محمد عريف
03-01-2010, 07:27 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم بعددها الصادر في ابريل 2002
http://www.oloommagazine.com/Images/Magazines/4-2002.jpg
حوسبة بالجزيئات(*)
أنتج الباحثون جزيئات تعمل كدارات وصل وفصل(1) وكأسلاك وتؤدي
حتى دور الذاكرة. ولكن ربط العديد من هذه الأدوات بعضها ببعض يطرح تحديات هائلة.
<A.M. ريد> ـ <M.J. تور>
إلى أي درجة يمكن أن تصبح الحواسيب سريعة وفعالة؟ وهل من الممكن يوما ما تكوين أدمغة «صنعية» لها قدرات عقلية مساوية ـ أو تفوق ـ القدرات البشرية؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تعتمد اعتمادا كبيرا على عامل واحد فقط: مقدار درجة الصِّغر والكثافة التي يمكن أن نصل إليها في صنعنا للدارات الحاسوبية.
إن قلة من الباحثين، إن وجدت، تعتقد أن تقاناتنا الحالية ـ القائمة على شبه الموصلات للإلكترونيات الميكروية بالحالة الصلبة ـ ستطور دارة على درجة من الكثافة والتعقيد بحيث تكفي لنشوء قدرات استعرافية حقيقية. وحتى حديثا، ليس بين التقانات التي اقترحت كبدائل متقدمة لإلكترونيات الحالة الصلبة، تقانة تعِد بما يكفي من التصغير. بيد أن العلماء حققوا خلال عام 1999 تقدما ثوريا قد يغير جذريا مستقبل الحوسبة. ومع أن الطريق بين الحواسيب الحالية وبين الماكينات الذكية لاتزال طويلة، وقد تعتورها فجوات غير قابلة للرأب، فإن حقيقة وجود مسار كامن يعتبر نوعا من الانتصار.
إن التقدم الذي تحقق مؤخرا كان في الإلكترونيات بالمقياس الجزيئي، في حقل انبثق من فرضية منطقية ترى أنه بالإمكان بناء جزيئات منفردة بوسعها إنجاز وظائف مثيلة أو مطابقة لوظيفة الترانزستور والديود (الصمام الثنائي) diode والموصلات (النواقل) والمكونات الأساسية الأخرى للدارات الميكروية الحالية. وبعد فترة تخللتها آمال كبار ولكن لم ترافقها سوى حفنة من النتائج الملموسة، حدثت تطورات عديدة في السنوات القليلة الفائتة رفعت مستوى التوقعات المأمولة بأن هذه التقانة قد توفر يوما لبنات لأجيال قادمة من الإلكترونيات الفائقة الصغر والكثافة للمنطق الحاسوبي. وفي مجموعات مذهلة من البراهين، أوضح كيميائيون وفيزيائيون ومهندسون بأن الجزيئات الإفرادية تستطيع أن توصل التيار الكهربائي وأن تحوله، وبوسعها أيضا اختزان المعلومات.
وفي الشهر 7/1999 أعلن باحثون [من شركة هوليتّ ـ پاكارد ومن جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] عن إنجاز لاقى صدى واسعا في الصحافة الشعبية تمثَّل ببنائهم دارة وصل وفصل (قطع) إلكترونية تتألف من طبقة لملايين عديدة من جزيئات مادة عضوية عرفت باسم الروتاكسان(2). وبربطهم لعدد من دارات الوصل والفصل هذه، أنتج الباحثون نسخة أولية لبوابة منطقية(3) «و» DNA، وهي أداة تؤدي عملية منطقية أساسية. وبمعدل يفوق مليونا من الجزيئات للقطعة الواحدة، فإن دارات الوصل والفصل كانت أكبر بكثير مما يُرغب فيه. ويمكن لهذه الدارات أن تعمل مرة واحدة فقط قبل أن تفقد قدرتها على العمل. بيد أن تجميع هذه الجزيئات لتقوم بدور بوابة منطقية اعتبر ذا أهمية جوهرية.
وبعد أشهر قليلة من ذلك الإعلان، نشر باحثو فريقنا [من جامعتي ييل ورايس] نتائج لأبحاث أجريت على صنف مختلف من الجزيئات عملت كدارات وصل وفصل عكوسة(4). وبعد انقضاء شهر قمنا بتوصيف جزيء أنشأناه صنعيا بوسعه تغيير موصليته (ناقليته) الكهربائية باختزانه إلكترونات بحسب الطلب، فيعمل كأداة للتذكر.
ولكي نصنع دارتنا للوصل والفصل، غرزنا مناطق في الجزيئات تأسر الإلكترونات فقط عندما تخضع هذه الجزيئات لڤلطيات(5) معينة. وهكذا، فإن درجة مقاومة الجزيئات لجريان الإلكترونات كانت منوطة بالڤلطية التي تطبق على هذه الجزيئات. وبتغييرنا عمليا للڤلطية، نستطيع أن نغير الجزيئات تكراريا عندما نريد ذلك، من حالة توصيل إلى حالة عدم توصيل، وهذا هو الشرط الأساسي لدارة وصل وفصل كهربائية. إن هذه الأداة البالغة الصغر تتألف في الحقيقة من طبقة لنحو ألف جزيء من بنزوتيول النتروأمين(6) تتموضع بين تماسين معدنيين.
