murad abuamr
07-04-2010, 12:31 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الكثيرين من طلبة العلم يظنون أنّ الانتقالات الإلكترونية هي انتقالاتٌ في المكان داخل الذرة .
لكنّ هذا التصور مغلوط إلى درجة كبيرة ، وذلك أنّ هذا التصور الكلاسيكي مبني على نموذج الجسيم النقطي للإلكترون ، إلا أنّ بديهيات علم الكم تنفي ذلك تماماً ، فهذه الجسيمات ليست جسيمات نقطية ، بل هي ذاتُ طابع موجي .
في الحقيقة ، فقد كان المخطط أن يكون هذا الجزء من هذه السلسلة شارحاً حقيقة الانتقالات الإلكترونية داخل الذرة – كما هو واضح من مطلع المقال – إلا أنّ الصعوبات الفلسفية حالت دون ذلك .
فكان لا بدّ لبعض المبادئ الفلسفية أن تكون حاضرة ، ويصعب شرح الموضوع المراد دون أن نكون واعين لها .
ولو استطردنا قليلاً لكي نعرِّج على التصور الكلاسيكي الحتمي الذي تتبناه النظرة الأولى المَغلوطة – لكي نعلم سبب ذلك الجدل الكبير الشهير بين عمالقة الفيزياء ، والذي يطلق عليه جدل بور وآينشتاين ، لشهرته بالدرجة الأولى – فإنّ هذا الاستطراد لن يكون من نافلة القول .
سوف نبين إن شاء الله – وباختصار – أصل هذا الخلاف وسببه .
ذلك أنّ الفيزياء الكمية بدأت بالظهور في وسط علمي قام بناؤه على مبدأ الحتمية المطلق .
وحتى آينشتاين الذي ساهم في تطوير ميكانيكا الكم ، كان من أبناء المدرسة الحتمية في الفيزياء ، بل من غُلاتها وأشد المنافحين عنها ، ونعلم جميعاً ما آل به هذا الأمر بسبب إصراره على رفض ميكانيكا الكم ، وقد كان يقول : لو كانت الطبيعة على هذا الشكل فإني أُفضل أن أكون إسكافياً أو موظفاً في حانة ، على أن أكون فيزيائياً .
لذلك لن يكون من المستغرب أن نعلم أنّ الذين أسسوا الصرح الكمي كانوا أحداث الأسنان ، فغالبيتهم شباب في العشرينيات من أعمارهم ، وربما هي سنة الله تعالى في أنّ الحقّ يُنصر بالشباب .
ولهذا كان يسخر منهم الحتميون الهَرِمُون بقولهم عن نظرياتهم في الكم : "فيزياء الأولاد" .
لن نتكلم كثيراً عن عقيدة الحتميين التي دفعت بعضهم بحمق بالغ لإنكار الأهمية في وجود مدبر للكون ، كما كان يزعم لابلاس الذي كان يقول : " إنّ السماء ليست بحاجة إلى وجود مدبِّر " .
أو نيوتن الذي كان يقول : " إنّ الله خلق هذا الكون على هيئة ساعة كونية دقيقة الانضباط ، لكن ليس ثمة داعٍ أو فائدة من الدعاء لهذا الإله العظيم ، خالق هذه الساعة الكونية الدقيقة ، لأنه حتى هو لا يستطيع أن يغير فيها شيئاً ، حتى لو أراد ذلك " .
تعالى اللهُ عما يقولون علواً كبيراً .
والغريب أيضاً أن تجد العالم الأشهر ربما في هذا العصر ستيفين هوكنغ ، يصرح بمثل هذا القول مع اعتقاده بوجود الله – واتفاقه مع البابا على أبعد من ذلك في اجتماعٍ جرى بينهما – إذ يصرح أنّ من الناس من يقوم إلى اليوم بتقديم النذور لله من أجل الحصول على ما يريدون – وكأنه ينكر جدوى ذلك – فإنّ النتائج محددة سلفاً بناءً على مبدأ الحتمية .
فليس الهدفُ كما قلنا : بيانَ عقيدة الحتميين ، لكننا نريد أن نفهم الحتمية ذاتها .
والحتمية هي فرضية فلسفية تقول أن كل حدث في الكون بما في ذلك إدراكُ الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفاً ، ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة . (1)
ويعرف البعضُ الحتميةَ أيضاً على أنها عمومُ قوانين الكون وعدم تخلفها عبر الزمان والمكان .
