محمد عريف
04-10-2010, 12:11 PM
أعضاء المنتدي الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد مايو - يونية 2000
خلايا عصبية جديدة لأدمغة البالغين(*)
خلافا للاعتقاد السائد فإن دماغ الإنسان ينتج خلايا عصبية
جديدة في سن البلوغ. فهل يمكن لهذه المقدرة التي اكتشفناها
حديثا أن تقود إلى معالجات أفضل للأمراض العصبية؟
<G. كيمپرمان> ـ <H .F. گيج>
إذا جُرح جلدك فإن الجرح ينغلق عادة في غضون أيام. وإذا كُسرت رجلك يترمم الكسر بشكل عادي إذا أعيد وضع العظم بصورة صحيحة. وفي الواقع تستطيع جميع النسج البشرية تقريبا أن تصلح ذاتها إلى حد ما طوال حياة الإنسان. فهناك خلايا جذعية stem cells رائعة هي المسؤولة عن جانب كبير من هذه الفعالية activity. وتشبه هذه الخلايا المتعددة الاستعمالات versatile خلايا الجنين المتنامي في قابليتها للتكاثر إلى ما لانهاية تقريبا ولتوليد ليس نسخا طبق الأصل من ذواتها فحسب، بل وكذلك عدة أنواع مختلفة من الخلايا. وتقدم نماذجها الموجودة في نقي العظام مثالا مثيرا على ذلك. فهي تستطيع أن تنشئ جميع خلايا الدم: الخلايا الحمر والصفيحات الدموية ومجموعة كاملة من أنواع الخلايا البيض. هذا وتُعطي خلايا جذعية أخرى مختلف مكونات الجلد أو الكبد أو البطانة المعوية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001150.jpg
لقد تم توثيق ولادة خلايا عصبية (عصبونات) في الدماغ البالغ وذلك في الحُصَيْن البشري الذي يعد منطقة مهمة للذاكرة. أما خطوات تلك الولادة، التي تحدث في منطقة التلفيف المسنن من الحصين (انظر الأشكال في الصفحة المقابلة) فقد تم تتبعها أصلا في القوارض. ففي البداية تتقسم خلايا جذعية غير متخصصة (1 في الشكل التفصيلي أعلى الشرح) عند الحد الفاصل بين الطبقة الخلوية الحبيبية (التي تحتوي على الأجسام الخلوية الكروية للعصبونات الحبيبية) وبين النقيرhilus (وهو منطقة مجاورة تحتوي على المحاوير ـ أي الاستطالات التي تبث الإشارات العصبية ـ التابعة للعصبونات الحبيبية). وبعدئذ يهاجر (يرتحل) بعض من الخلايا الناتجة إلى داخل الطبقة الخلوية الحبيبية (2). وأخيرا يتمايز بعض تلك الخلايا إلى عصبونات حبيبية (3) ومعها كامل استطالاتها المميزة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001151.jpg
وفي بعض الأحيان يستطيع دماغ الإنسان البالغ أن يعوِّض الأذية تعويضا جيدا، وذلك بإنشاء اتصالات جديدة بين الخلايا العصبية (العصبونات) الناجية. بيد أنه لا يستطيع أن يرمم ذاته بسبب افتقاره إلى الخلايا الجذعية التي تسمح بتجديد العصبونات، وهذا ـ على أي حال ـ ما كان يعتقده اعتقادا ثابتا معظم المختصين بالبيولوجيا العصبية حتى زمن قريب جدا.
ففي الشهر 11/1998 نشر <S .P. إريكسون> [من مستشفى جامعة سالگرينسكا في السويد] وأحدنا (گيج) [في معهد سولك للدراسات البيولوجية في كاليفورنيا] وبضعة زملاء آخرين أخبارا مذهلة تفيد بأن الدماغ البشري الناضج ينتج روتينيا عصبونات في موقع واحد على الأقل وهو الحُصَيْن hippocampus الذي يعد منطقة مهمة للذاكرة والتعلم. (إن الحصين ليس المكان الذي يختزن الذواكر، بل إنه يساعد على تكوينها بعد تسلمه الدخل (المدخول) input من مناطق دماغية أخرى. فالناس المصابون بأذية حصينية يصعب عليهم اكتساب المعرفة، ولكنهم مع ذلك يستطيعون تذكر المعلومة التي عرفوها قبل الأذية).