لقد أدركنا، بعد إنشائنا لدارة الوصل والفصل هذه، أننا لو أعدنا تصميم الجزيئات بحيث تحتفظ بالإلكترونات وليس فقط أن تأسرها لبرهة وجيزة، فقد نحصل على أداة تعمل كعنصر ذاكرة. فعملنا على المنطقة الآسرة للجزيء، وعدلناها بحيث يمكن تغيير موصليتها(7) تغييرا تكراريا. وهكذا حصلنا على «ممص إلكتروني»(8) بوسعه الاحتفاظ بالإلكترونات نحو عشر دقائق مقارنة ببضعة أجزاء من ألف من الثانية (بضعة ملي ثوان) من أجل ذاكرة تداول انتقائي(9) دينامية معهودة سيليكونية الأساس.
ومع أن التقدم كان مشجعا، فإن التحديات ظلت هائلة. فإنشاء أدوات إفرادية يمثل الخطوة الأساسية الأولى؛ ولكن قبل أن نبني دارات كاملة ومفيدة، علينا أن نجد طريقة ما تضمن إنشاء ملايين (إن لم يكن بلايين) عديدة من أدوات جزيئية متنوعة الأنماط، تستقر على سطح ما غير متحرك، وتُربط هذه الأدوات بعضها ببعض وفقا للأسلوب وللنمط اللذين تمليهما علينا مخططاتنا للدارات. إن التقانة لاتزال على درجة من الحداثة بحيث يتعذر الجزم منذ الآن بأن هذا التحدي الضخم سيتم التغلب عليه.
نهاية معالم الطريق(**)
وبالنظر إلى عِظَم تحديات المستقبل، يحق لنا أن نتساءل لماذا يركز الباحثون، وحتى وسائل الإعلام السائدة، اهتمامهم على التقدم الذي تم مؤخرا؟ إن الإجابة تتعلق باعتماد المجتمع الصناعي على الإلكترونيات الميكروية، وترتبط بالتقييدات التي تخصص طبيعة تقانة اليوم.
إن تلك الطبيعة (الحالة الصلبة والمبنية على السيليكون) تنبثق منطقيا من أكثر البديهيات شهرة في التقانة: قانون مور Moore. وينص هذا القانون على أن عدد الترانزستورات التي يمكن صنعها على دارة سيليكونية تكاملية (وبناء على ذلك سرعة الحوسبة لدارة من هذا النمط] يتضاعف كل 18 إلى 24 شهرا. وبعد متابعة هذا المنحني الاستثنائي أربعة عقود نلحظ أن الإلكترونيات الميكروية للجسم الصلب تقدمت إلى درجة تمكن معها المهندسون من وضع مئة مليون ترانزستور على شظية سيليكونية مساحتها سنتيمترات مربعة قليلة، وببعد قدره 0.18 ميكرون كسمة أساسية لكل ترانزستور.
ولاتزال هذه الترانزستورات أكبر بكثير من الأدوات ذات الأبعاد الجزيئية. ولوضع فَرْق الكُبر في نصابه الصحيح نلاحظ أنه إذا كبّرنا مساحة الترانزستور المعهود ليحتل الصفحة التي تقرؤها فإن مساحة الأداة الجزيئية ستكون النقطة التي تنتهي بها هذه الجملة. وحتى بعد دستة من السنوات، يُتوقع أن تقلص التحسينات الصناعية طول الترانزستور السيليكوني إلى 120 نانومترا تقريبا، فإنه سيظل أكبر بستين ألف مرة من مساحة الأداة الإلكترونية الجزيئية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002286.jpg
قد تبدو دارة الإلكترونيات الجزيئية شبيهة بهذا التصور الذي وضعه أحد المؤلفيْن (ريد). والأدوات الجزيئية هي تلك الأشياء الأسطوانية البالغة الصغر التي تبرز من الكرات التي هي إما جسيمات شبه موصلة تعمل كعناصر ذاكرة (الخضر)، أو جسيمات من الذهب تعمل كوصلات كهربائية. وتمثل العصي السود الكبيرة في الشكل أنابيب كربونية نانوية، تعمل أيضا كوصلات كهربائية. أما اللِبادات السود المستطيلة الشكل الأكبر حجما، فهي وصلات تم تصنيعها بالطباعة الحجرية لتصل ما بين الدارات الخارجية الأكبر والمعهودة أكثر في طبيعتها.
زد على ذلك أن أحدا لا يتوقع أن الإلكترونيات الميكروية القائمة على السيليكون ستظل تخضع باستمرار إلى قانون «مور». وفي وقت ما سيجد مصنِّعو الشيپات أنه من العسير اقتصاديا الاستمرار في تصغير الإلكترونيات الميكروية. فكلما رزموا ترانزستورات أكثر على شيپة، فإن ظواهر معينة، كالإشارات التائهة على الشيپة، وضرورة تبديد الحرارة من هذا العدد الكبير من الترانزستورات الشديدة الارتزام، وقبل هذا وذاك صعوبة تكوين هذه الترانزستورات، ستوقف أو تبطئ بشدة التقدم المنشود.