أما المدرسة الحتمية في الفيزياء فقد قامت على مبدأ التحديد المطلق للكميات الفيزيائية عموماً ، وأهمها تحديد المكان والزمان للمادة أو الكتلة .
ولكن ما هو هذا التحديد الذي تريده وتطلبه الفيزياء الكلاسيكية وعلى ماذا يقوم
أنّ التحديد المعني هنا والذي هو جوهر الحتمية هو تحديد الإحداثيات المكانية للمادة عند أية لحظة زمنية ، وتحديد الكميات الفيزيائية المرتبطة بها (وأهمها الزخم) ، أي أنه تحديدٌ رباعي الأبعاد ، وهو ما يعرف في النسبية العامة بمفهوم الحدث Event ، والحدث هو نقطة على منحنى الفضاء رباعي الأبعاد .
أو هو باختصار : تحديد (مسار) الجسيم ، والمسارُ في الفيزياء الكلاسيكية خطٌّ أحمرُ لا يُسمح بتجاوزه ، بل لن نبالغ إن قلنا أنّ الميكانيكا الكلاسيكية هي المسار فحسب .
ولكي تتوضح الفكرة أكثر فهذا مثل تحديد نقطة على المستوى الديكارتي ، فلو كان لدينا اقتران رياضي هو جتا س مثلاً ، فبناءً على فلسفة الرياضيات التي تقوم عليها ، فإنّ هذا الاقتران ما هو إلا مخطط لمسار مكون من تجمع نقاط التمثيل ، فكل قيمة على محور السينات يقابلها قيمة على محور الصادات يحددها اقتران الجتا السابق ، وبهذا المسار يتحدد لنا شكل الاقتران .
الأمر الآخر الذي يجب معرفته أنّ هدف علم الفيزياء هو نمذجة الظواهر والتفاعلات الطبيعية باستخدام الرياضيات ، فعمل الفيزيائي هو صهر الظواهر الطبيعية في قوالب رياضية ، كأن يقوم الفيزيائي بوصف الحركة على شكل معادلات الحركة المعروفة ، وعندها فإن الفيزيائيّ قام بوصف الظاهرة الطبيعية على شكل اقتران رياضي ، بحيث يكون المحور الأفقي هو الزمن مثلاً ، والمحور العمودي هو المسافة ، وربما السرعة إلى آخره .
وبهذا فإنه يمكننا الآن أن (نحدد) مكان الجسيم المادي وسرعته عند أية (لحظة) زمنية ، وهذا أهم ما في علم الميكانيكا ، بل هي جوهره .
لذلك ، فالجسيم الذي يراد تحديد إحداثياته لا بدّ أن يكون موجوداً عند أية (لحظة) زمنية في (نقطة) مكانية رياضية واحدة ، والنقطة الرياضية كما نعلم تمثل بمنطقة ليس لها طولٌ أو عرضٌ أو ارتفاع ، أي أنّ أبعادها صفريةً أو تقترب من الصفر (2) .
إذن وكما قلنا ، فإنّ الحتمية قامت على أساس تحديد الإحداثيات المكانية في أية لحظة زمنية ، وقلنا أيضاً أنّ الموقع هو نقطة رياضية حجمها يقترب من الصفر ، واللحظة الزمنية هي الفترة الزمنية التي يجري فيها الحدث الفيزيائي ، ومقدارها أيضاً يقترب من الصفر من الناحية الرياضية .
لكن قد يتسائل البعض : هل يعني هذا أنّ حجم المادة أو الكتلة التي يراد تحديد مكانها عند لحظة زمنية معينة يجب أن يكون بحجم النقطة الرياضية ؟
والجواب : لا يُشترط ذلك ، ولكن يكفي أن نحدد مركز الكتلة ، وعندها نفترض أنّ الكتلة كلها متجمعة في نقطة رياضية واحدة موقعها أو إحداثياتها هي نفس إحداثيات مركز الكتلة ، ولذلك نجد أنَّ الفيزياء الكلاسيكية تُعنى كثيراً بإيجاد مركز الكتلة لأي نظام هندسي منتظم من المادة .
هذا الأمرُ لا بدّ أن يلازمه أمرٌ آخر ، فبما أنّ الأحداث الفيزيائية أصبحت اقترانات رياضية ، فإنّ هذه الاقترانات لا بدّ أن تكون متصلة على فترتها ، فلا يجوز أن يكون الاقتران غير معرف على الفترة التي يجب أن يتمثل فيها .
