محمد عريف
07-06-2010, 09:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد سبتمبر - اكتوبر 2002
فيزياء نانوية
ثمة مجال واسع حقًا(*)
ثمة مجال واسع للابتكارات العملية عند الأبعاد النانوية(1)، إلا أنه لا بد للعلماء
أن يدركوا بدايةً الحقائق الفيزيائية الفريدة التي تحكم المادة عند تلك الأبعاد.
<M. روكس>
في الشهر12/1959 ألقى <R. فاينمان> الذي حاز لاحقا جائزة نوبل، محاضرة ثاقبة الخيال، يتكرر الاستشهاد بها، بعنوان: «ثمة مجال واسع في القاع (الأسفل)(2). وقد ألقيت هذه المحاضرة في اجتماع الجمعية الأمريكية للفيزيائيين بمعهد كاليفورنيا للتقانة CIT، وهو المعهد الذي كان موطن فاينمان الفكري حينذاك والذي هو موطني الفكري حاليا. ومثلت كلمات فاينمان الـ 7000 لحظة حاسمة في عهد التقانة النانوية nanotechnology، قبل أن يظهر أي شيء «نانوي» في الأفق بزمن طويل، على الرغم من أنه لم يقصد ذلك منها.
لقد قال حينذاك ما يلي: «إن ما أريد أن أتحدث عنه هو مسألة منابلة الأشياء عند الأبعاد الصغيرة والتحكم فيها. والأمر الذي أوضحته هو أن هناك متسعا لتصغير الأشياء بطريقة عملية. وأودّ أن أبرهن الآن على أن ثمة مجالا واسعا لتحقيق ذلك. إنني لن أخوض الآن في كيفية القيام بذلك، وإنما فقط في ما هو ممكن من حيث المبدأ... فنحن ببساطة لا نفعل ذلك لأننا لم نجد بعد الوسائل اللازمة لذلك.»
إن اتساع رؤية فاينمان مذهل حقا. ففي تلك المحاضرة منذ 43 عاما توقّع فاينمان طيفا واسعا من الحقول العلمية والتقنية هي الآن في متناول أيدينا، من بينها توليد حزم الإلكترونات وحزم الأيونات، والتقيُّل بالحزم الجزيئية molecular-beam epitaxy، وليثوغرافيا الرسم النانوي nanoimprint lithography، ومجهريات الإسقاط الإلكتروني projection electron microscopy، ومنابلة الذرات واحدةً واحدة، وإلكترونيات المفعول الكمومي electronics quantum-effect، وإلكترونيات السپيناتspin electronics التي تسمى اختصارا سپنترونيكس spintronics، إضافة إلى النظم الكهرميكانيكية الميكروية (الصغرية) microelectromechanical systems MEMS . كذلك أبرزت محاضرة فاينمان ماسُمّي «السّحر» الذي يسبغه على كل ما اتجه إليه فكره الفذ. وفي الحقيقة فقد ألهمت محاضرته تلك أبحاثي في مجال الفيزياء عند الأبعاد النانوية على مدى عقدين من الزمن.
وثمة حاليا اندفاع محموم نحو التقانة النانوية، وفي الحقيقة فإن جميع المؤسسات الكبرى تقريبا، التي تمول البحوث في مجالي العلوم والهندسة، أعلنت اقتحامها مجال التقانة النانوية. ويندفع عدد لا حصر له من الباحثين والمؤسسات لتحقيق تقدم في هذا المضمار. بيد أن من الإنصاف أن أقول إن كثيرا مما يتضمن كلمة «نانو» المبجلة لا يرقى تماما إلى غاية فاينمان.
لقد شرعنا توّا باتخاذ الخطوات الأولى نحو تصوراته العميقة التي تتناول تجميع آلات ودارات معقدة ذرة تلو ذرة. وما يمكن تحقيقه حتى الآن في هذا المضمار بدائي جدا. وبالتأكيد فإننا مازلنا بعيدين عن إنتاج نظم نانوية على نطاق تجاري واسع، بأعداد كبيرة، أي إنتاج نبائط نانوية nanodevices متعددة المكونات ومتكاملة بحيث تمتلك تعقيد الشيپات الميكروية microchips الحديثة وتغطي مجالات وظائفها. ومازالت لدينا قضية علمية أساسية في هذا الشأن، إذ يتضح لنا بصورة متزايدة أننا مازلنا على عتبة اكتساب المعرفة التفصيلية التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية. ويتعلق هذا العلم الجديد بخصائص تجمعات الذرات والجزيئات وسلوكها عند أبعاد ليست من الكبر، بحيث يمكن النظر إليها على أنها ماكروسكوبية (عيانية، جهرية) macroscopic، لكنها أكبر كثيرا مما يمكن اعتباره ميكرويا microscopic. إنه علم الأبعاد الوسطية mesoscale، وقبل أن نفهم هذا العلم سيكون من الصعب صنع نبائط عملية.
يقوم العلماء والمهندسون حاليا بتصنيع بنى نانوية بأبعاد تبلغ مئة أو بضع مئات من النانومترات - وهي أبعاد صغيرة حقا، ولكنها أكبر بكثير من أبعاد الجزيئات البسيطة. إن تحري سلوك المادة عند هذه الأبعاد هو أمر في غاية الصعوبة، فالمادة عندها تحتوي على عدد كبير من الذرات بحيث لا يمكن فهم سلوكها بواسطة التطبيق المباشر للميكانيك الكمومي (وذلك على الرغم من صلاحية القوانين الأساسية). ومع ذلك فإن هذه النظم ليست من الكبر بحيث تتحرر تماما من الآثار الكمومية، فهي إذًا لا تخضع ببساطة للفيزياء التقليدية التي تحكم العالَم الماكروي macroworld، بل تشغل مجالا يقع بين المجالين هو العالم الأوسط mesoworld حيث تظهر خصائص غير متوقعة للنظم الجماعية.