يكون العدد المطلق للخلايا الجديدة قليلا بالنسبة إلى العدد الإجمالي للخلايا في الدماغ، ولكن اكتشاف الشهر 11/1998 هذا، أخذًا بالاعتبار الاكتشافات الحديثة لدى الحيوانات، إنما يفتح بعض الآفاق الطبية المثيرة. وتوحي البيانات (المعطيات) الحالية بأن الخلايا الجذعية ربما تصنع عصبونات جديدة في جزء آخر من دماغ الإنسان، كما تقيم (ولو بشكل هاجع) في مواقع إضافية. وهكذا فإن الدماغ البالغ، الذي يرمم نفسه بشكل ضعيف جدا، قد يحمل في الواقع إمكانات كبيرة لتجديد العصبونات. وإذا ما استطاع الباحثون أن يعرفوا كيف يحفزون الخلايا الجذعية الموجودة لإنتاج أعداد مفيدة من الخلايا العصبية العاملة (الوظيفية) في أجزاء مختارة من الدماغ، فإن مثل هذا الإنجاز قد يجعل بالإمكان التخفيف من آثار أي عدد من الاضطرابات التي تتضمن أذية أو موتا للعصبونات، ونذكر من هذه الاضطرابات داء ألزايمر وداء پاركنسون وأنواع الإعاقة التي تصاحب السكتة الدماغية والرضّ الدماغي.
ومع أن اكتشاف أن الدماغ البشري الناضج يستطيع توليد عصبونات كان أمرا مفاجئا، فقد سبق أن ظهرت في الواقع ولعدة سنين تلميحات توحي بذلك في دراسات على الثدييات البالغة الأخرى. فقبل عام 1965 على سبيل المثال وصف <J. التمان> و<G. داس> [من معهد ماساتشوستس للتقانة] قيام حصين الجرذان البالغة بإنتاج عصبونات (وهي عملية تعرف باسم تنشؤ النسيج العصبي neurogenesis) وكان ذلك بالتحديد في المنطقة الحصينية المعروفة باسم التلفيف المُسَنَّن dentate gyrus، وهي المنطقة نفسها التي وجدت فيها الآن لدى الإنسان.
تلميحات مبكرة... وشكوك
أكدت دراسات أخرى لاحقا ما جاء في تقرير ألتمان وداس، ولكن معظم الباحثين لم يروا في هذه المعلومات دليلا على حدوث تنشؤ مهم للنسيج العصبي في الثدييات البالغة أو إشارة إلى أنه حتى دماغ الإنسان قد يكون لديه إمكانات تجديدية. ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن الوسائل التي كانت متاحة حينذاك لم تستطع تقدير عدد العصبونات التي تولدت تقديرا دقيقا، كما لم تستطع أن تثبت بصورة قطعية أن الخلايا الجديدة كانت عصبونات حقا. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم الخلايا الجذعية الدماغية لم يكن قد طرح حتى ذلك الوقت. ولذلك اعتقد الباحثون أن ظهور خلايا عصبية جديدة أمر يتطلب أن تقوم خلايا ناضجة تماما بالتنسخ ـ وهو أمر صعب إلى درجة لا تصدق. وكذلك قلل العلماء من أهمية علاقة هذه الاكتشافات بالدماغ البشري، وذلك (جزئيا) بسبب عدم توصل أحد ما حتى ذلك الوقت إلى الكشف عن دليل جلي على تنشؤ النسيج العصبي عند النسانيس والقرود التي هي من الرئيسيات وبالتالي فهي الأقرب للبشر جينيا وفيزيولوجيا من الثدييات الأخرى.