وبالفعل، فإن المضايقات الناجمة عن صنع ترانزستورات سيليكونية أكثر صغرا وأشد فاعلية، وكذلك الوصلات بينها، تتفاقم من حيث إزعاجيتها، علما بأنها ليست جوهرية حتى الآن. وتتوقع كثرة من الخبراء تعاظم هذه التحديات على نحو مثير جدا، وذلك باقتراب الترانزستورات من مستوى 0.1 ميكرون. وبالنظر إلى هذه الصعوبات وأخرى غيرها، فإن الازدياد الأُسّي في كثافة الترانزستورات، وفي معدلات المعالجة الخاصة بالدارة التكاملية، سيظل قائما فقط بسبب وجود ارتفاع أُسي مماثل في الإنفاق المالي الضروري للوصول إلى التسهيلات التي ستساعد على بناء هذه الشيپات. وفي نهاية المطاف سيتفوق الدافع لتصغير النسب على تلك التسهيلات الفائقة التكلفة، وسيصل السوق إلى حالة توازن. وتتصور كثرة من الباحثين أن هذا التوازن سيحدث نحو عام 2015 أو قبل ذلك، حيث يتوقع أن تبلغ تكلفة التصنيع مئتي بليون دولار. وعندما يحدث ذلك، فإن فترة الانبهار بالتقدمات في قدرة المعالجة لدى الشيپات الحاسوبية ستكون قد استنفدت أغراضها، وستكون أي زيادة جديدة في هذه القدرة مستحيلة من حيث التكلفة.
ومما يؤسف له أن هذا المأزق سيحدث قبل زمن طويل من قدرة الشيپات الحاسوبية على تحقيق القدرة التي تفي ببعض أهم الأهداف التي طالما جهد علم الحاسوب لتحقيقها، كتكوين «أدمغة» إلكترونية شديدة التعقيد تُمكِّن الإنسالات(10) من أداء مهمات فكرية أو استعرافية تضاهئ ما يقوم به الإنسان.
بلايين وبلايين(***)
إن للصِّغر الاستثنائي في حجم الأدوات الجزيئية مزايا تتخطى مجرد المقدرة على رزم أعداد متزايدة من هذه الجزيئات في رقعة صغيرة. ولإدراك هذه الفوائد المهمة يتطلب الأمر فهم كيفية عمل تلك الأدوات، وهذا بدوره يتطلب بعض المعرفة بسلوك الإلكترونيات عندما تُحتجز في مناطق تبلغ في صغرها رتبة الجزيئات أو الذرات.
وبوسع الإلكترونات الحرة أن تتخذ سويات طاقية(11) ضمن طيف متصل من الإمكانيات. ولكن الإلكترونات في الذرات أو الجزيئات تكون ذات سويات طاقية تقتصر على عدد من القيم المتميزة، كدرجة معينة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة مقيدة في مكان متناهي الصغر. وترتب الإلكترونات نفسها في الجزيئات كروابط بين الذرات، وتماثل «سحبا(12)» مبعثرة تسمى مداريات(13). ويتحدد شكل المداري بنمط وهندسة الذرات المكونة له. وكل مداري هو سوية طاقية منفصلة للذرات.
وحتى أصغر الترانزستورات الميكروية المعهودة والتي توجد في دارة تكاملية، فإن هذه الترانزستورات تظل أكبر بكثير من أن تكمم(14) الإلكترونات في داخلها. وتكون حركة الإلكترونات في هذه الأدوات أسيرة الخصائص الفيزيائية (التي تعرف بالبنية العصائبية(15)) لذرات السيليكون المكونة لها. وهذا يعني أن الإلكترونات تتحرك في مادة ما ضمن عصابة سويات طاقية تكون أكبر بكثير إذا ما قورنت بالسويات الطاقية المتاحة في ذرة أو في جزيء منفرد. إن هذا الطيف الواسع من السويات الطاقية المتاحة يسمح للإلكترونات بأن تكتسب ما يكفي من الطاقة كي تتسرب من أداة إلى أخرى بجوارها. وعندما تقترب أبعاد هذه الأدوات المعهودة من رتبة مئات النانومترات، يكون من العسير جدا منع التيارات الكهربائية الضئيلة جدا، والتي تمثل معلومات، من التسرب من أداة إلى أخرى مجاورة. وحقيقة الأمر، إن الترانزستورات تسرب الإلكترونات التي تمثل معلومات، الأمر الذي يجعل من الصعب عليها أن تبقى في حالة «تعطل».
وإضافة إلى تمكين الأدوات الجزيئية من احتواء إلكتروناتها بطريقة أكثر أمانا، فإنه من الممكن أيضا استثمار ظواهر الميكانيك الكمومي في تصميم جزيئات لتأدية وظائف محددة أخرى. فمثلا، لبناء «سلك» جزيئي نحتاج إلى جزيء متطاول، تجري فيه الإلكترونات بسهولة من طرف إلى آخر. والإلكترونات تنزع في أي بنية مكممة (كالجزيء مثلا) إلى أن تتحرك من سوية طاقية أعلى إلى أخرى أخفض. فمن أجل توجيه هذه الحركات، نحتاج أيضا إلى جزيء له مداري فارغ خفيض الطاقة مبعثر عبر أرجاء الجزيء من طرف إلى الطرف الآخر. ويعرف نمطيا المداري الإلكتروني الفارغ خفيض الطاقة بالمداري پاي pi. ويعرف الشكل الثلاثي الأبعاد الذي تتراكب فيه السحب الإلكترونية بين مكون جزيئي ومجاوره بالشكل المقترن conjugated، وهكذا يعرف سلكنا الجزيئي «بنظام پاي المقترن» pi-conjugated system.
