتونات والأخرى هي النيوترونات. والنيوكليونات، شأنها شأن الإلكترونات، هي جسيمات فرميونية ينطبق عليها مبدأ الاستبعاد، فلا يستطيع اثنان منها أن يشغلا المدار ذاته. وتشكل المدارات طبقات، أو مجموعات من المدارات ذات طاقات متماثلة تفصل بينها ثغرات طاقية. وتبدي النوى ذات الطبقة المغلقة (الممتلئة) من الپروتونات أو الطبقة المغلقة من النيوترونات (وبصورة خاصة النوى ذات الطبقتين المغلقتين) استقرارا كبيرا، مثلها في ذلك مثل ذرات الغازات النبيلة ذات الطبقات الإلكترونية الممتلئة.
وبالنسبة إلى النوى ذات العدد الإضافي الصغير من النيوكليونات خارج الطبقة المغلقة (c)، يمكن للمرء أن يهمل إلى حد ما النيوكليونات في الطبقة المغلقة ويركز على العدد القليل الموجود خارج هذه الطبقة. ولكن يجب أخذ التآثرات بين هذه النيوكليونات الخارجية بعين الاعتبار كذلك. وفي النوى الثقيلة، التي لها العديد من النيوكليونات خارج آخر طبقة مغلقة، تصبح الحسابات معقدة لدرجة مستحيلة حتى باستخدام الحواسيب الحديثة.
أما النموذج الجمعي collective، أو نموذج القطرة السائلة (d) فيصلح بالنسبة إلى النوى الثقيلة التي تتألف من نحو 100 نيوكليون أو أكثر. ولا يهتم النموذج بكل نيوكليون على حدة، وإنما ينظر إلى النواة وكأنها قطيرة من سائل كمومي يمكن أن تخضع لمختلف الاهتزازات والدورانات. وتكون خواص النواة محتواة في مظاهر مثل الكثافة والتوتر السطحي للسائل والشحنة الكهربائية المتوزعة فيها. وقد نجح هذا النموذج نجاحا باهرا في وصف طوائف معينة من النوى البعيدة عن نوى الطبقات المغلقة، أي تلك النوى ذات العدد الكبير من النيوكليونات في طبقتها الخارجية.
تأخذ الإثارات في الفيزياء الكمومية، مثل اهتزازات قطيرة، الكثير من مظاهر خواص الجسيمات، ويمكن إذا أن تسلك سلوك الفرميونات أو البوزونات. وحين يطبق النموذج الجمعي على أبسط المنظومات ـ النوى الزوجية-زوجية، التي فيها عدد زوجي من كل من الپروتونات والنيوترونات ـ فإن المكونات الأساسية للنموذج، أي الاهتزازات السطحية، تسلك سلوك البوزونات. أما حين يكون عدد النيوكليونات فرديا فيشغل النيوكليون الأخير مدارا يعتمد على حالة القطيرة وتكون الإثارات فرميونات.
يربط نموذج البوزونات المتآثرة (e) بين نموذج الطبقات ونموذج القطرة السائلة، وذلك بفضل استخدام خاصة التزاوج للقوة النووية [انظر الإطار في الصفحة 70]. ويحلل هذا النموذج النوى الثقيلة الزوجية-زوجية على أنها مجموعات من أزواج النيوكليونات خارج طبقة مغلقة، مثل وصف أناس في حلبة الرقص على أنهم أزواج يتنقلون (بدلا من كونهم أفرادا). وحين يتزاوج نيوكليونان يصبحان مثل بوزون. لكنّ هناك أنواعا مختلفة من الأزواج. ففي التشبيه بالرقص نقول إن هناك أزواجا ترقص رقصة ڤالس بطيئة، في حين تندفع أزواج أخرى في رقصة پولكا سريعة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002018.jpg
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002019.jpg
إن التناظرات التي تنبأ بها نموذج البوزونات المتآثرة هي من نوع خاص يعرف بالتناظرات الديناميكية. ويمكن تخيل التناظرات العادية (اللاديناميكية) على أنها تشبه كثيرا التناظرات المألوفة التي نراها حولنا. فلجسم ما تناظر مرآتي، مثلا، إذا ظهر بشكله نفسه حين ينظر إليه في مرآة. فيدك اليسرى هي تقريبا الخيال المرآتي ليدك اليمنى. أما التناظرات الديناميكية فهي، بخلاف ذلك، لا تتعلق بالأجسام ذاتها وإنما بالمعادلات التي تحكم ديناميك الأجسام. ولسوء حظ التجريبيين ليس هناك سوى طائفة محدودة من النوى تستطيع أن تبدي تناظرات ديناميكية.