فلا يمكن أن توجد المادة هنا ثمّ لا يكون لها وجود بعد فترة زمنية في فترة مكانية أخرى ، ثمّ تعود للظهور مجدداً ضمن فترة مكانية أخرى ، وهذا ضمن الفترة المعرف عليها ، كما لا يجوز أن توجد المادة في الفترة غير المعرفة على الاقتران الذي يصف طبيعتها المعنية .
ثمّ لا بدّ أن توجد (قيمة واحدة) على المحور العمودي لكل قيمة على المحور الأفقي (فلا وجود لاحتمالات) فهنالك قيمة واحدة لا غير كما قلنا ، إذ لا وجود لمنحنيين لاقتران واحد على المستوى .
إذن ما الذي جرى وغير هذه الأسس
والجوابُ على هذا السؤال سيكونُ التفسيرَ لما حدث و سَحبَ البساط من تحت الصرح الكلاسيكي القائم على مبدأ الحتمية ، وسوف نورده الآن بشكل مبسط إن شاء الله :
السببُ الرئيسي أنّ المادة عند الحدود الصغيرةِ نسبيا في المكان ، تبدي سلوكاً موجياً ، بل إنّ الجسيمات الذرية ما هي إلا أمواجٌ بوجه ما .
أنّ الجميع هنا يعلم أنّ الموجة لها خصائص فيزيائية ، ومن هذه الخصائص مثلاً الطول الموجي والزمن الدوري ، إلى آخره .
لابدّ من التنويه أنّه عند التعامل مثلاً مع الإلكترون عن بعد ، فيمكن التعامل معه تعاملاً كلاسيكياً ، وذلك باعتباره شحنة نقطية ، وبما أنّ النقطة حاضرة هنا إذن فإنّ الحتمية حاضرة ، والخصائص الموجية له ستكون مستترة ، لأنّ المسافات التي تفصل بين الإلكترون والمراقب أو محور الإسناد أكبر بكثير من طوله الموجي ، لذلك يمكن اعتبار أنّ كتلته متركزة في نقطة رياضية .
لكن إذا أردنا أن نتعامل مع الإلكترون داخل حدوده الطبيعية (كأن نتعامل مع الإلكترون داخل الذرة) فإنّ الاعتبار السابق غير ممكن ، لأننا الآن نتعامل مع مادة خصائصها الموجية ظاهرة تماماً .
والمشكلة الآن أنّ الموجة لا يمكن أن تنحصر في حيز أصغر من طولها الموجي تقريباً أو نصف طولها الموجي (فمن خصائص الموجة أنها غيرُ قابلة للتموضع) أيضاً لا يمكن للموجة أن توصف بحدث أو تفاعل بزمن أقل الزمن الدوري لها تقريباً أو نصفه ربما ، وذلك لأنّها وحدة واحدة ، وهذا من خصائص الأمواج ، ومن هنا جاء مبدأ عدم التحديد لهايزنبرغ .
والذي يتأمل مبدأ عدم التحديد لهايزنبرغ بشقيه يدرك جيداً أنّ هذا المبدأ ما هو إلا صورة أخرى عن معادلة بلانك (الطاقة = ثابت بلانك ضرب التردد) أو أنها نتيجةٌ له ، مع أنّ له معانٍ أخرى ولا شك أبعد من معادلة بلانك .
إذن فالأحداث الفيزيائية ضمن تلك الحدود الصغيرة أصبحت تجري ضمن (فترات) وليس ضمن (نقاط) .
كل حدث فيزيائي هناك يحدث ضمن فترة زمانية مكانية ، فلا يمكن أن نعتبر هذه الفترة الزمنية مساوية للصفر كما تفعل الفيزياء الكلاسيكية ، وذلك لأنّ أقل فترة زمنية ممكنة هي زمن بلانك 10^-43 من الثانية ، ولا يمكن أن نعتبر أنّ الفترة المكانية مساوية للصفر أيضاً ، إذ إنّ أقل فترة مكانية هي طول بلانك والذي يساوي تقريباً 10^-35 من المتر .
والآن عرفنا الجانب الأول من المشكلة مع المبادئ الكمية الجديدة ، وهو عدم التحديد وسببه ، ولكن لن يسعنا الحديث عن الجانب الآخر من المشكلة إلا في الجزء الرابع من هذه السلسلة إن شاء الله .