يتناول الباحثون هذه الحدود الانتقالية باستخدام طرائق تصنيع متممة نزولية (من الأعلى إلى الأدنى)، وصعودية (من الأدنى إلى الأعلى). إن التقدم في تقنيات التصنيع النانوي nanofabrication techniques النزولية، كما في ليثوغرافيا الحزم الإلكترونية (التي تعتمدها مجموعتي في أبحاثها اعتمادا مكثفا) يؤدي إلى دقة تكاد تبلغ دقة الأبعاد الذرية إلاّ أن ضمان النجاح لدى الانتقال إلى أبعاد تصل إلى رقم نانومتري واحد، ناهيك عن تكرارية الإنتاج، هو أمر في غاية الصعوبة. وعوضاً عن ذلك يستخدم العلماء التقنيات الصعودية لتجميع الذرات تجميعا ذاتيا self-assembly. بيد أن التوصل إلى التجميع الذاتي المبرمج مسبقا لنظم كبيرة بالقدر الذي نريد، وبتعقيد يمكن مقارنته بما يجري كل يوم في مجال الإلكترونيات الميكروية وفي النظم MEMS وبما تصنعه أمنا الطبيعة (طبعا) ما زال أمرا بعيد المنال. ويبدو أن المقاربة النزولية ستبقى على الأرجح الطريقة المفضّلة لبناء نبائط معقدة جدا وذلك حتى أمد طويل [للمزيد انظر: «فن التصغير في صنع الأشياء»، في الصفحة 20].
إن الصعوبة التي تواجهنا عند التعامل من الأعلى أو من الأسفل مع الأبعاد الوسطية تنم عن تحد أساسي في الفيزياء. ويبدو أن فحوى كلام فاينمان عن أن «ثمة متسعا» أصبح يؤخذ مؤخراً على أنه رخصة للتقانة النانوية لتمضي حيث تشاء. إلاّ أن فاينمان لم يؤكد قط أن «القوانين تتوقف عن العمل وأن الأمور تجري بلا ضوابط» عند الأبعاد النانوية. فقد حذر مثلا من أن مجرد القيام بمحاولة «ترتيب الذرات واحدة تلو الأخرى على النحو الذي نريد» يخضع لمبادئ أساسية: «إذ لا يمكنك أن تضعها، مثلاً، بحيث تكون غير مستقرة كيميائيا»، ومن ثم، فإن بإمكان مجاهر مسابير المسح scanning probe microscopes الحالية تحريك الذرات من موضع لآخر على سطح مهيَّأ، بيد أن هذه الإمكانية لا تمنحها فورا المقدرة على بناء تجمعات جزيئية معقدة حسب الرغبة. إن ما أمكن تحقيقه حتى الآن، مع أنه مثير للإعجاب، ما زال محدودا تماما. ولسوف نطوِّر في نهاية المطاف إجراءات عملياتية تساعدنا على التوصل إلى تشكيل روابط ذرية منفردة في ظل ظروف أكثر عمومية. إلاّ أننا لدى محاولتنا تجميع شبكات معقدة من هذه الروابط، فمن المؤكد أن بعضها سيؤثر في بعضها الآخر بطرائق ما زلنا لا ندركها، ومن ثم نعجز عن التحكم فيها.
لقد كانت رؤية فاينمان الأصلية رؤية قصد منها الإيحاء. ولو كان يشهد ما يحدث الآن لأزعجه أن الناس ينظرون إلى تنبؤاته على أنها ضرب من الحقائق التي لا ريب فيها. فقد قدم تأملاته بطريقته المعهودة التي تجمع بين الدعابة والتبصّر العميق. وما يؤسفنا أن يكون المجال الذي أصبح معروفا باسم التقانة النانوية لم يكن إلاّ واحدا من المجالات العديدة التي أثارت اهتمامه. فهو لم يتابع ـ في واقع الأمر ـ العمل في هذا المجال باستثناء أنه أعاد إلقاء محاضرته في مختبر الدفع النفاث في عام 1983.
قوانين جديدة تسود(**)
في عام 1959، بل وحتى في عام 1983، كانت الصورة الفيزيائية الكاملة للأبعاد النانوية أبعد ما تكون عن الوضوح. وما يرضي الباحثين أنها - على وجه العموم ـ مازالت كذلك حتى يومنا هذا، ومازال جزء لا بأس به من ساحتها الغريبة ينتظر الاكتشاف. وكلما خضنا غمارها اكتشفنا ظواهر متنوعة كثيرة لا بد لنا من فهمها قبل أن تغدو التقانة النانوية العملية تقانة ممكنة. ولقد تكشّفت لنا خلال العقدين المنصرمين مبادئ فيزيائية أساسية تحكم السلوك عند الأبعاد الوسطية. لننظر في ثلاثة أمثلة مهمة:
في خريف عام 1987 كان طالب الدراسات العليا <J .B. ڤان ويس> [من جامعة دلفت للتقانة] و <H. ڤان هوتن> [من مختبرات أبحاث الشركة فيليپس (وكلاهما في هولندا)] وزملاؤهما يدرسون تدفق التيار الكهربائي عبر ما يعرف الآن باسم التماسات النقطية الكمومية quantum-point contacts. وهي عبارة عن ممرات ضيقة لنقل التيار داخل مادة شبه موصلة حيث تجبر الإلكترونات على التدفق عبرها [انظر الشكل التوضيحي في الصفحة 34]. وفي مساء أحد الأيام كان مساعد کان ويس الطالب الجامعي <L. كُووِنهوڤن> يقيس الموصلية(3) عبر التضيُّق لدى تغيير عرضه تغييرا مطردا، ولم يكن فريق البحث يتوقع أن يرى سوى تأثيرات دقيقة في الموصلية على خلفية سلسلة ما كانت تثير الاهتمام. إلاّ أنه بدلا من ذلك ظهر شكل ملحوظ جدا يشبه الدرج أصبح الآن مميزا. وقد بيَّن التحليل اللاحق في تلك الليلة أن الدرجات plateaus كانت تحدث عند فواصل منتظمة ودقيقة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002538.jpg
عن طريق النبائط النانوية الحديثة، كهذه المرنانات الكهرميكانيكية النانوية، يتمكن العلماء من اكتشاف قوانين الفيزياء التي تحكم الخصائص الفريدة للمادة عند الأبعاد الوسطية.
يتضح لنا يوما بعد يوم أننا مازلنا في بداية الطريق لاكتساب
المعرفة المعمقة التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية.
ورصد كل من <D. وارام> و <M. پِپَر> [من جامعة كامبردج] نتائج مماثلة. وقد مثل هذان الاكتشافان أول الدلائل القوية على تكميم quantization الموصلية الكهربائية، وهذه صفة أساسية للموصلات الصغيرة، تظهر حين تبقى الخواص الموجية للإلكترونات مترابطة من «المنبع» source وحتى «المصرف» drain ـ أي بين المدخل والمخرج ـ في نبيطة نانوإلكترونية nanoelectronic device.