من الطبيعي أن يحقق نموذج البوزونات المتآثرة أفضل نجاحاته بالنسبة إلى النوى الزوجية-زوجية. أما النوى الفردية-زوجية فلديها دائما نيوكليون منفرد، مثله مثل شخص زائد يتجول وسط أزواج من الراقصين. توصف نواة كهذه في النموذج بواسطة n بوزون، وفرميون واحد هو النيوكليون المنفرد. ويمكن أن تستخدم التناظرات الديناميكية، في بعض الحالات، لتحليل النوى الفردية-زوجية، لكن العملية أكثر تعقيدا بكثير منها في الحالة الزوجية-زوجية. وفي عام 1980 اقترح إياشيلو، وكان قد انتقل وقتهاإلى جامعة ييل، توسيعا جريئا لنموذج البوزونات المتآثرة لوصف النوى الفردية-زوجية بطريقة أكثر إتقانا.
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد نوفمبر - ديسمبر 2002
كشف النقاب عن التناظر الفائق(*)
ظاهرة غريبة مراوغة جرى تصورها في إطار فيزياء
الجسيمات الأولية، وكشف النقاب عنها في نوى الپلاتين والذهب.
<J. جولي>
التناظر الفائق هو تناظر غير عادي، فهو في فيزياء الجسيمات الأولية يبادل بين جسيمات من أصناف متباينة تمامًا ـ الصنف المسمى فرميونات fermions (مثل الإلكترونات والپروتونات والنيوترونات) وهي التي تشكل العالم المادي، والصنف المسمى بوزونات bosons (مثل الفوتونات) وهي التي تولّد قوى الطبيعة. فالفرميونات بطبيعتها هي الجسيمات الفردانية المحبة للعزلة في عالم الجسيمات الكمومية، إذ لا يشغل فرميونان مطلقا الحالة الكمومية نفسها. وكرهها للرفقة اللصيقة شديد لدرجة تجعل نجما نيوترونيا يقاوم الانهيار حتى عندما يكون الوزن التثاقلي الساحق قد تغلب على كل قوة أخرى من قوى الطبيعة. أما البوزونات فهي، على العكس من ذلك، ودودة محبة للتقليد وتتجمع في حالات متماثلة. وكل بوزون، وهو في حالة معينة، يشجع المزيد من أبناء جنسه على محاكاته. وتشكل البوزونات، في الظروف الصحيحة، جيوشا منظمة من الأنسال clones، مثل الفوتونات في حزمة ليزرية أو الذرات في الهليوم 4 الفائق الميوعة.
ومع ذلك فإن الفرميونات المتحفظة تبدو في مرآة التناظر الفائق، بطريقة ما كأنها السحر، شبيهة بالبوزونات الأنيسة، والعكس بالعكس. ويمكن القول مجازا إن ما يجعلك تقارن التفاح بالبرتقال هو تناظر. ضع تفاحة أمام مرآة التناظر الفائق وسوف يظهر شكل انعكاسها وطعمه مثل برتقالة. إن جميع التناظرات العادية في الفيزياء تفتقر إلى مثل هذا السحر. وهذه التناظرات يمكن أن تعمل مثل مرايا بيوت التسلية التي تشوه الأخيلة، فتجعل الإلكترونات المألوفة تبدو مثل النيوترينوهات الشبحية مثلا، ولكنها لا يمكنها أبدا أن تبدل الفرميون إلى بوزون. التناظر الفائق وحده هو الذي يفعل ذلك.