(1) :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%AA%D9%85%D9%8A%D8%A9
(2) :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%82%D8%B7%D8%A9_%28%D9%87% D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9%29
إنّ الكثيرين من طلبة العلم يظنون أنّ الانتقالات الإلكترونية هي انتقالاتٌ في المكان داخل الذرة .
لكنّ هذا التصور مغلوط إلى درجة كبيرة ، وذلك أنّ هذا التصور الكلاسيكي مبني على نموذج الجسيم النقطي للإلكترون ، إلا أنّ بديهيات علم الكم تنفي ذلك تماماً ، فهذه الجسيمات ليست جسيمات نقطية ، بل هي ذاتُ طابع موجي .
في الحقيقة ، فقد كان المخطط أن يكون هذا الجزء من هذه السلسلة شارحاً حقيقة الانتقالات الإلكترونية داخل الذرة – كما هو واضح من مطلع المقال – إلا أنّ الصعوبات الفلسفية حالت دون ذلك .
فكان لا بدّ لبعض المبادئ الفلسفية أن تكون حاضرة ، ويصعب شرح الموضوع المراد دون أن نكون واعين لها .
ولو استطردنا قليلاً لكي نعرِّج على التصور الكلاسيكي الحتمي الذي تتبناه النظرة الأولى المَغلوطة – لكي نعلم سبب ذلك الجدل الكبير الشهير بين عمالقة الفيزياء ، والذي يطلق عليه جدل بور وآينشتاين ، لشهرته بالدرجة الأولى – فإنّ هذا الاستطراد لن يكون من نافلة القول .
سوف نبين إن شاء الله – وباختصار – أصل هذا الخلاف وسببه .
ذلك أنّ الفيزياء الكمية بدأت بالظهور في وسط علمي قام بناؤه على مبدأ الحتمية المطلق .
وحتى آينشتاين الذي ساهم في تطوير ميكانيكا الكم ، كان من أبناء المدرسة الحتمية في الفيزياء ، بل من غُلاتها وأشد المنافحين عنها ، ونعلم جميعاً ما آل به هذا الأمر بسبب إصراره على رفض ميكانيكا الكم ، وقد كان يقول : لو كانت الطبيعة على هذا الشكل فإني أُفضل أن أكون إسكافياً أو موظفاً في حانة ، على أن أكون فيزيائياً .
لذلك لن يكون من المستغرب أن نعلم أنّ الذين أسسوا الصرح الكمي كانوا أحداث الأسنان ، فغالبيتهم شباب في العشرينيات من أعمارهم ، وربما هي سنة الله تعالى في أنّ الحقّ يُنصر بالشباب .
ولهذا كان يسخر منهم الحتميون الهَرِمُون بقولهم عن نظرياتهم في الكم : "فيزياء الأولاد" .
لن نتكلم كثيراً عن عقيدة الحتميين التي دفعت بعضهم بحمق بالغ لإنكار الأهمية في وجود مدبر للكون ، كما كان يزعم لابلاس الذي كان يقول : " إنّ السماء ليست بحاجة إلى وجود مدبِّر " .
أو نيوتن الذي كان يقول : " إنّ الله خلق هذا الكون على هيئة ساعة كونية دقيقة الانضباط ، لكن ليس ثمة داعٍ أو فائدة من الدعاء لهذا الإله العظيم ، خالق هذه الساعة الكونية الدقيقة ، لأنه حتى هو لا يستطيع أن يغير فيها شيئاً ، حتى لو أراد ذلك " .
تعالى اللهُ عما يقولون علواً كبيراً .
والغريب أيضاً أن تجد العالم الأشهر ربما في هذا العصر ستيفين هوكنغ ، يصرح بمثل هذا القول مع اعتقاده بوجود الله – واتفاقه مع البابا على أبعد من ذلك في اجتماعٍ جرى بينهما – إذ يصرح أنّ من الناس من يقوم إلى اليوم بتقديم النذور لله من أجل الحصول على ما يريدون – وكأنه ينكر جدوى ذلك – فإنّ النتائج محددة سلفاً بناءً على مبدأ الحتمية .
فليس الهدفُ كما قلنا : بيانَ عقيدة الحتميين ، لكننا نريد أن نفهم الحتمية ذاتها .
والحتمية هي فرضية فلسفية تقول أن كل حدث في الكون بما في ذلك إدراكُ الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفاً ، ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة . (1)
ويعرف البعضُ الحتميةَ أيضاً على أنها عمومُ قوانين الكون وعدم تخلفها عبر الزمان والمكان .