وتوقفت الأمور عند هذا الحد حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين حينما هلّل العاملون في هذا الحقل للنتائج المذهلة التي قدّمها <F. نوتيبوم> [من جامعة روكفلر] عن طيور الكناري البالغة. فقد اكتشف حدوث تنشؤ النسيج العصبي في المراكز الدماغية المسؤولة عن تعلم الغناء لديها، كما اكتشف علاوة على ذلك أن هذه السيرورة تتسارع أثناء الفصول التي تتعلم الطيور البالغة خلالها أغانيها. وكذلك أظهر نوتيبوم ومعاونوه أن تكوُّن العصبونات في حُصَين عصافير القُرْقُف (الأمريكي) chickadees ارتفع أثناء الفصول التي كانت تفرض على جهاز الذاكرة عند تلك الطيور متطلبات ملحة، ولا سيما حينما كان على هذه الطيور أن تتَتَبّع مواضع خزن الغذاء التي كان تشتتها يتزايد. وهكذا أدت نتائج نوتيبوم المثيرة إلى إيقاظ مجدد للاهتمام بتنشؤ النسيج العصبي لدى الثدييات البالغة، وجعلت الباحثين يفكرون مجددا فيما إذا كان الدماغ البشري الناضج يمتلك إمكانات تجديدية من أي نوع.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001152.jpghttp://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001153.jpg
يتضمن البرهان على تكون العصبونات في الدماغ البشري الناضج هذه الصور المكروية (المجهرية) لنسيج حُصيني مأخوذ من بالغين ماتوا بالسرطان. وتسم هذه الصور (الملتقطة بطرائق مختلفة) العصبونات بلون أحمر، أما اللون الأخضر البادي في عصبون في الصورة اليسرى، وكذلك الظل الأسود الظاهر في عصبون في الصورة اليمنى، فإنهما يكشفان عن أن صبغيات الخلايا تؤوي مادة (هي البرومو دي أوكسي يوريدين BrdU) التي كانت قد حقنت في المرضى لتقدير النمو الورمي. فهذه المادة تم اندماجها داخل دنا DNA الخلايا المنقسمة (مثل الخلايا الجذعية)، في حين لا تحتفظ بها العصبونات التي كانت قد تمايزت مسبقا. ولذلك، فإن وجودها ينم عن أن الخلايا الموسومة لم تتمايز إلى عصبونات إلا بعد إعطاء المادة BrdU في مرحلة متأخرة من حياة المرضى.
ولكن التفاؤل في شأن إمكانية تنشؤ النسيج العصبي البشري لم يدم طويلا. ففي الوقت نفسه تقريبا تصدى <P. راكيك> وشركاؤه [في جامعة ييل] لدراسة تنشؤ النسيج العصبي في الرئيسيات البالغة. ومع أن هذا العمل قد أجري بشكل جيد، أخذا في الاعتبار الإمكانات المحدودة حينذاك، فإنه أخفق في العثور على عصبونات دماغية جديدة في نسانيس الريسوس النامية.
وكذلك كان للمنطق باع في الجدل ضد تولد العصبونات في الدماغ البشري البالغ. فقد عرف البيولوجيون أن مدى تنشؤ النسيج العصبي تزايدت محدوديته خلال عملية التطور حين ازداد الدماغ تعقيدا. فبينما تتمتع العظايا والحيوانات الدنيا الأخرى بخاصية تجديد العصبونات على نطاق واسع حينما تتأذى أدمغتها، نجد الثدييات تفتقد هذه الاستجابة القوية. وقد بدا من المعقول الافتراض بأن إضافة عصبونات جديدة إلى الدماغ البشري ذي التشبيك المعقد من شأنه أن يهدد التدفق المنتظم للإشارات على طول المسارات pathways الراسخة.
لم تظهر علامات تشير إلى إمكانية وجود خلل في هذا المنطق إلا منذ سنوات قلائل. ففي عام 1997 كشف فريق برئاسة <E. گولد> و<S .B. ماك إيوين> [من روكفلر] وكذلك <E. فوكس> [من المركز الألماني لدراسة الرئيسيات في گوتنگن] حدوث بعض من تنشؤ النسيج العصبي في «حصين» زَبّابَة الشجر(1) tree shrew التي تشبه الرئيسيات. وبعد ذلك، في الشهر 3/1998، وجدوا الظاهرة نفسها في حيوان القِشَّة(2) marmoset. ونشير هنا إلى أن نسانيس القِشة أكثر بُعدا (من الناحية التطورية) عن الإنسان من نسانيس الريسوس، ولكنها مع ذلك تنتمي إلى الرئيسيات.
ودلَّنا مرضى السرطان على الطريق
من الواضح أن مسألة امتلاك البشر مقدرة على تنشؤ النسيج العصبي بعد البلوغ لا يمكن حلها إلا بإجراء دراسات على الناس مباشرة. ولكن مثل هذه الدراسات تبدو مستحيلة؛ لأن الطرائق المستخدمة في تبيان تكوّن عصبونات جديدة عند الحيوانات تبدو غير قابلة للتطبيق على البشر.