نظرة إجمالية إلى: رقصات مع النيوكليونات(**)
تُقسم جميع الجسيمات والحقول في الفيزياء الكمومية إلى نوعين متباينين تماما: الفرميونات والبوزونات. تشمل الفرميونات كلا من الإلكترونات والپروتونات والنيوترونات، وهي التي تشكل المادة. أما البوزونات فتشمل الفوتونات (المسؤولة عن الكهرمغنطيسية) والگلوونات (التي تربط الكواركات بعضها ببعض).
تؤدي التناظرات أدوارا رئيسية في الفيزياء كلها. وتحافظ جميع التناظرات العادية على الفرق بين البوزونات والفرميونات. أما نظريات التناظر الفائق فتحتوي على خواص رياضياتية فعالة تبادل بواسطتها البوزونات بالفرميونات. وقد تكون مثل هذه النظريات حاسمة لفهم فيزياء الجسيمات فهما عميقا، إلا أن التجارب لم تكشف بعد عن التناظر الفائق للجسيمات الأولية.
تشكل كل من الپروتونات والنيوترونات في النوى الذرية أزواجا تسلك سلوك البوزونات المركبة. ولذلك تصنف النوى في أربع طوائف (زوجية-زوجية وزوجية-فردية وفردية-زوجية وفردية-فردية) تبعا لإمكان تزاوج كل من الپروتونات والنيوترونات تزاوجا كاملا. وقد تنبأ الفيزيائيون بأن شكلا ما من التناظر الفائق يجب أن يكوّن علاقة بين أربع نوى من هذه الأنواع مشكلا «مربعا سحريا». وأثبت التجريبيون الآن هذه النبوءة.
تلك هي النظرية على الأقل. وقد درس الفيزيائيون النظريون المختصون بالجسيمات الأولية التناظر الفائق بصورة مكثفة منذ ابتكاره في السبعينات، ويعتقد الكثير منهم أن فيه مفتاح التقدم الكبير التالي في فهمنا للجسيمات والقوى الأساسية. ولكن التجريبيين بحثوا بواسطة مصادماتهم ذات الطاقة العالية عن الجسيمات التي تنبأ بها التناظر الفائق ولكن من دون طائل حتى الآن.
وفي الثمانينات، اقترح النظريون النوويون ما مفاده أن التصادمات الفائقة العنف ليست بالضرورة الطريقة الوحيدة لرؤية التناظر الفائق؛ وتنبؤوا بإمكان وجود شكل آخر من التناظر الفائق في نوى ذرية معينة. وهنا أيضا يربط التناظر بين أشياء متباينة تماما في الفيزياء: بين نوى ذات عدد زوجي من الپروتونات والنيوترونات وأخرى ذات أعداد فردية منها. (ولهذا علاقة بالفرميونات والبوزونات كذلك، لأن جسيما مركبا مكونا من عدد فردي من الفرميونات هو فرميون، في حين يعطي العدد الزوجي بوزونا.)
ولكي نفهم التناظر الفائق النووي بصورة أفضل، لنتخيل قاعة رقص ممتلئة بالراقصين بدلا من النيوكليونات التي تشكل النواة. فحين يكون عدد الراقصين زوجيا يكون لكل واحد منهم رفيق، وتوصف القاعة عندئذ بأنها مملوءة بأزواج من الراقصين. وفي الحالة الفردية هناك شخص إضافي يتخبط دون رفيق. أما في مرآة التناظر الفائق فيبدو هذا الشخص، بصورة سحرية، مثل زوج آخر يرقص بإيقاع مع الآخرين. وبصورة مشابهة فإن النواة ذات العدد الفردي من الپروتونات والنيوترونات والتي تدعى جميعها نيوكليونات، تقابلها نواة تكون فيها جميع النيوكليونات متزاوجة.
وقد رصد التجريبيون مؤخرا شكلا من هذا التناظر غير العادي في نظائر الذهب والپلاتين، حيث تجري الأمور وكأن الپروتونات والنيوترونات مجموعتان منفصلتان من الراقصين ـ مثل طلبة مدرستين تقيمان حفلتيهما الراقصتين في القاعة نفسها. وفي هذا التناظر الفائق النووي ترتبط أربع حالات، بدلا من اثنتين، ببعضها: الحالة التي يكون فيها في كل من المدرستين شاب دون رفيقة (عدد فردي من كل من الپروتونات والنيوترونات) والحالتان اللتان يتحقق فيهما ذلك في واحدة من المدرستين فقط (عدد زوجي من الپروتونات ولكن مع عدد فردي من النيوترونات، أو العكس) والحالة التي يكون فيها لكل فرد رفيقة (عدد زوجي من كل من الپروتونات والنيوترونات).