بيد أن على أداة ناشطة (كالترانزستور مثلا) أن تعمل أكثر من مجرد السماح للإلكترونات بالجريان، إذ عليها أن تضبط هذا الجريان بشكل أو بآخر. وهكذا، فإن مهمة مهندس الأداة الجزيئية استغلال السويات الطاقية لعالم الميكانيك الكمومي، وبخاصة تصميم جزيئات لمدارياتها خصائص تمكنها من إنجاز التحكم الإلكتروني المطلوب. فمثلا، بتراكب صحيح للمداريات في الجزيء، تأخذ الإلكترونات بالجريان. ولكن إذا ما اضطرب التراكب (بسبب التواء الجزيئات، أو لتأثر هندستها على نحو ما)، يتوقف الجريان. وبعبارة أخرى، المفتاح الخاص بالتحكم على المستوى الجزيئي يتمثل في منابلة عدد الإلكترونات التي يسمح لها بالجريان بطاقة مدارية خفيضة، وذلك عن طريق تشويش التراكب المداري عبر الجزيئات.
إن الطرائق المعيارية للتركيب الكيميائي تسمح للباحثين بتصميم وإنتاج جزيئات ذات ذرات معينة وهندسات وترتيبات مدارية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن تكوين كميات هائلة في آن واحد من هذه الجزيئات، كلها متماثلة ولا عيب فيها. ويصعب كثيرا تحقيق هذا الانتظام في نظم أخرى، كما أن كلفته ستكون عالية جدا إذا ما أنجز على دفعات، كما هي الحال في عملية الطباعة الحجرية (الليثوگرافيا) lithography التي استعملت لإنتاج ملايين الترانزستورات على دارة متكاملة integrated circuit.
إن الطرائق المتبعة في إنتاج أدوات جزيئية هي نفسها التي تتبع في الصناعات الصيدلانية. يبدأ الكيميائيون بمركب، ويحورونه تدريجيا بإضافة كواشف موصوفة تعرف جزيئاتها بأنها ترتبط بجزيئات أخرى في مقرات نوعية specific sites. وقد يمر الإجراء بعدة خطوات، ولكن الأجزاء تترابط تدريجيا بعضها ببعض لتشكل أداة جزيئية محتملة جديدة لها البنية المدارية المرغوبة. وبعد أن يتم صنع الجزيء المطلوب، نستعمل التقانات التحليلية المألوفة، كمطيافية الأشعة تحت الحمراء، والرنين المغنطيسي النووي، والقياس الكتلوي الطيفي، لتعيين بنية الجزيئات وتأكيدها. وتقدم التقانات المذكورة آنفا معلومات متنوعة عن الجزيء، بما في ذلك وزنه الجزيئي ونقطة الوصل، أو زاوية شدفة معينة منه. وبضم هذه المعلومات بعضها إلى بعض، نعين في نهاية كل خطوة بنية الجزيء الجديد الذي يتم تركيبه.
وكانت أبسط أدواتنا الفعالة جزيئا بُني على خيط يتألف من ثلاث حلقات بنزينية، تراكبت فيها المداريات (أي كانت مقترنة) عبر الجزيئات كلها. وقد جعلنا الوصلات بين حلقات البنزين ضعيفة بنيويا بحيث يؤدي أي التواء أو انفتال إلى إضعاف أو تقوية المداريات. وإذا ما استطعنا التحكم في هذه الالتواءات، فإننا سنحصل على أداة جزيئية نستطيع بوساطتها التحكم في جريان التيار، أي سيكون لدينا دارة وصل وفصل.
ولكي نجعل حلقة البنزين في مركز الجزيء، أضفنا الزمرتين NO2 و NH2 على نحو تبرز فيه من الخيط وبعيدا عنه ولتكونا في موضعين متقابلين (إنما غير متناظرين) بالنسبة إلى مركز الحلقة. لقد تركت هذه التشكيلة اللاتناظرية الجزيء مع سحابة إلكترونية شديدة الاضطراب. وتلك السحابة اللاتناظرية المضطربة جعلت بدورها الجزيء شديد الاستعداد للانفتال في الحقل (المجال) الكهربائي: إن تطبيق حقل كهربائي على الجزيء يسبب التواءه. لقد أصبح لدينا الآن أداة فعالة: كلما طبقنا ڤلطية معينة على الجزيء، تشكل لدينا حقل كهربائي يلوي الجزيء ويعوق مرور التيار. ولدى إزالة الڤلطية، يرتد الجزيء إلى شكله الأصلي، ويجري التيار من جديد. وفي تجربة لاحقة وجدنا أن التحويل (الوصل والفصل) المفاجئ من حالة إلى أخرى والذي يحدث في أداتنا المتناهية الصغر يفوق كثيرا ما يحدث في أي أداة جسم صلب مشابهة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002287.jpg
وبطبيعة الحال، فإن تقانة متقدمة كثيرا وسنوات طويلة من الأبحاث هما ما نحتاج إليه لاختبار إحدى هذه الأدوات. ويتمثل التحدي الأساسي بالوصول إلى المجال الليلپيوتي Lilliputian (القزم الخيالي) المتعذر فهمه بغية إحداث التّماس بجزيء متفرد والتآثر معه، وبغية الحصول على معلومات عن سلوك ذلك الجزيء في عالمنا الماكروسكوبي (الكِبري أو العياني).