لقد توقع فاينمان ـ ولو جزئيا ـ سلوكا غريبا كهذا عندما قال «لقد فكرت في بعض المسائل المتعلقة ببناء دارات كهربائية في أبعاد صغيرة، وإن مشكلة المقاومة مشكلة مهمة...». بيد أن الاكتشافات التجريبية أشارت إلى أمر هو في الحقيقة جديد وأساسي: فالميكانيك الكمومي يستطيع أن يحكم سلوك النبائط الكهربائية الصغيرة بصورة كاملة.
لقد توقع <R. لانداور> [وهو نظري يعمل في الشركة IBM، قدم أفكارا رائدة في مجال الإلكترونيات النانوية وفي فيزياء الحوسبة]، تجليات مباشرة للميكانيك الكمومي في نبائط كهذه منذ عام 1957. إلاّ أن التحكم في المواد والتصنيع النانوي لم يبدأ بتوفير إمكانية النفاذ إلى هذا النظام مختبريا إلاّ في أواسط الثمانينات من القرن العشرين. ويذكر أن اكتشافات عام 1987 آذنت ببلوغ الأوج في مضمار «الرؤية الوسطية» mesoscopia.
ثمة مثال مهم آخر يرتبط بقوانين الأبعاد الوسطية المكتشفة حديثا، وهو اكتشاف قاد إلى ولادة التقانة النانوية يعود الفضل فيه إلى <D. ليخاريڤ> في عام 1985. وليخاريڤ أستاذ فيزياء يعمل في جامعة موسكو الحكومية، ومعه الزميل ما بعد الدكتوراه <A. زورين> والطالب الجامعي <D. آڤرين>. فقد توقع هؤلاء أن يتمكن العلماء من التحكم في حركة إلكترون مفرد من حيث الوصل on أو الفصل off عبر ما يسمى بجزيرة كولونيةcoulomb island ـ وهي موصل يرتبط ارتباطا ضعيفا بسائر الدارة النانوية. ويمكن لهذا الاكتشاف أن يكون أساسا لنبيطة من نوع جديد تماما تدعى ترانزستور الإلكترون المفرد. إن الآثار الفيزيائية الناشئة عن وضع إلكترون مفرد في جزيرة كولونية تصبح أكثر متانة عندما نسعى إلى تصغير أبعاد الجزيرة؛ ففي النبائط الصغيرة جداً يمكن لتأثيرات الشحن بإلكترون مفرد أن تسيطر على تدفق التيار سيطرة تامة.
تكتسب اعتبارات كهذه أهمية متزايدة من الناحية التقانية. وتشير تنبؤات الشركة International Technology Roadmap for Semiconductors التي أعدها مفكرون ذوو باع طويل في الصناعة، إلى أنه بحلول عام 2014 سيتضاءل حجم الترانزستورات في الشيپات الحاسوبية إلى 20 نانومترا. وعند هذا المقياس ستتضمن كل حادثة وصل أو فصل ما يقارب ثمانية إلكترونات فقط. وستصبح التصاميم التي تعتمد على الشحن بإلكترون مفرد حاسمة.
إن التقدم الذي أحرزته الصناعة النانوية بحلول عام 1987 لكل من <A .T. فلتون> و <J .G. دولان> [من مختبرات بِل] أتاح بناء أول ترانزستور من صنف الإلكترون المفرد [انظر الشكل في الصفحة 36]. ومنذ ذلك الحين، شوهدت حادثة الشحن بإلكترون مفرد التي رصداها والتي يطلق عليها الآن اسم الحصار الكولوني coulomb blockade، في تشكيلة واسعة من البنى. وفي الوقت الذي تغدو فيه النبائط التجريبية أصغر فأصغر فإن ظاهرة الحصار الكولوني تصبح هي القاعدة بدلا من أن تكون الاستثناء في النبائط النانوية ذات الترابط الضعيف. ويصح هذا بنوع خاص في التجارب التي تمرر فيها التيارات الكهربائية في الجزيئات المنفردة، إذ يمكن لهذه الجزيئات أن تسلك سلوك جزر كولونية بفضل ارتباطها الضعيف بالإلكترودات (المساري) electrodes التي تصلها بالعالم الماكروي. إن تسخير هذا الأثر للحصول على ارتباط متين قابل للتكرار مع جزيئات صغيرة (وبطرائق يمكن تحقيقها هندسيا) هو من بين التحديات المهمة فعلا في ميدان الإلكترونيات الجزيئية الجديد.
في هذا السياق، كنت في عام 1990 أعمل في مختبر بحوث بِل للاتصالات، وكنت منهمكا بدراسة انتقال الإلكترون في أشباه الموصلات الوسطية، وكنت أشارك في مشروع جانبي برفقة زميليَّ <L. شياڤون> و<A. شِرر> يهدف إلى تطوير تقنيات كنا نأمل أنها ستسلط ضوءا على الطبيعة الكمومية للتدفق الحراري. ولقد تطلَّب العمل استعمال بنى نانوية أكثر تعقيدا من النبائط المستوية المستخدمة لتحري الإلكترونيات الوسطية. وقد تطلَّب الأمر منّا تأمين نبائط معلَّقة تعليقا حرّا، وهي بنى تتميز ببروز كامل ثلاثي الأبعاد. وقد صَحَّت عليّ حينذاك مقولة: «الجهل نعمة»، إذ لم أكن أدرك قط أن التجارب ستكون على تلك الدرجة من التعقيد بحيث تستغرق نحو عقد من الزمن لتحقيقها.
نظرة إجمالية إلى الفيزياء النانوية(***)
• توجد نبائط التقانة النانوية، التي هي أصغر من الأجسام الماكروية وأكبر من الجزيئات، في عالَم فريد هو عالم الأبعاد الوسطية، حيث يحكم خصائصَ المادة مزيجٌ معقد وغني من قوانين الفيزياء التقليدية والميكانيك الكمومي.
• لن يتمكن المهندسون من صنع نبائط نانوية مثلى، أو يمكن الاعتماد عليها، ما لم يدركوا المبادئ الفيزيائية التي تسود الأبعاد الوسطية.