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002017.jpg
يختلف التفاح والبرتقال، اللذان يضرب المثل باختلاف أحدهما عن الآخر، بقدر ما يختلف نوعا الجسيمات المدعوان فرميونات وبوزونات. ومثلما أنه ليس بإمكان مرآة عادية أن تجعل تفاحة تبدو فيها مثل برتقالة، كذلك ليس بإمكان أي تناظر عادي في الفيزياء أن يحول فرميونا إلى بوزون أو بالعكس. ولإجراء مثل هذه الحيلة يلزم التناظر الفائق، الذي هو طائفة غير عادية من التناظرات التي قد يكمن فيها الحل لفهم الكون فهما عميقا.
إن النواة الذرية منظومة كمومية مذهلة فيها الكثير من الأسرار. وقد كانت دراستها على مر العقود مصدرا مستمرا للمشاهدات غير المتوقعة. ويجب على النظريين أن يستخدموا أدوات متعددة لكي يفهموا جميع جوانب الفيزياء البالغة التعقيد للنوى. وتضيف النتيجة الجديدة التناظر الفائق إلى مجموعة الأدوات هذه ـ وهي تبين أن التناظر الفائق ليس مجرد فضول رياضياتي ولكنه موجود في العالم.
وأبحاث الفيزياء النووية توفر هي الأخرى أدوات لازمة لفهم منظومات كمومية أخرى تتصف بصفات عامة تشبه النوى ـ وهي ما يدعى بمنظومات الأجسام المتعددة المنتهية التي تحوي أي عدد من الجسيمات بدءا من عدد قليل إلى المئات منها. وتتيح الطرائق التجريبية الآن دراسة مثل هذه الأجسام المؤلفة من أعداد صغيرة من الذرات أو الجزيئات. وربما كان التناظر الفائق مهما بالنسبة إلى هذه المجالات من الفيزياء كذلك.
نوى تكتنفها الأسرار(***)
كل شيء مادي في العالم من حولنا مؤلف من ذرات، وهي غمامات من الإلكترونات تحيط بنوى ذرية دقيقة ذات كتل كبيرة. يفهم الفيزيائيون والكيميائيون بصورة جيدة جدا كيف تنتظم الإلكترونات وكيف تنشأ الخواص التي تسود عالمنا المادي من تلك البنى. وتتعلق بعض أكثر التنبؤات دقة في العلم بالتفاصيل الدقيقة لمستويات طاقة الإلكترونات في الذرات. أما النوى الذرية فقد بقيت، على العكس من ذلك، أكثر غموضا بكثير.
ويكمن السبب الأساسي لهذا الاختلاف في طبيعة القوى ذات العلاقة. فالإلكترونات تبقى في مداراتها حول الذرات بفضل القوة الكهرمغنطيسية، وهي ضعيفة نسبيا. أما القوة المهيمنة داخل النوى فهي أقوى بنحو 100 مرة (ومن هنا اسمها: القوة النووية القوية). وحين يتعلق الأمر بقوة شديدة مثل القوة النووية فإن التقنيات النظرية التي تصف بنجاح القوى الضعيفة مثل الكهرمغنطيسية تفشل. يضاف إلى ذلك أن الإلكترونات هي جسيمات أولية عديمة البنية، في حين أن الپروتونات والنيوترونات هي نفسها حزم معقدة من جسيمات تدعى كواركات وگلوونات. والقوة المؤثرة بين هذه النيوكليونات ليست قوة أساسية مباشرة مثل الكهرمغنطيسية التي نعرف معادلاتها معرفة دقيقة، بل هي ناتج معقد من التآثرات بين الكواركات والگلوونات المكوّنة للنيوكليونات.