وتتباين تلك التقانات، ولكنها تستند عادة إلى حقيقة كون الخلايا قبل انقسامها تُضاعف صبغياتها (كروموزوماتها) مما يمكّن الخلية الوليدة daughter cell من استقبال طاقم كامل من تلك الصبغيات. وفي التجارب على الحيوانات يحقن (يزرق) الباحثون الأفرادَ على نحو نمطي بمادة يمكن اقتفاؤها (يصطلح على تسميتها واسمة marker) من شأنها أن تندمج فقط في دنا DNA الخلايا التي تستعد للانقسام. وتغدو هذه الواسمة جزءا من الدنا في الخلايا الوليدة الناتجة، ومن ثم ترث تلك الواسمة بنات هذه الخلايا الوليدة وجميع الخلايا المتحدرة من الخلايا الأصلية المتقسمة.
وبعد برهة من الزمن، تتمايز بعض الخلايا الموسومة ـ بمعنى أنها تتخصص وتصبح أنواعا محددة من العصبونات أو دِبْقا عصبيا glia (والدبق هو الطائفة الأخرى الرئيسية من الخلايا الموجودة في الدماغ). وبعد إتاحة الوقت الكافي لحدوث التمايز يعمد الباحثون إلى استئصال الدماغ وتقطيعه إلى شرائح رقيقة، ومن ثم يتم صَبْغُ هذه المقاطع لتوضيح العصبونات والدِّبق عند فحصها تحت عدسة المجهر. فالخلايا التي تستبقي الواسمة (كعلامة عن اشتقاقها من الخلايا الأصلية المنقسمة)، والتي تمتلك أيضا نفس خصائص العصبونات التشريحية والكيميائية، يمكن الافتراض بأنها تمايزت إلى خلايا عصبية بعد إدخال الواسمة إلى الجسم. ونشير هنا إلى أن العصبونات المكتملة التمايز لا تنقسم ولا تستطيع دمج الواسمة، ومن ثم فإنها لا تُبدي أية علامات تشير إلى هذه الواسمة.
من الواضح أن البشر الأحياء لا يمكن فحصهم بهذه الطريقة. وقد بقيت هذه العقبة مستعصية لا تقهر إلى أن وفق إريكسون إلى حل بعد إتمامه إجازة تفرغ للبحث قضاها مع مجموعتنا في معهد سولك. وباعتباره طبيبا سريريا، فقد وجد نفسه في يوم من الأيام مناوبا يستقبل المرضى مع مختص بالسرطان. وفيما كان الاثنان يتجاذبان أطراف الحديث، عرف أريكسون أن المادة التي كنا نستعملها كواسمة للخلايا المنقسمة عند الحيوانات (وهي برومو دي أوكسي يوريدين ـ BrdU) كانت تُعطى ـ مصادفة ـ لبعض مرضى سرطان اللسان أو الحنجرة الذين يقضون أيامهم الأخيرة. وقد شكل هؤلاء المرضى جزءا من دراسة كانت تحقن ذلك المركب بغية رصد النمو الورمي.
تحقق إريكسون من أنه إذا استطاع الحصول على حُصَين مرضى تلك الدراسة الذين قضوا نحبهم في النهاية، فإن التحاليل التي تتم في معهد سولك تستطيع تحديد العصبونات ورؤية ما إذا كان أي منها يُظهِر واسمة الدنا. وسيعني وجود المادة BrdU أن العصبونات المصابة قد تكونت بعد إعطاء تلك المادة. وبكلمات أخرى، يمكن لهذه الدراسة أن تبرهن على أن تنشؤ النسيج العصبي ربما يكون قد حدث عبر تكاثر خلايا جذعية وتمايزها أثناء الحياة البالغة للمرضى.