وكان هذا التقدم مستحيلا لولا اكتشاف المجهر النفقي الماسح scanning tunneling microscope STM في الثمانينات من القرن العشرين بمختبرات IBM البحثية في زوريخ. لقد فتح هذا المجهر للعلماء نافذة يطلون منها على عالم الذرات، وأتاح لهم رؤية ذرات أو جزيئات منفردة ومنابلتها. فبوجود رأس ذري حاد معدني ثُبِّت بدقة فوق سطح ما، يمكن عندئذ تحسس طوبوغرافية (السمات السطحية) السطح بوساطة تيار كهربائي ضعيف جدا من الإلكترونات النفقية يجري بين السطح والرأس الحاد. إن تحريك الرأس إلى الأمام والخلف يرسم صورة دقيقة لتلال السطح ووديانه.
ومع أن تقنية المجهر النفقي الماسح (STM) حاسمة لبناء واختبار كل أداة بمفردها، فإن على كل دارة جزيئية صالحة للاستعمال أن تتألف من عدد هائل من الأدوات ذات تراتب منتظم، مثبتة تثبيتا آمنا على بنية صلبة للحيلولة دون تآثر بعضها مع بعض عشوائيا. ولقد انبثق التقدم الذي سيواجه هذا التحدي الهائل من دراسة الانتظام (التجميع) الذاتي self-assembly؛ ظاهرة تتراتب فيها الذرات أو الجزيئات (أو حتى مجموعة من الجزيئات) تراتبا ذاتيا وعفويا في أنماط منتظمة وحتى في نظم معقدة نسبيا من دون أي تدخّل خارجي.
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم بعددها الصادر في ابريل 2002
http://www.oloommagazine.com/Images/Magazines/4-2002.jpg
حوسبة بالجزيئات(*)
أنتج الباحثون جزيئات تعمل كدارات وصل وفصل(1) وكأسلاك وتؤدي
حتى دور الذاكرة. ولكن ربط العديد من هذه الأدوات بعضها ببعض يطرح تحديات هائلة.
<A.M. ريد> ـ <M.J. تور>
إلى أي درجة يمكن أن تصبح الحواسيب سريعة وفعالة؟ وهل من الممكن يوما ما تكوين أدمغة «صنعية» لها قدرات عقلية مساوية ـ أو تفوق ـ القدرات البشرية؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تعتمد اعتمادا كبيرا على عامل واحد فقط: مقدار درجة الصِّغر والكثافة التي يمكن أن نصل إليها في صنعنا للدارات الحاسوبية.
إن قلة من الباحثين، إن وجدت، تعتقد أن تقاناتنا الحالية ـ القائمة على شبه الموصلات للإلكترونيات الميكروية بالحالة الصلبة ـ ستطور دارة على درجة من الكثافة والتعقيد بحيث تكفي لنشوء قدرات استعرافية حقيقية. وحتى حديثا، ليس بين التقانات التي اقترحت كبدائل متقدمة لإلكترونيات الحالة الصلبة، تقانة تعِد بما يكفي من التصغير. بيد أن العلماء حققوا خلال عام 1999 تقدما ثوريا قد يغير جذريا مستقبل الحوسبة. ومع أن الطريق بين الحواسيب الحالية وبين الماكينات الذكية لاتزال طويلة، وقد تعتورها فجوات غير قابلة للرأب، فإن حقيقة وجود مسار كامن يعتبر نوعا من الانتصار.
إن التقدم الذي تحقق مؤخرا كان في الإلكترونيات بالمقياس الجزيئي، في حقل انبثق من فرضية منطقية ترى أنه بالإمكان بناء جزيئات منفردة بوسعها إنجاز وظائف مثيلة أو مطابقة لوظيفة الترانزستور والديود (الصمام الثنائي) diode والموصلات (النواقل) والمكونات الأساسية الأخرى للدارات الميكروية الحالية. وبعد فترة تخللتها آمال كبار ولكن لم ترافقها سوى حفنة من النتائج الملموسة، حدثت تطورات عديدة في السنوات القليلة الفائتة رفعت مستوى التوقعات المأمولة بأن هذه التقانة قد توفر يوما لبنات لأجيال قادمة من الإلكترونيات الفائقة الصغر والكثافة للمنطق الحاسوبي. وفي مجموعات مذهلة من البراهين، أوضح كيميائيون وفيزيائيون ومهندسون بأن الجزيئات الإفرادية تستطيع أن توصل التيار الكهربائي وأن تحوله، وبوسعها أيضا اختزان المعلومات.
وفي الشهر 7/1999 أعلن باحثون [من شركة هوليتّ ـ پاكارد ومن جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] عن إنجاز لاقى صدى واسعا في الصحافة الشعبية تمثَّل ببنائهم دارة وصل وفصل (قطع) إلكترونية تتألف من طبقة لملايين عديدة من جزيئات مادة عضوية عرفت باسم الروتاكسان(2). وبربطهم لعدد من دارات الوصل والفصل هذه، أنتج الباحثون نسخة أولية لبوابة منطقية(3) «و» DNA، وهي أداة تؤدي عملية منطقية أساسية. وبمعدل يفوق مليونا من الجزيئات للقطعة الواحدة، فإن دارات الوصل والفصل كانت أكبر بكثير مما يُرغب فيه. ويمكن لهذه الدارات أن تعمل مرة واحدة فقط قبل أن تفقد قدرتها على العمل. بيد أن تجميع هذه الجزيئات لتقوم بدور بوابة منطقية اعتبر ذا أهمية جوهرية.