إن القوة النووية هي قوة جذب قوي في مدى عدد صغير من الفمتومتر (15-10متر) تهبط إلى الصفر أبعد من ذلك. وهذه القوة هي التي ترصّ النيوكليونات قريبا من بعضها بعضا. ويتآثر كل نيوكليون بقوة مع النيوكليونات الأخرى التي تقع داخل المدى. (على العكس من ذلك تقع مدارات الإلكترونات على نحو 000 10 مرة أبعد من تلك.) إن البنية الحاصلة واحدة من أكثر المنظومات الكمومية المعروفة مدعاة للتحدي. وعلى مدى العقود طور الفيزيائيون العديد من النماذج النظرية لمحاولة وصفها [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. بعض هذه النماذج تعامل النواة كقطرة من مائع كمومي يمكنها أن تتذبذب وتهتز بطرق معينة. في حين يحاكي آخرون البنية التي تعمل بصورة جيدة جدا بالنسبة إلى الإلكترونات في مداراتها، بأنها طبقات ****ls من المدارات المنفصلة التي تملؤها النيوكليونات تباعا ابتداء من أخفض مستوى طاقة.
تميل النماذج المختلفة لأن تعمل بصورة أفضل بالنسبة إلى طوائف معينة من النوى، وذلك تبعا لعدد النيوكليونات الكلي في النواة وتبعا لمدى امتلاء الطبقات الخارجية بالپروتونات والنيوترونات. ولما كانت الپروتونات والنيوترونات تميل إلى تشكيل أزواج فإن سلوك نواة ما يتوقف بصورة حاسمة على كونها تحوي عددا زوجيا أو فرديا من الپروتونات والنيوترونات [انظر الشكل في الصفحة 70]. وهكذا فإن النوى المسماة زوجية ـ زوجية هي الأبسط، تليها في ذلك الزوجية ـ فردية، ثم الفردية ـ فردية وهي أصعبها كلها.
إن التناظر أداة مهمة وفعالة لتطوير مثل هذه النماذج واستخدامها. ومبادئ التناظر تظهر في الفيزياء كلها، وغالبا بطرق لا يتوقعها المرء. فقانون انحفاظ الطاقة، على سبيل المثال، يمكن أن يُستخرج من مبدأ تناظر يشمل جريان الزمن. وتتمايز طبقات المدارات، للإلكترونات والنيوكليونات على السواء، بخواص تتعلق بالتناظرات، مثل الاندفاع (الزخم) الزاوي angular momentum للجسيمات في المدار، وفيما إذا كان المدار لا يتغير بالانعكاس (وهي خاصية تسمى النّديّة parity). كما أن المعادلات التي تحكم فيزياء الجسيمات الأولية تستند من حيث الأساس إلى التناظرات.
إن إحدى السمات الأساسية للتناظر في الفيزياء الكمومية هي تقسيم الجسيمات إلى بوزونات وفرميونات، ولهذه وتلك حالات كمومية متباينة بصورة أساسية وسلوك مختلف اختلافا كاملا. فالفرميونات تخضع لمبدأ الاستبعاد لپاولي Pauli exclusion principle الذي يقضي بأنه لا يمكن لفرميونين من النوع نفسه أن يكونا في الحالة الكمومية ذاتها في وقت واحد. في حين تفضل البوزونات، على العكس من ذلك، أن تتجمع في حالات متماثلة، وهذا ما تشهد عليه ذرات الهليوم 4 في مائع فائق.
وذرة الهليوم 4 مثال لجسيم مركّب هو بوزون. فهي مؤلفة من ستة فرميونات (پروتونين ونيوترونين وإلكترونين). والنيوكليونات نفسها هي في الحقيقة فرميونات مركبة يحتوي الواحد منها على ثلاثة فرميونات أساسية (كواركات). والقاعدة العامة تقول إن عددا زوجيا من الفرميونات يشكل بوزونا مركبا، في حين يشكل عدد فردي منها فرميونا مركبا. وتقابل التناظرات العادية بالضرورة البوزونات بالبوزونات والفرميونات بالفرميونات. أما التناظر الفائق فإنه يفتح ـ بمقابلته البوزونات بالفرميونات ـ طائفة جديدة من العلاقات المحتملة بين الجسيمات. وكذلك فإن الرياضيات الجديدة لهذه العلاقات تؤدي إلى قوة حاسوبية أعظم لتحليل سلوك منظومة ما أو التنبؤ به.