• يكتشف العلماء قوانين الأبعاد الوسطية عن طريق صوغ نظم غير عادية معقدة من الذرات، وقياس سلوكها المثير.
• إذا فهمنا الأساس العلمي للتقانة النانوية أمكننا تحقيق رؤية ريتشارد فاينمان العميقة، ألا وهي أن الطبيعة تركت لنا مجالا واسعا في العالم النانوي لابتكار نبائط عملية يمكن تسخيرها لخدمة البشرية.
أما أولى الخطوات الواسعة فقد تحققت بعد أن انتقلتُ إلى المعهد كالْتِك Caltech عام 1992 وذلك بالتعاون مع <J. وورلوك> [من جامعة يوتاه] وزميلين باحثين لما بعد الدكتوراه في مجموعتي. فقد طوَّر <T. تيگ> الطرائق والنبائط التي مكنت من إجراء أول قياسات مباشرة لتدفق الحرارة في البنى النانوية. وقام <K. شواب> بعد ذلك بمراجعة تصميم البنى النانوية المعلَّقة، ووضَع تجهيزات بالغة الحساسية فائقة الموصلية لسبر التغيرات الطارئة فيها عند درجات الحرارة المنخفضة جدا، حيث يمكن ملاحظة الآثار بوضوح تام.
وفي أواخر صيف عام 1999 بدأ <شواب> برصد تدفق الحرارة عبر جسور نانوية من نتريد السيليكون [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وقد برز الحدّ الأساسي للتدفق الحراري في البنى الوسطية حتى في البيانات الأولية هذه. ويُعرف هذا الحدّ اليوم باسم «كموم (كم) الموصلية الحرارية» thermal conductance quantum. وهو يحدّد المعدل الأعظمي الذي يمكن أن تحمله اهتزازة ميكانيكية موجيّة منفردة تنتشر من مدخل نبيطة نانوية إلى مخرجها. وهو شبيه بـ «كموم» الموصلية الكهربائية إلاّ أنه يحكم نقل الحرارة.
يعد هذا الكموم معاملا مهما في الإلكترونيات النانوية، فهو يمثل الحدَّ النهائي لمسألة تبديد الطاقة power-dissipation problem. وباختصار يمكننا القول إن جميع النبائط «الفعالة» تتطلب بعض الطاقة حتى تعمل. ولكي تعمل بصورة مستقرة دون ارتفاع مفرط في درجة حرارتها، لا بد من ابتكار تصميم يسمح بانتزاع الحرارة التي تبددها. وفيما يحاول المهندسون زيادة كثافة الترانزستورات ومعدلات تواتر ساعات المعالجات الميكروية، تتزايد بصورة هائلة مشكلة الحفاظ على الشيپات الميكروية باردة لتجنّب انهيار عمل المنظومة بأكملها، ولسوف تتفاقم هذه المشكلة بالانتقال إلى التقانة النانوية.
عندما نظر فاينمان في أمر هذا التعقيد قال: «لنترك المحامل bearings تنضب؛ إنها لن تسخن لأن الحرارة تتسرب بيسر وسرعة من نبيطة صغيرة كهذه». بيد أن تجاربنا تشير إلى أن الطبيعة هي أكثر تقييدا من ذلك. فكموم (كم) الموصلية الحرارية يمكن أن يضع حدودا لمدى فعالية تبديد الحرارة من نبيطة صغيرة جدا. ولا يصح تصوُّر فاينمان إلاّ إذا صمّم المهندس النانوي بنية آخذا هذه الحدود بعين الاعتبار.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002539.jpg
مكّنت نبيطةُ الجسر النانوني الفيزيائيين في المعهد كالتك من رصد تكميم الموصلية الحرارية ـ الأمر الذي يضع حدا أساسيا لتدفق الحرارة عبر الأجسام الصغيرة. إن الثقوب الأربعة [السوداء] المحفورة في غشاء من نتريد السيليكون تحدد نطاق مستودع حراري معزول [المربع المركزي الأخضر] وهو معلق بأربعة جسور ضيقة. ويستخدم محوال من الذهب [اللون الأصفر] لتسخين المستودع كهربائيا، في حين يستخدم محوال آخر لقياس درجة حرارته. وتَربط أغشية رقيقة من مواد فائقة الموصلية [اللون الأزرق] تعلو الجسور المحوالات كهربائيا بتجهيزات بعيدة عن الشيپة لكنها لا تحمل أية حرارة. وهكذا فالطريق الوحيد لتبريد المستودع الحراري هو عبر جسور نتريد السيليكون، وهي من الضيق بحيث لا تمرر سوى الموجات الحرارية الأخفض طاقة.
من هذه الأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا يمكن الوصول إلى نتيجة واحدة فقط هي أننا بدأنا توّا بكشف النقاب عن الطرائق المعقّدة المختلفة اختلافا رائعا والتي تعمل بموجبها المنظومات النانوية. فاكتشاف كموم الموصلية الكهربائية وكموم الموصلية الحرارية، وكذلك رصد الحصار الكولوني هي بمثابة انقطاعاتdiscontinuities حقيقية - تغيرات مفاجئة في فهمنا لسلوك المادة. وليس من عادتنا اليوم أن نسمّي اكتشافاتنا «قوانين». ومع هذا فلا يساورني أدنى شك في أن تكميم الموصلية الحرارية والموصلية الكهربائية وظواهر الشحن بإلكترون مفرد هي بالفعل من القواعد العامة للتصميم النانوي؛ وهي بمثابة قوانين جديدة للعالم النانوي؛ ولا تتعارض مع تصورات فاينمان الأصلية بل تعزّزها وتسلط الضوء عليها. ويبدو أنه تنبأ حقا بظهورها حين قال: «لدينا في المستوي الذري أصناف جديدة من القوى وأصناف جديدة من الإمكانات وأصناف جديدة من الآثار. وستكون مسائل تصنيع المواد وإعادة إنتاجها مختلفة اختلافا كاملا».
وسنواجه مزيدا من مثل هذه الانقطاعات في الطريق إلى التقانة النانوية الحقيقية. وستحدث هذه المفاجآت السارة بتزامن مباشر مع تقدم إمكاناتنا لرصد البنى النانوية وسبرها والتحكم فيها. لذا فإن من الحكمة أن نكون متواضعين وحذرين فيما يتعلق بالتنبؤ في مجال التقانة النانوية.