وبعد أشهر قليلة من ذلك الإعلان، نشر باحثو فريقنا [من جامعتي ييل ورايس] نتائج لأبحاث أجريت على صنف مختلف من الجزيئات عملت كدارات وصل وفصل عكوسة(4). وبعد انقضاء شهر قمنا بتوصيف جزيء أنشأناه صنعيا بوسعه تغيير موصليته (ناقليته) الكهربائية باختزانه إلكترونات بحسب الطلب، فيعمل كأداة للتذكر.
ولكي نصنع دارتنا للوصل والفصل، غرزنا مناطق في الجزيئات تأسر الإلكترونات فقط عندما تخضع هذه الجزيئات لڤلطيات(5) معينة. وهكذا، فإن درجة مقاومة الجزيئات لجريان الإلكترونات كانت منوطة بالڤلطية التي تطبق على هذه الجزيئات. وبتغييرنا عمليا للڤلطية، نستطيع أن نغير الجزيئات تكراريا عندما نريد ذلك، من حالة توصيل إلى حالة عدم توصيل، وهذا هو الشرط الأساسي لدارة وصل وفصل كهربائية. إن هذه الأداة البالغة الصغر تتألف في الحقيقة من طبقة لنحو ألف جزيء من بنزوتيول النتروأمين(6) تتموضع بين تماسين معدنيين.
لقد أدركنا، بعد إنشائنا لدارة الوصل والفصل هذه، أننا لو أعدنا تصميم الجزيئات بحيث تحتفظ بالإلكترونات وليس فقط أن تأسرها لبرهة وجيزة، فقد نحصل على أداة تعمل كعنصر ذاكرة. فعملنا على المنطقة الآسرة للجزيء، وعدلناها بحيث يمكن تغيير موصليتها(7) تغييرا تكراريا. وهكذا حصلنا على «ممص إلكتروني»(8) بوسعه الاحتفاظ بالإلكترونات نحو عشر دقائق مقارنة ببضعة أجزاء من ألف من الثانية (بضعة ملي ثوان) من أجل ذاكرة تداول انتقائي(9) دينامية معهودة سيليكونية الأساس.
ومع أن التقدم كان مشجعا، فإن التحديات ظلت هائلة. فإنشاء أدوات إفرادية يمثل الخطوة الأساسية الأولى؛ ولكن قبل أن نبني دارات كاملة ومفيدة، علينا أن نجد طريقة ما تضمن إنشاء ملايين (إن لم يكن بلايين) عديدة من أدوات جزيئية متنوعة الأنماط، تستقر على سطح ما غير متحرك، وتُربط هذه الأدوات بعضها ببعض وفقا للأسلوب وللنمط اللذين تمليهما علينا مخططاتنا للدارات. إن التقانة لاتزال على درجة من الحداثة بحيث يتعذر الجزم منذ الآن بأن هذا التحدي الضخم سيتم التغلب عليه.
نهاية معالم الطريق(**)
وبالنظر إلى عِظَم تحديات المستقبل، يحق لنا أن نتساءل لماذا يركز الباحثون، وحتى وسائل الإعلام السائدة، اهتمامهم على التقدم الذي تم مؤخرا؟ إن الإجابة تتعلق باعتماد المجتمع الصناعي على الإلكترونيات الميكروية، وترتبط بالتقييدات التي تخصص طبيعة تقانة اليوم.
إن تلك الطبيعة (الحالة الصلبة والمبنية على السيليكون) تنبثق منطقيا من أكثر البديهيات شهرة في التقانة: قانون مور Moore. وينص هذا القانون على أن عدد الترانزستورات التي يمكن صنعها على دارة سيليكونية تكاملية (وبناء على ذلك سرعة الحوسبة لدارة من هذا النمط] يتضاعف كل 18 إلى 24 شهرا. وبعد متابعة هذا المنحني الاستثنائي أربعة عقود نلحظ أن الإلكترونيات الميكروية للجسم الصلب تقدمت إلى درجة تمكن معها المهندسون من وضع مئة مليون ترانزستور على شظية سيليكونية مساحتها سنتيمترات مربعة قليلة، وببعد قدره 0.18 ميكرون كسمة أساسية لكل ترانزستور.
ولاتزال هذه الترانزستورات أكبر بكثير من الأدوات ذات الأبعاد الجزيئية. ولوضع فَرْق الكُبر في نصابه الصحيح نلاحظ أنه إذا كبّرنا مساحة الترانزستور المعهود ليحتل الصفحة التي تقرؤها فإن مساحة الأداة الجزيئية ستكون النقطة التي تنتهي بها هذه الجملة. وحتى بعد دستة من السنوات، يُتوقع أن تقلص التحسينات الصناعية طول الترانزستور السيليكوني إلى 120 نانومترا تقريبا، فإنه سيظل أكبر بستين ألف مرة من مساحة الأداة الإلكترونية الجزيئية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002286.jpg
قد تبدو دارة الإلكترونيات الجزيئية شبيهة بهذا التصور الذي وضعه أحد المؤلفيْن (ريد). والأدوات الجزيئية هي تلك الأشياء الأسطوانية البالغة الصغر التي تبرز من الكرات التي هي إما جسيمات شبه موصلة تعمل كعناصر ذاكرة (الخضر)، أو جسيمات من الذهب تعمل كوصلات كهربائية. وتمثل العصي السود الكبيرة في الشكل أنابيب كربونية نانوية، تعمل أيضا كوصلات كهربائية. أما اللِبادات السود المستطيلة الشكل الأكبر حجما، فهي وصلات تم تصنيعها بالطباعة الحجرية لتصل ما بين الدارات الخارجية الأكبر والمعهودة أكثر في طبيعتها.