تناظرات نووية(****)
يؤدي التناظر دورا أساسيا فيما يسمى نموذج البوزونات المتآثرة interacting boson model للنوى، الذي ابتكره في منتصف التسعينات <A. أريما> [من جامعة طوكيو] و<F. إياشيلُّو> [الذي كان حينذاك في جامعة خرونينگن بهولندا] [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. يحلل هذا النموذج النوى كما لو أنها مؤلفة من أزواج پروتونية وأخرى نيوترونية؛ فالأزواج هي البوزونات في هذا النموذج. وقد وجد أريما وإياشيلو ثلاثة أنواع خاصة من النوى الزوجية-زوجية في نموذجهما؛ يرتبط كل منها بتناظر خاص. وكان اثنان من هذه الأصناف وتناظراتهما معروفين من قبل من نموذج القطرة السائلة السابق، وكانا مدروسين تجريبيا لكن الثالث اشتمل على تناظر لم يُشاهد قط في النوى. وفي أواخر السبعينات اكتشف كل من <F .R. كاستن> و<A .J. سيزڤسكي> [كانا حينذاك في مختبر بروكهاڤن الوطني] أن نوى الپلاتين تبدي التناظر الجديد، مما أدى إلى دعم نموذج البوزونات المتآثرة دعما كبيرا. وسرعان ما أصبح واضحا أن نموذج البوزونات المتآثرة يمثل تقريبا جيدا للعديد من النوى.
نماذج نووية(*****)
إن النوى (a)، وهي أكبر كثافة من الماء بمئة ترليون (1014) مرة، هي رزم متراصة جدا من الپروتونات (اللون البرتقالي) ومن النيوترونات (اللون الأزرق). وبسبب قوة وشدة تعقيد القوة النووية الشديدة التي تربط النيوكليونات بعضها ببعض، لجأ الفيزيائيون خلال حقبة طويلة من الزمن إلى نماذج تقريبية لوصف الحالات الكمومية للنوى.
يشبه النموذج الطبقي ****l model (b) إلى حد بعيد وصف الإلكترونات في الذرات. فهو ينظر إلى النواة الذرية كما لو أنها جملة من النيوترونات والپروتونات (النيوكليونات) المتآثرة تآثرا ضعيفا والمحصورة ضمن بئر طاقة كامنة. بإمكان النيوكليونات أن تحتل مدارات مختلفة مشابهة لمدارات الإلكترونات في الذرة، إنما توجد هنا مجموعتان منها ـ إحداهما هي الپروتونات والأخرى هي النيوترونات. والنيوكليونات، شأنها شأن الإلكترونات، هي جسيمات فرميونية ينطبق عليها مبدأ الاستبعاد، فلا يستطيع اثنان منها أن يشغلا المدار ذاته. وتشكل المدارات طبقات، أو مجموعات من المدارات ذات طاقات متماثلة تفصل بينها ثغرات طاقية. وتبدي النوى ذات الطبقة المغلقة (الممتلئة) من الپروتونات أو الطبقة المغلقة من النيوترونات (وبصورة خاصة النوى ذات الطبقتين المغلقتين) استقرارا كبيرا، مثلها في ذلك مثل ذرات الغازات النبيلة ذات الطبقات الإلكترونية الممتلئة.
وبالنسبة إلى النوى ذات العدد الإضافي الصغير من النيوكليونات خارج الطبقة المغلقة (c)، يمكن للمرء أن يهمل إلى حد ما النيوكليونات في الطبقة المغلقة ويركز على العدد القليل الموجود خارج هذه الطبقة. ولكن يجب أخذ التآثرات بين هذه النيوكليونات الخارجية بعين الاعتبار كذلك. وفي النوى الثقيلة، التي لها العديد من النيوكليونات خارج آخر طبقة مغلقة، تصبح الحسابات معقدة لدرجة مستحيلة حتى باستخدام الحواسيب الحديثة.