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد سبتمبر - اكتوبر 2002
فيزياء نانوية
ثمة مجال واسع حقًا(*)
ثمة مجال واسع للابتكارات العملية عند الأبعاد النانوية(1)، إلا أنه لا بد للعلماء
أن يدركوا بدايةً الحقائق الفيزيائية الفريدة التي تحكم المادة عند تلك الأبعاد.
<M. روكس>
في الشهر12/1959 ألقى <R. فاينمان> الذي حاز لاحقا جائزة نوبل، محاضرة ثاقبة الخيال، يتكرر الاستشهاد بها، بعنوان: «ثمة مجال واسع في القاع (الأسفل)(2). وقد ألقيت هذه المحاضرة في اجتماع الجمعية الأمريكية للفيزيائيين بمعهد كاليفورنيا للتقانة CIT، وهو المعهد الذي كان موطن فاينمان الفكري حينذاك والذي هو موطني الفكري حاليا. ومثلت كلمات فاينمان الـ 7000 لحظة حاسمة في عهد التقانة النانوية nanotechnology، قبل أن يظهر أي شيء «نانوي» في الأفق بزمن طويل، على الرغم من أنه لم يقصد ذلك منها.
لقد قال حينذاك ما يلي: «إن ما أريد أن أتحدث عنه هو مسألة منابلة الأشياء عند الأبعاد الصغيرة والتحكم فيها. والأمر الذي أوضحته هو أن هناك متسعا لتصغير الأشياء بطريقة عملية. وأودّ أن أبرهن الآن على أن ثمة مجالا واسعا لتحقيق ذلك. إنني لن أخوض الآن في كيفية القيام بذلك، وإنما فقط في ما هو ممكن من حيث المبدأ... فنحن ببساطة لا نفعل ذلك لأننا لم نجد بعد الوسائل اللازمة لذلك.»
إن اتساع رؤية فاينمان مذهل حقا. ففي تلك المحاضرة منذ 43 عاما توقّع فاينمان طيفا واسعا من الحقول العلمية والتقنية هي الآن في متناول أيدينا، من بينها توليد حزم الإلكترونات وحزم الأيونات، والتقيُّل بالحزم الجزيئية molecular-beam epitaxy، وليثوغرافيا الرسم النانوي nanoimprint lithography، ومجهريات الإسقاط الإلكتروني projection electron microscopy، ومنابلة الذرات واحدةً واحدة، وإلكترونيات المفعول الكمومي electronics quantum-effect، وإلكترونيات السپيناتspin electronics التي تسمى اختصارا سپنترونيكس spintronics، إضافة إلى النظم الكهرميكانيكية الميكروية (الصغرية) microelectromechanical systems MEMS . كذلك أبرزت محاضرة فاينمان ماسُمّي «السّحر» الذي يسبغه على كل ما اتجه إليه فكره الفذ. وفي الحقيقة فقد ألهمت محاضرته تلك أبحاثي في مجال الفيزياء عند الأبعاد النانوية على مدى عقدين من الزمن.
وثمة حاليا اندفاع محموم نحو التقانة النانوية، وفي الحقيقة فإن جميع المؤسسات الكبرى تقريبا، التي تمول البحوث في مجالي العلوم والهندسة، أعلنت اقتحامها مجال التقانة النانوية. ويندفع عدد لا حصر له من الباحثين والمؤسسات لتحقيق تقدم في هذا المضمار. بيد أن من الإنصاف أن أقول إن كثيرا مما يتضمن كلمة «نانو» المبجلة لا يرقى تماما إلى غاية فاينمان.
لقد شرعنا توّا باتخاذ الخطوات الأولى نحو تصوراته العميقة التي تتناول تجميع آلات ودارات معقدة ذرة تلو ذرة. وما يمكن تحقيقه حتى الآن في هذا المضمار بدائي جدا. وبالتأكيد فإننا مازلنا بعيدين عن إنتاج نظم نانوية على نطاق تجاري واسع، بأعداد كبيرة، أي إنتاج نبائط نانوية nanodevices متعددة المكونات ومتكاملة بحيث تمتلك تعقيد الشيپات الميكروية microchips الحديثة وتغطي مجالات وظائفها. ومازالت لدينا قضية علمية أساسية في هذا الشأن، إذ يتضح لنا بصورة متزايدة أننا مازلنا على عتبة اكتساب المعرفة التفصيلية التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية. ويتعلق هذا العلم الجديد بخصائص تجمعات الذرات والجزيئات وسلوكها عند أبعاد ليست من الكبر، بحيث يمكن النظر إليها على أنها ماكروسكوبية (عيانية، جهرية) macroscopic، لكنها أكبر كثيرا مما يمكن اعتباره ميكرويا microscopic. إنه علم الأبعاد الوسطية mesoscale، وقبل أن نفهم هذا العلم سيكون من الصعب صنع نبائط عملية.
يقوم العلماء والمهندسون حاليا بتصنيع بنى نانوية بأبعاد تبلغ مئة أو بضع مئات من النانومترات - وهي أبعاد صغيرة حقا، ولكنها أكبر بكثير من أبعاد الجزيئات البسيطة. إن تحري سلوك المادة عند هذه الأبعاد هو أمر في غاية الصعوبة، فالمادة عندها تحتوي على عدد كبير من الذرات بحيث لا يمكن فهم سلوكها بواسطة التطبيق المباشر للميكانيك الكمومي (وذلك على الرغم من صلاحية القوانين الأساسية). ومع ذلك فإن هذه النظم ليست من الكبر بحيث تتحرر تماما من الآثار الكمومية، فهي إذًا لا تخضع ببساطة للفيزياء التقليدية التي تحكم العالَم الماكروي macroworld، بل تشغل مجالا يقع بين المجالين هو العالم الأوسط mesoworld حيث تظهر خصائص غير متوقعة للنظم الجماعية.