لقد حصل إريكسون على موافقة المرضى لاستقصاء أدمغتهم بعد الموت. ففي الفترة ما بين أوائل عام 1996 والشهر2/1998 أسرع إلى المستشفى وأُعطي أنسجة دماغية لخمسة من هؤلاء المرضى الذين ماتوا عن أعمار تراوحت بين 57 و 72 سنة. وكما كان الأمل، فقد أظهرت الأدمغة الخمسة عصبونات جديدة (ولا سيما تلك التي تُعرف باسم الخلايا الحبيبيةgranule cells ) في التلفيف المسنن. لقد تبرع هؤلاء المرضى بأدمغتهم لتلك الغاية، ونحن ندين لكرمهم هذا بحصولنا على ذلك الدليل الذي يشير إلى تنشؤ النسيج العصبي في الإنسان البالغ. (توافق أن نشرت مجموعتا گولد وراكيك إفادة بأن إنتاج خلايا عصبية يحدث بالفعل في حصين نسانيس الريسوس البالغة، في الوقت نفسه الذي نشر فيه إريكسون دراسته).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد مايو - يونية 2000
خلايا عصبية جديدة لأدمغة البالغين(*)
خلافا للاعتقاد السائد فإن دماغ الإنسان ينتج خلايا عصبية
جديدة في سن البلوغ. فهل يمكن لهذه المقدرة التي اكتشفناها
حديثا أن تقود إلى معالجات أفضل للأمراض العصبية؟
<G. كيمپرمان> ـ <H .F. گيج>
إذا جُرح جلدك فإن الجرح ينغلق عادة في غضون أيام. وإذا كُسرت رجلك يترمم الكسر بشكل عادي إذا أعيد وضع العظم بصورة صحيحة. وفي الواقع تستطيع جميع النسج البشرية تقريبا أن تصلح ذاتها إلى حد ما طوال حياة الإنسان. فهناك خلايا جذعية stem cells رائعة هي المسؤولة عن جانب كبير من هذه الفعالية activity. وتشبه هذه الخلايا المتعددة الاستعمالات versatile خلايا الجنين المتنامي في قابليتها للتكاثر إلى ما لانهاية تقريبا ولتوليد ليس نسخا طبق الأصل من ذواتها فحسب، بل وكذلك عدة أنواع مختلفة من الخلايا. وتقدم نماذجها الموجودة في نقي العظام مثالا مثيرا على ذلك. فهي تستطيع أن تنشئ جميع خلايا الدم: الخلايا الحمر والصفيحات الدموية ومجموعة كاملة من أنواع الخلايا البيض. هذا وتُعطي خلايا جذعية أخرى مختلف مكونات الجلد أو الكبد أو البطانة المعوية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001150.jpg
لقد تم توثيق ولادة خلايا عصبية (عصبونات) في الدماغ البالغ وذلك في الحُصَيْن البشري الذي يعد منطقة مهمة للذاكرة. أما خطوات تلك الولادة، التي تحدث في منطقة التلفيف المسنن من الحصين (انظر الأشكال في الصفحة المقابلة) فقد تم تتبعها أصلا في القوارض. ففي البداية تتقسم خلايا جذعية غير متخصصة (1 في الشكل التفصيلي أعلى الشرح) عند الحد الفاصل بين الطبقة الخلوية الحبيبية (التي تحتوي على الأجسام الخلوية الكروية للعصبونات الحبيبية) وبين النقيرhilus (وهو منطقة مجاورة تحتوي على المحاوير ـ أي الاستطالات التي تبث الإشارات العصبية ـ التابعة للعصبونات الحبيبية). وبعدئذ يهاجر (يرتحل) بعض من الخلايا الناتجة إلى داخل الطبقة الخلوية الحبيبية (2). وأخيرا يتمايز بعض تلك الخلايا إلى عصبونات حبيبية (3) ومعها كامل استطالاتها المميزة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001151.jpg
وفي بعض الأحيان يستطيع دماغ الإنسان البالغ أن يعوِّض الأذية تعويضا جيدا، وذلك بإنشاء اتصالات جديدة بين الخلايا العصبية (العصبونات) الناجية. بيد أنه لا يستطيع أن يرمم ذاته بسبب افتقاره إلى الخلايا الجذعية التي تسمح بتجديد العصبونات، وهذا ـ على أي حال ـ ما كان يعتقده اعتقادا ثابتا معظم المختصين بالبيولوجيا العصبية حتى زمن قريب جدا.
ففي الشهر 11/1998 نشر <S .P. إريكسون> [من مستشفى جامعة سالگرينسكا في السويد] وأحدنا (گيج) [في معهد سولك للدراسات البيولوجية في كاليفورنيا] وبضعة زملاء آخرين أخبارا مذهلة تفيد بأن الدماغ البشري الناضج ينتج روتينيا عصبونات في موقع واحد على الأقل وهو الحُصَيْن hippocampus الذي يعد منطقة مهمة للذاكرة والتعلم. (إن الحصين ليس المكان الذي يختزن الذواكر، بل إنه يساعد على تكوينها بعد تسلمه الدخل (المدخول) input من مناطق دماغية أخرى. فالناس المصابون بأذية حصينية يصعب عليهم اكتساب المعرفة، ولكنهم مع ذلك يستطيعون تذكر المعلومة التي عرفوها قبل الأذية).