زد على ذلك أن أحدا لا يتوقع أن الإلكترونيات الميكروية القائمة على السيليكون ستظل تخضع باستمرار إلى قانون «مور». وفي وقت ما سيجد مصنِّعو الشيپات أنه من العسير اقتصاديا الاستمرار في تصغير الإلكترونيات الميكروية. فكلما رزموا ترانزستورات أكثر على شيپة، فإن ظواهر معينة، كالإشارات التائهة على الشيپة، وضرورة تبديد الحرارة من هذا العدد الكبير من الترانزستورات الشديدة الارتزام، وقبل هذا وذاك صعوبة تكوين هذه الترانزستورات، ستوقف أو تبطئ بشدة التقدم المنشود.
وبالفعل، فإن المضايقات الناجمة عن صنع ترانزستورات سيليكونية أكثر صغرا وأشد فاعلية، وكذلك الوصلات بينها، تتفاقم من حيث إزعاجيتها، علما بأنها ليست جوهرية حتى الآن. وتتوقع كثرة من الخبراء تعاظم هذه التحديات على نحو مثير جدا، وذلك باقتراب الترانزستورات من مستوى 0.1 ميكرون. وبالنظر إلى هذه الصعوبات وأخرى غيرها، فإن الازدياد الأُسّي في كثافة الترانزستورات، وفي معدلات المعالجة الخاصة بالدارة التكاملية، سيظل قائما فقط بسبب وجود ارتفاع أُسي مماثل في الإنفاق المالي الضروري للوصول إلى التسهيلات التي ستساعد على بناء هذه الشيپات. وفي نهاية المطاف سيتفوق الدافع لتصغير النسب على تلك التسهيلات الفائقة التكلفة، وسيصل السوق إلى حالة توازن. وتتصور كثرة من الباحثين أن هذا التوازن سيحدث نحو عام 2015 أو قبل ذلك، حيث يتوقع أن تبلغ تكلفة التصنيع مئتي بليون دولار. وعندما يحدث ذلك، فإن فترة الانبهار بالتقدمات في قدرة المعالجة لدى الشيپات الحاسوبية ستكون قد استنفدت أغراضها، وستكون أي زيادة جديدة في هذه القدرة مستحيلة من حيث التكلفة.
ومما يؤسف له أن هذا المأزق سيحدث قبل زمن طويل من قدرة الشيپات الحاسوبية على تحقيق القدرة التي تفي ببعض أهم الأهداف التي طالما جهد علم الحاسوب لتحقيقها، كتكوين «أدمغة» إلكترونية شديدة التعقيد تُمكِّن الإنسالات(10) من أداء مهمات فكرية أو استعرافية تضاهئ ما يقوم به الإنسان.
بلايين وبلايين(***)
إن للصِّغر الاستثنائي في حجم الأدوات الجزيئية مزايا تتخطى مجرد المقدرة على رزم أعداد متزايدة من هذه الجزيئات في رقعة صغيرة. ولإدراك هذه الفوائد المهمة يتطلب الأمر فهم كيفية عمل تلك الأدوات، وهذا بدوره يتطلب بعض المعرفة بسلوك الإلكترونيات عندما تُحتجز في مناطق تبلغ في صغرها رتبة الجزيئات أو الذرات.
وبوسع الإلكترونات الحرة أن تتخذ سويات طاقية(11) ضمن طيف متصل من الإمكانيات. ولكن الإلكترونات في الذرات أو الجزيئات تكون ذات سويات طاقية تقتصر على عدد من القيم المتميزة، كدرجة معينة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة مقيدة في مكان متناهي الصغر. وترتب الإلكترونات نفسها في الجزيئات كروابط بين الذرات، وتماثل «سحبا(12)» مبعثرة تسمى مداريات(13). ويتحدد شكل المداري بنمط وهندسة الذرات المكونة له. وكل مداري هو سوية طاقية منفصلة للذرات.
وحتى أصغر الترانزستورات الميكروية المعهودة والتي توجد في دارة تكاملية، فإن هذه الترانزستورات تظل أكبر بكثير من أن تكمم(14) الإلكترونات في داخلها. وتكون حركة الإلكترونات في هذه الأدوات أسيرة الخصائص الفيزيائية (التي تعرف بالبنية العصائبية(15)) لذرات السيليكون المكونة لها. وهذا يعني أن الإلكترونات تتحرك في مادة ما ضمن عصابة سويات طاقية تكون أكبر بكثير إذا ما قورنت بالسويات الطاقية المتاحة في ذرة أو في جزيء منفرد. إن هذا الطيف الواسع من السويات الطاقية المتاحة يسمح للإلكترونات بأن تكتسب ما يكفي من الطاقة كي تتسرب من أداة إلى أخرى بجوارها. وعندما تقترب أبعاد هذه الأدوات المعهودة من رتبة مئات النانومترات، يكون من العسير جدا منع التيارات الكهربائية الضئيلة جدا، والتي تمثل معلومات، من التسرب من أداة إلى أخرى مجاورة. وحقيقة الأمر، إن الترانزستورات تسرب الإلكترونات التي تمثل معلومات، الأمر الذي يجعل من الصعب عليها أن تبقى في حالة «تعطل».