أما النموذج الجمعي collective، أو نموذج القطرة السائلة (d) فيصلح بالنسبة إلى النوى الثقيلة التي تتألف من نحو 100 نيوكليون أو أكثر. ولا يهتم النموذج بكل نيوكليون على حدة، وإنما ينظر إلى النواة وكأنها قطيرة من سائل كمومي يمكن أن تخضع لمختلف الاهتزازات والدورانات. وتكون خواص النواة محتواة في مظاهر مثل الكثافة والتوتر السطحي للسائل والشحنة الكهربائية المتوزعة فيها. وقد نجح هذا النموذج نجاحا باهرا في وصف طوائف معينة من النوى البعيدة عن نوى الطبقات المغلقة، أي تلك النوى ذات العدد الكبير من النيوكليونات في طبقتها الخارجية.
تأخذ الإثارات في الفيزياء الكمومية، مثل اهتزازات قطيرة، الكثير من مظاهر خواص الجسيمات، ويمكن إذا أن تسلك سلوك الفرميونات أو البوزونات. وحين يطبق النموذج الجمعي على أبسط المنظومات ـ النوى الزوجية-زوجية، التي فيها عدد زوجي من كل من الپروتونات والنيوترونات ـ فإن المكونات الأساسية للنموذج، أي الاهتزازات السطحية، تسلك سلوك البوزونات. أما حين يكون عدد النيوكليونات فرديا فيشغل النيوكليون الأخير مدارا يعتمد على حالة القطيرة وتكون الإثارات فرميونات.
يربط نموذج البوزونات المتآثرة (e) بين نموذج الطبقات ونموذج القطرة السائلة، وذلك بفضل استخدام خاصة التزاوج للقوة النووية [انظر الإطار في الصفحة 70]. ويحلل هذا النموذج النوى الثقيلة الزوجية-زوجية على أنها مجموعات من أزواج النيوكليونات خارج طبقة مغلقة، مثل وصف أناس في حلبة الرقص على أنهم أزواج يتنقلون (بدلا من كونهم أفرادا). وحين يتزاوج نيوكليونان يصبحان مثل بوزون. لكنّ هناك أنواعا مختلفة من الأزواج. ففي التشبيه بالرقص نقول إن هناك أزواجا ترقص رقصة ڤالس بطيئة، في حين تندفع أزواج أخرى في رقصة پولكا سريعة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002018.jpg
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N11-12_H09_002019.jpg
إن التناظرات التي تنبأ بها نموذج البوزونات المتآثرة هي من نوع خاص يعرف بالتناظرات الديناميكية. ويمكن تخيل التناظرات العادية (اللاديناميكية) على أنها تشبه كثيرا التناظرات المألوفة التي نراها حولنا. فلجسم ما تناظر مرآتي، مثلا، إذا ظهر بشكله نفسه حين ينظر إليه في مرآة. فيدك اليسرى هي تقريبا الخيال المرآتي ليدك اليمنى. أما التناظرات الديناميكية فهي، بخلاف ذلك، لا تتعلق بالأجسام ذاتها وإنما بالمعادلات التي تحكم ديناميك الأجسام. ولسوء حظ التجريبيين ليس هناك سوى طائفة محدودة من النوى تستطيع أن تبدي تناظرات ديناميكية.
من الطبيعي أن يحقق نموذج البوزونات المتآثرة أفضل نجاحاته بالنسبة إلى النوى الزوجية-زوجية. أما النوى الفردية-زوجية فلديها دائما نيوكليون منفرد، مثله مثل شخص زائد يتجول وسط أزواج من الراقصين. توصف نواة كهذه في النموذج بواسطة n بوزون، وفرميون واحد هو النيوكليون المنفرد. ويمكن أن تستخدم التناظرات الديناميكية، في بعض الحالات، لتحليل النوى الفردية-زوجية، لكن العملية أكثر تعقيدا بكثير منها في الحالة الزوجية-زوجية. وفي عام 1980 اقترح إياشيلو، وكان قد انتقل وقتهاإلى جامعة ييل، توسيعا جريئا لنموذج البوزونات المتآثرة لوصف النوى الفردية-زوجية بطريقة أكثر إتقانا.