أما المدرسة الحتمية في الفيزياء فقد قامت على مبدأ التحديد المطلق للكميات الفيزيائية عموماً ، وأهمها تحديد المكان والزمان للمادة أو الكتلة .
ولكن ما هو هذا التحديد الذي تريده وتطلبه الفيزياء الكلاسيكية وعلى ماذا يقوم
أنّ التحديد المعني هنا والذي هو جوهر الحتمية هو تحديد الإحداثيات المكانية للمادة عند أية لحظة زمنية ، وتحديد الكميات الفيزيائية المرتبطة بها (وأهمها الزخم) ، أي أنه تحديدٌ رباعي الأبعاد ، وهو ما يعرف في النسبية العامة بمفهوم الحدث Event ، والحدث هو نقطة على منحنى الفضاء رباعي الأبعاد .
أو هو باختصار : تحديد (مسار) الجسيم ، والمسارُ في الفيزياء الكلاسيكية خطٌّ أحمرُ لا يُسمح بتجاوزه ، بل لن نبالغ إن قلنا أنّ الميكانيكا الكلاسيكية هي المسار فحسب .
ولكي تتوضح الفكرة أكثر فهذا مثل تحديد نقطة على المستوى الديكارتي ، فلو كان لدينا اقتران رياضي هو جتا س مثلاً ، فبناءً على فلسفة الرياضيات التي تقوم عليها ، فإنّ هذا الاقتران ما هو إلا مخطط لمسار مكون من تجمع نقاط التمثيل ، فكل قيمة على محور السينات يقابلها قيمة على محور الصادات يحددها اقتران الجتا السابق ، وبهذا المسار يتحدد لنا شكل الاقتران .
الأمر الآخر الذي يجب معرفته أنّ هدف علم الفيزياء هو نمذجة الظواهر والتفاعلات الطبيعية باستخدام الرياضيات ، فعمل الفيزيائي هو صهر الظواهر الطبيعية في قوالب رياضية ، كأن يقوم الفيزيائي بوصف الحركة على شكل معادلات الحركة المعروفة ، وعندها فإن الفيزيائيّ قام بوصف الظاهرة الطبيعية على شكل اقتران رياضي ، بحيث يكون المحور الأفقي هو الزمن مثلاً ، والمحور العمودي هو المسافة ، وربما السرعة إلى آخره .
وبهذا فإنه يمكننا الآن أن (نحدد) مكان الجسيم المادي وسرعته عند أية (لحظة) زمنية ، وهذا أهم ما في علم الميكانيكا ، بل هي جوهره .
لذلك ، فالجسيم الذي يراد تحديد إحداثياته لا بدّ أن يكون موجوداً عند أية (لحظة) زمنية في (نقطة) مكانية رياضية واحدة ، والنقطة الرياضية كما نعلم تمثل بمنطقة ليس لها طولٌ أو عرضٌ أو ارتفاع ، أي أنّ أبعادها صفريةً أو تقترب من الصفر (2) .
إذن وكما قلنا ، فإنّ الحتمية قامت على أساس تحديد الإحداثيات المكانية في أية لحظة زمنية ، وقلنا أيضاً أنّ الموقع هو نقطة رياضية حجمها يقترب من الصفر ، واللحظة الزمنية هي الفترة الزمنية التي يجري فيها الحدث الفيزيائي ، ومقدارها أيضاً يقترب من الصفر من الناحية الرياضية .
لكن قد يتسائل البعض : هل يعني هذا أنّ حجم المادة أو الكتلة التي يراد تحديد مكانها عند لحظة زمنية معينة يجب أن يكون بحجم النقطة الرياضية ؟
والجواب : لا يُشترط ذلك ، ولكن يكفي أن نحدد مركز الكتلة ، وعندها نفترض أنّ الكتلة كلها متجمعة في نقطة رياضية واحدة موقعها أو إحداثياتها هي نفس إحداثيات مركز الكتلة ، ولذلك نجد أنَّ الفيزياء الكلاسيكية تُعنى كثيراً بإيجاد مركز الكتلة لأي نظام هندسي منتظم من المادة .
هذا الأمرُ لا بدّ أن يلازمه أمرٌ آخر ، فبما أنّ الأحداث الفيزيائية أصبحت اقترانات رياضية ، فإنّ هذه الاقترانات لا بدّ أن تكون متصلة على فترتها ، فلا يجوز أن يكون الاقتران غير معرف على الفترة التي يجب أن يتمثل فيها .