يتناول الباحثون هذه الحدود الانتقالية باستخدام طرائق تصنيع متممة نزولية (من الأعلى إلى الأدنى)، وصعودية (من الأدنى إلى الأعلى). إن التقدم في تقنيات التصنيع النانوي nanofabrication techniques النزولية، كما في ليثوغرافيا الحزم الإلكترونية (التي تعتمدها مجموعتي في أبحاثها اعتمادا مكثفا) يؤدي إلى دقة تكاد تبلغ دقة الأبعاد الذرية إلاّ أن ضمان النجاح لدى الانتقال إلى أبعاد تصل إلى رقم نانومتري واحد، ناهيك عن تكرارية الإنتاج، هو أمر في غاية الصعوبة. وعوضاً عن ذلك يستخدم العلماء التقنيات الصعودية لتجميع الذرات تجميعا ذاتيا self-assembly. بيد أن التوصل إلى التجميع الذاتي المبرمج مسبقا لنظم كبيرة بالقدر الذي نريد، وبتعقيد يمكن مقارنته بما يجري كل يوم في مجال الإلكترونيات الميكروية وفي النظم MEMS وبما تصنعه أمنا الطبيعة (طبعا) ما زال أمرا بعيد المنال. ويبدو أن المقاربة النزولية ستبقى على الأرجح الطريقة المفضّلة لبناء نبائط معقدة جدا وذلك حتى أمد طويل [للمزيد انظر: «فن التصغير في صنع الأشياء»، في الصفحة 20].
إن الصعوبة التي تواجهنا عند التعامل من الأعلى أو من الأسفل مع الأبعاد الوسطية تنم عن تحد أساسي في الفيزياء. ويبدو أن فحوى كلام فاينمان عن أن «ثمة متسعا» أصبح يؤخذ مؤخراً على أنه رخصة للتقانة النانوية لتمضي حيث تشاء. إلاّ أن فاينمان لم يؤكد قط أن «القوانين تتوقف عن العمل وأن الأمور تجري بلا ضوابط» عند الأبعاد النانوية. فقد حذر مثلا من أن مجرد القيام بمحاولة «ترتيب الذرات واحدة تلو الأخرى على النحو الذي نريد» يخضع لمبادئ أساسية: «إذ لا يمكنك أن تضعها، مثلاً، بحيث تكون غير مستقرة كيميائيا»، ومن ثم، فإن بإمكان مجاهر مسابير المسح scanning probe microscopes الحالية تحريك الذرات من موضع لآخر على سطح مهيَّأ، بيد أن هذه الإمكانية لا تمنحها فورا المقدرة على بناء تجمعات جزيئية معقدة حسب الرغبة. إن ما أمكن تحقيقه حتى الآن، مع أنه مثير للإعجاب، ما زال محدودا تماما. ولسوف نطوِّر في نهاية المطاف إجراءات عملياتية تساعدنا على التوصل إلى تشكيل روابط ذرية منفردة في ظل ظروف أكثر عمومية. إلاّ أننا لدى محاولتنا تجميع شبكات معقدة من هذه الروابط، فمن المؤكد أن بعضها سيؤثر في بعضها الآخر بطرائق ما زلنا لا ندركها، ومن ثم نعجز عن التحكم فيها.
لقد كانت رؤية فاينمان الأصلية رؤية قصد منها الإيحاء. ولو كان يشهد ما يحدث الآن لأزعجه أن الناس ينظرون إلى تنبؤاته على أنها ضرب من الحقائق التي لا ريب فيها. فقد قدم تأملاته بطريقته المعهودة التي تجمع بين الدعابة والتبصّر العميق. وما يؤسفنا أن يكون المجال الذي أصبح معروفا باسم التقانة النانوية لم يكن إلاّ واحدا من المجالات العديدة التي أثارت اهتمامه. فهو لم يتابع ـ في واقع الأمر ـ العمل في هذا المجال باستثناء أنه أعاد إلقاء محاضرته في مختبر الدفع النفاث في عام 1983.
قوانين جديدة تسود(**)
في عام 1959، بل وحتى في عام 1983، كانت الصورة الفيزيائية الكاملة للأبعاد النانوية أبعد ما تكون عن الوضوح. وما يرضي الباحثين أنها - على وجه العموم ـ مازالت كذلك حتى يومنا هذا، ومازال جزء لا بأس به من ساحتها الغريبة ينتظر الاكتشاف. وكلما خضنا غمارها اكتشفنا ظواهر متنوعة كثيرة لا بد لنا من فهمها قبل أن تغدو التقانة النانوية العملية تقانة ممكنة. ولقد تكشّفت لنا خلال العقدين المنصرمين مبادئ فيزيائية أساسية تحكم السلوك عند الأبعاد الوسطية. لننظر في ثلاثة أمثلة مهمة:
في خريف عام 1987 كان طالب الدراسات العليا <J .B. ڤان ويس> [من جامعة دلفت للتقانة] و <H. ڤان هوتن> [من مختبرات أبحاث الشركة فيليپس (وكلاهما في هولندا)] وزملاؤهما يدرسون تدفق التيار الكهربائي عبر ما يعرف الآن باسم التماسات النقطية الكمومية quantum-point contacts. وهي عبارة عن ممرات ضيقة لنقل التيار داخل مادة شبه موصلة حيث تجبر الإلكترونات على التدفق عبرها [انظر الشكل التوضيحي في الصفحة 34]. وفي مساء أحد الأيام كان مساعد کان ويس الطالب الجامعي <L. كُووِنهوڤن> يقيس الموصلية(3) عبر التضيُّق لدى تغيير عرضه تغييرا مطردا، ولم يكن فريق البحث يتوقع أن يرى سوى تأثيرات دقيقة في الموصلية على خلفية سلسلة ما كانت تثير الاهتمام. إلاّ أنه بدلا من ذلك ظهر شكل ملحوظ جدا يشبه الدرج أصبح الآن مميزا. وقد بيَّن التحليل اللاحق في تلك الليلة أن الدرجات plateaus كانت تحدث عند فواصل منتظمة ودقيقة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002538.jpg
عن طريق النبائط النانوية الحديثة، كهذه المرنانات الكهرميكانيكية النانوية، يتمكن العلماء من اكتشاف قوانين الفيزياء التي تحكم الخصائص الفريدة للمادة عند الأبعاد الوسطية.
يتضح لنا يوما بعد يوم أننا مازلنا في بداية الطريق لاكتساب
المعرفة المعمقة التي ستكون في قلب التقانة النانوية المستقبلية.
ورصد كل من <D. وارام> و <M. پِپَر> [من جامعة كامبردج] نتائج مماثلة. وقد مثل هذان الاكتشافان أول الدلائل القوية على تكميم quantization الموصلية الكهربائية، وهذه صفة أساسية للموصلات الصغيرة، تظهر حين تبقى الخواص الموجية للإلكترونات مترابطة من «المنبع» source وحتى «المصرف» drain ـ أي بين المدخل والمخرج ـ في نبيطة نانوإلكترونية nanoelectronic device.