يكون العدد المطلق للخلايا الجديدة قليلا بالنسبة إلى العدد الإجمالي للخلايا في الدماغ، ولكن اكتشاف الشهر 11/1998 هذا، أخذًا بالاعتبار الاكتشافات الحديثة لدى الحيوانات، إنما يفتح بعض الآفاق الطبية المثيرة. وتوحي البيانات (المعطيات) الحالية بأن الخلايا الجذعية ربما تصنع عصبونات جديدة في جزء آخر من دماغ الإنسان، كما تقيم (ولو بشكل هاجع) في مواقع إضافية. وهكذا فإن الدماغ البالغ، الذي يرمم نفسه بشكل ضعيف جدا، قد يحمل في الواقع إمكانات كبيرة لتجديد العصبونات. وإذا ما استطاع الباحثون أن يعرفوا كيف يحفزون الخلايا الجذعية الموجودة لإنتاج أعداد مفيدة من الخلايا العصبية العاملة (الوظيفية) في أجزاء مختارة من الدماغ، فإن مثل هذا الإنجاز قد يجعل بالإمكان التخفيف من آثار أي عدد من الاضطرابات التي تتضمن أذية أو موتا للعصبونات، ونذكر من هذه الاضطرابات داء ألزايمر وداء پاركنسون وأنواع الإعاقة التي تصاحب السكتة الدماغية والرضّ الدماغي.
ومع أن اكتشاف أن الدماغ البشري الناضج يستطيع توليد عصبونات كان أمرا مفاجئا، فقد سبق أن ظهرت في الواقع ولعدة سنين تلميحات توحي بذلك في دراسات على الثدييات البالغة الأخرى. فقبل عام 1965 على سبيل المثال وصف <J. التمان> و<G. داس> [من معهد ماساتشوستس للتقانة] قيام حصين الجرذان البالغة بإنتاج عصبونات (وهي عملية تعرف باسم تنشؤ النسيج العصبي neurogenesis) وكان ذلك بالتحديد في المنطقة الحصينية المعروفة باسم التلفيف المُسَنَّن dentate gyrus، وهي المنطقة نفسها التي وجدت فيها الآن لدى الإنسان.
تلميحات مبكرة... وشكوك
أكدت دراسات أخرى لاحقا ما جاء في تقرير ألتمان وداس، ولكن معظم الباحثين لم يروا في هذه المعلومات دليلا على حدوث تنشؤ مهم للنسيج العصبي في الثدييات البالغة أو إشارة إلى أنه حتى دماغ الإنسان قد يكون لديه إمكانات تجديدية. ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن الوسائل التي كانت متاحة حينذاك لم تستطع تقدير عدد العصبونات التي تولدت تقديرا دقيقا، كما لم تستطع أن تثبت بصورة قطعية أن الخلايا الجديدة كانت عصبونات حقا. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم الخلايا الجذعية الدماغية لم يكن قد طرح حتى ذلك الوقت. ولذلك اعتقد الباحثون أن ظهور خلايا عصبية جديدة أمر يتطلب أن تقوم خلايا ناضجة تماما بالتنسخ ـ وهو أمر صعب إلى درجة لا تصدق. وكذلك قلل العلماء من أهمية علاقة هذه الاكتشافات بالدماغ البشري، وذلك (جزئيا) بسبب عدم توصل أحد ما حتى ذلك الوقت إلى الكشف عن دليل جلي على تنشؤ النسيج العصبي عند النسانيس والقرود التي هي من الرئيسيات وبالتالي فهي الأقرب للبشر جينيا وفيزيولوجيا من الثدييات الأخرى.