فلا يمكن أن توجد المادة هنا ثمّ لا يكون لها وجود بعد فترة زمنية في فترة مكانية أخرى ، ثمّ تعود للظهور مجدداً ضمن فترة مكانية أخرى ، وهذا ضمن الفترة المعرف عليها ، كما لا يجوز أن توجد المادة في الفترة غير المعرفة على الاقتران الذي يصف طبيعتها المعنية .
ثمّ لا بدّ أن توجد (قيمة واحدة) على المحور العمودي لكل قيمة على المحور الأفقي (فلا وجود لاحتمالات) فهنالك قيمة واحدة لا غير كما قلنا ، إذ لا وجود لمنحنيين لاقتران واحد على المستوى .
إذن ما الذي جرى وغير هذه الأسس
والجوابُ على هذا السؤال سيكونُ التفسيرَ لما حدث و سَحبَ البساط من تحت الصرح الكلاسيكي القائم على مبدأ الحتمية ، وسوف نورده الآن بشكل مبسط إن شاء الله :
السببُ الرئيسي أنّ المادة عند الحدود الصغيرةِ نسبيا في المكان ، تبدي سلوكاً موجياً ، بل إنّ الجسيمات الذرية ما هي إلا أمواجٌ بوجه ما .
أنّ الجميع هنا يعلم أنّ الموجة لها خصائص فيزيائية ، ومن هذه الخصائص مثلاً الطول الموجي والزمن الدوري ، إلى آخره .
لابدّ من التنويه أنّه عند التعامل مثلاً مع الإلكترون عن بعد ، فيمكن التعامل معه تعاملاً كلاسيكياً ، وذلك باعتباره شحنة نقطية ، وبما أنّ النقطة حاضرة هنا إذن فإنّ الحتمية حاضرة ، والخصائص الموجية له ستكون مستترة ، لأنّ المسافات التي تفصل بين الإلكترون والمراقب أو محور الإسناد أكبر بكثير من طوله الموجي ، لذلك يمكن اعتبار أنّ كتلته متركزة في نقطة رياضية .
لكن إذا أردنا أن نتعامل مع الإلكترون داخل حدوده الطبيعية (كأن نتعامل مع الإلكترون داخل الذرة) فإنّ الاعتبار السابق غير ممكن ، لأننا الآن نتعامل مع مادة خصائصها الموجية ظاهرة تماماً .
والمشكلة الآن أنّ الموجة لا يمكن أن تنحصر في حيز أصغر من طولها الموجي تقريباً أو نصف طولها الموجي (فمن خصائص الموجة أنها غيرُ قابلة للتموضع) أيضاً لا يمكن للموجة أن توصف بحدث أو تفاعل بزمن أقل الزمن الدوري لها تقريباً أو نصفه ربما ، وذلك لأنّها وحدة واحدة ، وهذا من خصائص الأمواج ، ومن هنا جاء مبدأ عدم التحديد لهايزنبرغ .
والذي يتأمل مبدأ عدم التحديد لهايزنبرغ بشقيه يدرك جيداً أنّ هذا المبدأ ما هو إلا صورة أخرى عن معادلة بلانك (الطاقة = ثابت بلانك ضرب التردد) أو أنها نتيجةٌ له ، مع أنّ له معانٍ أخرى ولا شك أبعد من معادلة بلانك .
إذن فالأحداث الفيزيائية ضمن تلك الحدود الصغيرة أصبحت تجري ضمن (فترات) وليس ضمن (نقاط) .
كل حدث فيزيائي هناك يحدث ضمن فترة زمانية مكانية ، فلا يمكن أن نعتبر هذه الفترة الزمنية مساوية للصفر كما تفعل الفيزياء الكلاسيكية ، وذلك لأنّ أقل فترة زمنية ممكنة هي زمن بلانك 10^-43 من الثانية ، ولا يمكن أن نعتبر أنّ الفترة المكانية مساوية للصفر أيضاً ، إذ إنّ أقل فترة مكانية هي طول بلانك والذي يساوي تقريباً 10^-35 من المتر .
والآن عرفنا الجانب الأول من المشكلة مع المبادئ الكمية الجديدة ، وهو عدم التحديد وسببه ، ولكن لن يسعنا الحديث عن الجانب الآخر من المشكلة إلا في الجزء الرابع من هذه السلسلة إن شاء الله .
(1) :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%AA%D9%85%D9%8A%D8%A9
(2) :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%82%D8%B7%D8%A9_%28%D9%87% D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9%29