لقد توقع فاينمان ـ ولو جزئيا ـ سلوكا غريبا كهذا عندما قال «لقد فكرت في بعض المسائل المتعلقة ببناء دارات كهربائية في أبعاد صغيرة، وإن مشكلة المقاومة مشكلة مهمة...». بيد أن الاكتشافات التجريبية أشارت إلى أمر هو في الحقيقة جديد وأساسي: فالميكانيك الكمومي يستطيع أن يحكم سلوك النبائط الكهربائية الصغيرة بصورة كاملة.
لقد توقع <R. لانداور> [وهو نظري يعمل في الشركة IBM، قدم أفكارا رائدة في مجال الإلكترونيات النانوية وفي فيزياء الحوسبة]، تجليات مباشرة للميكانيك الكمومي في نبائط كهذه منذ عام 1957. إلاّ أن التحكم في المواد والتصنيع النانوي لم يبدأ بتوفير إمكانية النفاذ إلى هذا النظام مختبريا إلاّ في أواسط الثمانينات من القرن العشرين. ويذكر أن اكتشافات عام 1987 آذنت ببلوغ الأوج في مضمار «الرؤية الوسطية» mesoscopia.
ثمة مثال مهم آخر يرتبط بقوانين الأبعاد الوسطية المكتشفة حديثا، وهو اكتشاف قاد إلى ولادة التقانة النانوية يعود الفضل فيه إلى <D. ليخاريڤ> في عام 1985. وليخاريڤ أستاذ فيزياء يعمل في جامعة موسكو الحكومية، ومعه الزميل ما بعد الدكتوراه <A. زورين> والطالب الجامعي <D. آڤرين>. فقد توقع هؤلاء أن يتمكن العلماء من التحكم في حركة إلكترون مفرد من حيث الوصل on أو الفصل off عبر ما يسمى بجزيرة كولونيةcoulomb island ـ وهي موصل يرتبط ارتباطا ضعيفا بسائر الدارة النانوية. ويمكن لهذا الاكتشاف أن يكون أساسا لنبيطة من نوع جديد تماما تدعى ترانزستور الإلكترون المفرد. إن الآثار الفيزيائية الناشئة عن وضع إلكترون مفرد في جزيرة كولونية تصبح أكثر متانة عندما نسعى إلى تصغير أبعاد الجزيرة؛ ففي النبائط الصغيرة جداً يمكن لتأثيرات الشحن بإلكترون مفرد أن تسيطر على تدفق التيار سيطرة تامة.
تكتسب اعتبارات كهذه أهمية متزايدة من الناحية التقانية. وتشير تنبؤات الشركة International Technology Roadmap for Semiconductors التي أعدها مفكرون ذوو باع طويل في الصناعة، إلى أنه بحلول عام 2014 سيتضاءل حجم الترانزستورات في الشيپات الحاسوبية إلى 20 نانومترا. وعند هذا المقياس ستتضمن كل حادثة وصل أو فصل ما يقارب ثمانية إلكترونات فقط. وستصبح التصاميم التي تعتمد على الشحن بإلكترون مفرد حاسمة.
إن التقدم الذي أحرزته الصناعة النانوية بحلول عام 1987 لكل من <A .T. فلتون> و <J .G. دولان> [من مختبرات بِل] أتاح بناء أول ترانزستور من صنف الإلكترون المفرد [انظر الشكل في الصفحة 36]. ومنذ ذلك الحين، شوهدت حادثة الشحن بإلكترون مفرد التي رصداها والتي يطلق عليها الآن اسم الحصار الكولوني coulomb blockade، في تشكيلة واسعة من البنى. وفي الوقت الذي تغدو فيه النبائط التجريبية أصغر فأصغر فإن ظاهرة الحصار الكولوني تصبح هي القاعدة بدلا من أن تكون الاستثناء في النبائط النانوية ذات الترابط الضعيف. ويصح هذا بنوع خاص في التجارب التي تمرر فيها التيارات الكهربائية في الجزيئات المنفردة، إذ يمكن لهذه الجزيئات أن تسلك سلوك جزر كولونية بفضل ارتباطها الضعيف بالإلكترودات (المساري) electrodes التي تصلها بالعالم الماكروي. إن تسخير هذا الأثر للحصول على ارتباط متين قابل للتكرار مع جزيئات صغيرة (وبطرائق يمكن تحقيقها هندسيا) هو من بين التحديات المهمة فعلا في ميدان الإلكترونيات الجزيئية الجديد.
في هذا السياق، كنت في عام 1990 أعمل في مختبر بحوث بِل للاتصالات، وكنت منهمكا بدراسة انتقال الإلكترون في أشباه الموصلات الوسطية، وكنت أشارك في مشروع جانبي برفقة زميليَّ <L. شياڤون> و<A. شِرر> يهدف إلى تطوير تقنيات كنا نأمل أنها ستسلط ضوءا على الطبيعة الكمومية للتدفق الحراري. ولقد تطلَّب العمل استعمال بنى نانوية أكثر تعقيدا من النبائط المستوية المستخدمة لتحري الإلكترونيات الوسطية. وقد تطلَّب الأمر منّا تأمين نبائط معلَّقة تعليقا حرّا، وهي بنى تتميز ببروز كامل ثلاثي الأبعاد. وقد صَحَّت عليّ حينذاك مقولة: «الجهل نعمة»، إذ لم أكن أدرك قط أن التجارب ستكون على تلك الدرجة من التعقيد بحيث تستغرق نحو عقد من الزمن لتحقيقها.
نظرة إجمالية إلى الفيزياء النانوية(***)
• توجد نبائط التقانة النانوية، التي هي أصغر من الأجسام الماكروية وأكبر من الجزيئات، في عالَم فريد هو عالم الأبعاد الوسطية، حيث يحكم خصائصَ المادة مزيجٌ معقد وغني من قوانين الفيزياء التقليدية والميكانيك الكمومي.
• لن يتمكن المهندسون من صنع نبائط نانوية مثلى، أو يمكن الاعتماد عليها، ما لم يدركوا المبادئ الفيزيائية التي تسود الأبعاد الوسطية.