وتوقفت الأمور عند هذا الحد حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين حينما هلّل العاملون في هذا الحقل للنتائج المذهلة التي قدّمها <F. نوتيبوم> [من جامعة روكفلر] عن طيور الكناري البالغة. فقد اكتشف حدوث تنشؤ النسيج العصبي في المراكز الدماغية المسؤولة عن تعلم الغناء لديها، كما اكتشف علاوة على ذلك أن هذه السيرورة تتسارع أثناء الفصول التي تتعلم الطيور البالغة خلالها أغانيها. وكذلك أظهر نوتيبوم ومعاونوه أن تكوُّن العصبونات في حُصَين عصافير القُرْقُف (الأمريكي) chickadees ارتفع أثناء الفصول التي كانت تفرض على جهاز الذاكرة عند تلك الطيور متطلبات ملحة، ولا سيما حينما كان على هذه الطيور أن تتَتَبّع مواضع خزن الغذاء التي كان تشتتها يتزايد. وهكذا أدت نتائج نوتيبوم المثيرة إلى إيقاظ مجدد للاهتمام بتنشؤ النسيج العصبي لدى الثدييات البالغة، وجعلت الباحثين يفكرون مجددا فيما إذا كان الدماغ البشري الناضج يمتلك إمكانات تجديدية من أي نوع.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001152.jpghttp://www.oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N5-6_H05_001153.jpg
يتضمن البرهان على تكون العصبونات في الدماغ البشري الناضج هذه الصور المكروية (المجهرية) لنسيج حُصيني مأخوذ من بالغين ماتوا بالسرطان. وتسم هذه الصور (الملتقطة بطرائق مختلفة) العصبونات بلون أحمر، أما اللون الأخضر البادي في عصبون في الصورة اليسرى، وكذلك الظل الأسود الظاهر في عصبون في الصورة اليمنى، فإنهما يكشفان عن أن صبغيات الخلايا تؤوي مادة (هي البرومو دي أوكسي يوريدين BrdU) التي كانت قد حقنت في المرضى لتقدير النمو الورمي. فهذه المادة تم اندماجها داخل دنا DNA الخلايا المنقسمة (مثل الخلايا الجذعية)، في حين لا تحتفظ بها العصبونات التي كانت قد تمايزت مسبقا. ولذلك، فإن وجودها ينم عن أن الخلايا الموسومة لم تتمايز إلى عصبونات إلا بعد إعطاء المادة BrdU في مرحلة متأخرة من حياة المرضى.
ولكن التفاؤل في شأن إمكانية تنشؤ النسيج العصبي البشري لم يدم طويلا. ففي الوقت نفسه تقريبا تصدى <P. راكيك> وشركاؤه [في جامعة ييل] لدراسة تنشؤ النسيج العصبي في الرئيسيات البالغة. ومع أن هذا العمل قد أجري بشكل جيد، أخذا في الاعتبار الإمكانات المحدودة حينذاك، فإنه أخفق في العثور على عصبونات دماغية جديدة في نسانيس الريسوس النامية.
وكذلك كان للمنطق باع في الجدل ضد تولد العصبونات في الدماغ البشري البالغ. فقد عرف البيولوجيون أن مدى تنشؤ النسيج العصبي تزايدت محدوديته خلال عملية التطور حين ازداد الدماغ تعقيدا. فبينما تتمتع العظايا والحيوانات الدنيا الأخرى بخاصية تجديد العصبونات على نطاق واسع حينما تتأذى أدمغتها، نجد الثدييات تفتقد هذه الاستجابة القوية. وقد بدا من المعقول الافتراض بأن إضافة عصبونات جديدة إلى الدماغ البشري ذي التشبيك المعقد من شأنه أن يهدد التدفق المنتظم للإشارات على طول المسارات pathways الراسخة.
لم تظهر علامات تشير إلى إمكانية وجود خلل في هذا المنطق إلا منذ سنوات قلائل. ففي عام 1997 كشف فريق برئاسة <E. گولد> و<S .B. ماك إيوين> [من روكفلر] وكذلك <E. فوكس> [من المركز الألماني لدراسة الرئيسيات في گوتنگن] حدوث بعض من تنشؤ النسيج العصبي في «حصين» زَبّابَة الشجر(1) tree shrew التي تشبه الرئيسيات. وبعد ذلك، في الشهر 3/1998، وجدوا الظاهرة نفسها في حيوان القِشَّة(2) marmoset. ونشير هنا إلى أن نسانيس القِشة أكثر بُعدا (من الناحية التطورية) عن الإنسان من نسانيس الريسوس، ولكنها مع ذلك تنتمي إلى الرئيسيات.
ودلَّنا مرضى السرطان على الطريق
من الواضح أن مسألة امتلاك البشر مقدرة على تنشؤ النسيج العصبي بعد البلوغ لا يمكن حلها إلا بإجراء دراسات على الناس مباشرة. ولكن مثل هذه الدراسات تبدو مستحيلة؛ لأن الطرائق المستخدمة في تبيان تكوّن عصبونات جديدة عند الحيوانات تبدو غير قابلة للتطبيق على البشر.
وتتباين تلك التقانات، ولكنها تستند عادة إلى حقيقة كون الخلايا قبل انقسامها تُضاعف صبغياتها (كروموزوماتها) مما يمكّن الخلية الوليدة daughter cell من استقبال طاقم كامل من تلك الصبغيات. وفي التجارب على الحيوانات يحقن (يزرق) الباحثون الأفرادَ على نحو نمطي بمادة يمكن اقتفاؤها (يصطلح على تسميتها واسمة marker) من شأنها أن تندمج فقط في دنا DNA الخلايا التي تستعد للانقسام. وتغدو هذه الواسمة جزءا من الدنا في الخلايا الوليدة الناتجة، ومن ثم ترث تلك الواسمة بنات هذه الخلايا الوليدة وجميع الخلايا المتحدرة من الخلايا الأصلية المتقسمة.
وبعد برهة من الزمن، تتمايز بعض الخلايا الموسومة ـ بمعنى أنها تتخصص وتصبح أنواعا محددة من العصبونات أو دِبْقا عصبيا glia (والدبق هو الطائفة الأخرى الرئيسية من الخلايا الموجودة في الدماغ). وبعد إتاحة الوقت الكافي لحدوث التمايز يعمد الباحثون إلى استئصال الدماغ وتقطيعه إلى شرائح رقيقة، ومن ثم يتم صَبْغُ هذه المقاطع لتوضيح العصبونات والدِّبق عند فحصها تحت عدسة المجهر. فالخلايا التي تستبقي الواسمة (كعلامة عن اشتقاقها من الخلايا الأصلية المنقسمة)، والتي تمتلك أيضا نفس خصائص العصبونات التشريحية والكيميائية، يمكن الافتراض بأنها تمايزت إلى خلايا عصبية بعد إدخال الواسمة إلى الجسم. ونشير هنا إلى أن العصبونات المكتملة التمايز لا تنقسم ولا تستطيع دمج الواسمة، ومن ثم فإنها لا تُبدي أية علامات تشير إلى هذه الواسمة.
من الواضح أن البشر الأحياء لا يمكن فحصهم بهذه الطريقة. وقد بقيت هذه العقبة مستعصية لا تقهر إلى أن وفق إريكسون إلى حل بعد إتمامه إجازة تفرغ للبحث قضاها مع مجموعتنا في معهد سولك. وباعتباره طبيبا سريريا، فقد وجد نفسه في يوم من الأيام مناوبا يستقبل المرضى مع مختص بالسرطان. وفيما كان الاثنان يتجاذبان أطراف الحديث، عرف أريكسون أن المادة التي كنا نستعملها كواسمة للخلايا المنقسمة عند الحيوانات (وهي برومو دي أوكسي يوريدين ـ BrdU) كانت تُعطى ـ مصادفة ـ لبعض مرضى سرطان اللسان أو الحنجرة الذين يقضون أيامهم الأخيرة. وقد شكل هؤلاء المرضى جزءا من دراسة كانت تحقن ذلك المركب بغية رصد النمو الورمي.
تحقق إريكسون من أنه إذا استطاع الحصول على حُصَين مرضى تلك الدراسة الذين قضوا نحبهم في النهاية، فإن التحاليل التي تتم في معهد سولك تستطيع تحديد العصبونات ورؤية ما إذا كان أي منها يُظهِر واسمة الدنا. وسيعني وجود المادة BrdU أن العصبونات المصابة قد تكونت بعد إعطاء تلك المادة. وبكلمات أخرى، يمكن لهذه الدراسة أن تبرهن على أن تنشؤ النسيج العصبي ربما يكون قد حدث عبر تكاثر خلايا جذعية وتمايزها أثناء الحياة البالغة للمرضى.
لقد حصل إريكسون على موافقة المرضى لاستقصاء أدمغتهم بعد الموت. ففي الفترة ما بين أوائل عام 1996 والشهر2/1998 أسرع إلى المستشفى وأُعطي أنسجة دماغية لخمسة من هؤلاء المرضى الذين ماتوا عن أعمار تراوحت بين 57 و 72 سنة. وكما كان الأمل، فقد أظهرت الأدمغة الخمسة عصبونات جديدة (ولا سيما تلك التي تُعرف باسم الخلايا الحبيبيةgranule cells ) في التلفيف المسنن. لقد تبرع هؤلاء المرضى بأدمغتهم لتلك الغاية، ونحن ندين لكرمهم هذا بحصولنا على ذلك الدليل الذي يشير إلى تنشؤ النسيج العصبي في الإنسان البالغ. (توافق أن نشرت مجموعتا گولد وراكيك إفادة بأن إنتاج خلايا عصبية يحدث بالفعل في حصين نسانيس الريسوس البالغة، في الوقت نفسه الذي نشر فيه إريكسون دراسته).