• يكتشف العلماء قوانين الأبعاد الوسطية عن طريق صوغ نظم غير عادية معقدة من الذرات، وقياس سلوكها المثير.
• إذا فهمنا الأساس العلمي للتقانة النانوية أمكننا تحقيق رؤية ريتشارد فاينمان العميقة، ألا وهي أن الطبيعة تركت لنا مجالا واسعا في العالم النانوي لابتكار نبائط عملية يمكن تسخيرها لخدمة البشرية.
أما أولى الخطوات الواسعة فقد تحققت بعد أن انتقلتُ إلى المعهد كالْتِك Caltech عام 1992 وذلك بالتعاون مع <J. وورلوك> [من جامعة يوتاه] وزميلين باحثين لما بعد الدكتوراه في مجموعتي. فقد طوَّر <T. تيگ> الطرائق والنبائط التي مكنت من إجراء أول قياسات مباشرة لتدفق الحرارة في البنى النانوية. وقام <K. شواب> بعد ذلك بمراجعة تصميم البنى النانوية المعلَّقة، ووضَع تجهيزات بالغة الحساسية فائقة الموصلية لسبر التغيرات الطارئة فيها عند درجات الحرارة المنخفضة جدا، حيث يمكن ملاحظة الآثار بوضوح تام.
وفي أواخر صيف عام 1999 بدأ <شواب> برصد تدفق الحرارة عبر جسور نانوية من نتريد السيليكون [انظر الشكل في هذه الصفحة]. وقد برز الحدّ الأساسي للتدفق الحراري في البنى الوسطية حتى في البيانات الأولية هذه. ويُعرف هذا الحدّ اليوم باسم «كموم (كم) الموصلية الحرارية» thermal conductance quantum. وهو يحدّد المعدل الأعظمي الذي يمكن أن تحمله اهتزازة ميكانيكية موجيّة منفردة تنتشر من مدخل نبيطة نانوية إلى مخرجها. وهو شبيه بـ «كموم» الموصلية الكهربائية إلاّ أنه يحكم نقل الحرارة.
يعد هذا الكموم معاملا مهما في الإلكترونيات النانوية، فهو يمثل الحدَّ النهائي لمسألة تبديد الطاقة power-dissipation problem. وباختصار يمكننا القول إن جميع النبائط «الفعالة» تتطلب بعض الطاقة حتى تعمل. ولكي تعمل بصورة مستقرة دون ارتفاع مفرط في درجة حرارتها، لا بد من ابتكار تصميم يسمح بانتزاع الحرارة التي تبددها. وفيما يحاول المهندسون زيادة كثافة الترانزستورات ومعدلات تواتر ساعات المعالجات الميكروية، تتزايد بصورة هائلة مشكلة الحفاظ على الشيپات الميكروية باردة لتجنّب انهيار عمل المنظومة بأكملها، ولسوف تتفاقم هذه المشكلة بالانتقال إلى التقانة النانوية.
عندما نظر فاينمان في أمر هذا التعقيد قال: «لنترك المحامل bearings تنضب؛ إنها لن تسخن لأن الحرارة تتسرب بيسر وسرعة من نبيطة صغيرة كهذه». بيد أن تجاربنا تشير إلى أن الطبيعة هي أكثر تقييدا من ذلك. فكموم (كم) الموصلية الحرارية يمكن أن يضع حدودا لمدى فعالية تبديد الحرارة من نبيطة صغيرة جدا. ولا يصح تصوُّر فاينمان إلاّ إذا صمّم المهندس النانوي بنية آخذا هذه الحدود بعين الاعتبار.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N9-10_H05_002539.jpg
مكّنت نبيطةُ الجسر النانوني الفيزيائيين في المعهد كالتك من رصد تكميم الموصلية الحرارية ـ الأمر الذي يضع حدا أساسيا لتدفق الحرارة عبر الأجسام الصغيرة. إن الثقوب الأربعة [السوداء] المحفورة في غشاء من نتريد السيليكون تحدد نطاق مستودع حراري معزول [المربع المركزي الأخضر] وهو معلق بأربعة جسور ضيقة. ويستخدم محوال من الذهب [اللون الأصفر] لتسخين المستودع كهربائيا، في حين يستخدم محوال آخر لقياس درجة حرارته. وتَربط أغشية رقيقة من مواد فائقة الموصلية [اللون الأزرق] تعلو الجسور المحوالات كهربائيا بتجهيزات بعيدة عن الشيپة لكنها لا تحمل أية حرارة. وهكذا فالطريق الوحيد لتبريد المستودع الحراري هو عبر جسور نتريد السيليكون، وهي من الضيق بحيث لا تمرر سوى الموجات الحرارية الأخفض طاقة.
من هذه الأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا يمكن الوصول إلى نتيجة واحدة فقط هي أننا بدأنا توّا بكشف النقاب عن الطرائق المعقّدة المختلفة اختلافا رائعا والتي تعمل بموجبها المنظومات النانوية. فاكتشاف كموم الموصلية الكهربائية وكموم الموصلية الحرارية، وكذلك رصد الحصار الكولوني هي بمثابة انقطاعاتdiscontinuities حقيقية - تغيرات مفاجئة في فهمنا لسلوك المادة. وليس من عادتنا اليوم أن نسمّي اكتشافاتنا «قوانين». ومع هذا فلا يساورني أدنى شك في أن تكميم الموصلية الحرارية والموصلية الكهربائية وظواهر الشحن بإلكترون مفرد هي بالفعل من القواعد العامة للتصميم النانوي؛ وهي بمثابة قوانين جديدة للعالم النانوي؛ ولا تتعارض مع تصورات فاينمان الأصلية بل تعزّزها وتسلط الضوء عليها. ويبدو أنه تنبأ حقا بظهورها حين قال: «لدينا في المستوي الذري أصناف جديدة من القوى وأصناف جديدة من الإمكانات وأصناف جديدة من الآثار. وستكون مسائل تصنيع المواد وإعادة إنتاجها مختلفة اختلافا كاملا».
وسنواجه مزيدا من مثل هذه الانقطاعات في الطريق إلى التقانة النانوية الحقيقية. وستحدث هذه المفاجآت السارة بتزامن مباشر مع تقدم إمكاناتنا لرصد البنى النانوية وسبرها والتحكم فيها. لذا فإن من الحكمة أن نكون متواضعين وحذرين فيما يتعلق بالتنبؤ في مجال التقانة النانوية.