وإضافة إلى تمكين الأدوات الجزيئية من احتواء إلكتروناتها بطريقة أكثر أمانا، فإنه من الممكن أيضا استثمار ظواهر الميكانيك الكمومي في تصميم جزيئات لتأدية وظائف محددة أخرى. فمثلا، لبناء «سلك» جزيئي نحتاج إلى جزيء متطاول، تجري فيه الإلكترونات بسهولة من طرف إلى آخر. والإلكترونات تنزع في أي بنية مكممة (كالجزيء مثلا) إلى أن تتحرك من سوية طاقية أعلى إلى أخرى أخفض. فمن أجل توجيه هذه الحركات، نحتاج أيضا إلى جزيء له مداري فارغ خفيض الطاقة مبعثر عبر أرجاء الجزيء من طرف إلى الطرف الآخر. ويعرف نمطيا المداري الإلكتروني الفارغ خفيض الطاقة بالمداري پاي pi. ويعرف الشكل الثلاثي الأبعاد الذي تتراكب فيه السحب الإلكترونية بين مكون جزيئي ومجاوره بالشكل المقترن conjugated، وهكذا يعرف سلكنا الجزيئي «بنظام پاي المقترن» pi-conjugated system.
بيد أن على أداة ناشطة (كالترانزستور مثلا) أن تعمل أكثر من مجرد السماح للإلكترونات بالجريان، إذ عليها أن تضبط هذا الجريان بشكل أو بآخر. وهكذا، فإن مهمة مهندس الأداة الجزيئية استغلال السويات الطاقية لعالم الميكانيك الكمومي، وبخاصة تصميم جزيئات لمدارياتها خصائص تمكنها من إنجاز التحكم الإلكتروني المطلوب. فمثلا، بتراكب صحيح للمداريات في الجزيء، تأخذ الإلكترونات بالجريان. ولكن إذا ما اضطرب التراكب (بسبب التواء الجزيئات، أو لتأثر هندستها على نحو ما)، يتوقف الجريان. وبعبارة أخرى، المفتاح الخاص بالتحكم على المستوى الجزيئي يتمثل في منابلة عدد الإلكترونات التي يسمح لها بالجريان بطاقة مدارية خفيضة، وذلك عن طريق تشويش التراكب المداري عبر الجزيئات.
إن الطرائق المعيارية للتركيب الكيميائي تسمح للباحثين بتصميم وإنتاج جزيئات ذات ذرات معينة وهندسات وترتيبات مدارية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن تكوين كميات هائلة في آن واحد من هذه الجزيئات، كلها متماثلة ولا عيب فيها. ويصعب كثيرا تحقيق هذا الانتظام في نظم أخرى، كما أن كلفته ستكون عالية جدا إذا ما أنجز على دفعات، كما هي الحال في عملية الطباعة الحجرية (الليثوگرافيا) lithography التي استعملت لإنتاج ملايين الترانزستورات على دارة متكاملة integrated circuit.
إن الطرائق المتبعة في إنتاج أدوات جزيئية هي نفسها التي تتبع في الصناعات الصيدلانية. يبدأ الكيميائيون بمركب، ويحورونه تدريجيا بإضافة كواشف موصوفة تعرف جزيئاتها بأنها ترتبط بجزيئات أخرى في مقرات نوعية specific sites. وقد يمر الإجراء بعدة خطوات، ولكن الأجزاء تترابط تدريجيا بعضها ببعض لتشكل أداة جزيئية محتملة جديدة لها البنية المدارية المرغوبة. وبعد أن يتم صنع الجزيء المطلوب، نستعمل التقانات التحليلية المألوفة، كمطيافية الأشعة تحت الحمراء، والرنين المغنطيسي النووي، والقياس الكتلوي الطيفي، لتعيين بنية الجزيئات وتأكيدها. وتقدم التقانات المذكورة آنفا معلومات متنوعة عن الجزيء، بما في ذلك وزنه الجزيئي ونقطة الوصل، أو زاوية شدفة معينة منه. وبضم هذه المعلومات بعضها إلى بعض، نعين في نهاية كل خطوة بنية الجزيء الجديد الذي يتم تركيبه.
وكانت أبسط أدواتنا الفعالة جزيئا بُني على خيط يتألف من ثلاث حلقات بنزينية، تراكبت فيها المداريات (أي كانت مقترنة) عبر الجزيئات كلها. وقد جعلنا الوصلات بين حلقات البنزين ضعيفة بنيويا بحيث يؤدي أي التواء أو انفتال إلى إضعاف أو تقوية المداريات. وإذا ما استطعنا التحكم في هذه الالتواءات، فإننا سنحصل على أداة جزيئية نستطيع بوساطتها التحكم في جريان التيار، أي سيكون لدينا دارة وصل وفصل.
ولكي نجعل حلقة البنزين في مركز الجزيء، أضفنا الزمرتين NO2 و NH2 على نحو تبرز فيه من الخيط وبعيدا عنه ولتكونا في موضعين متقابلين (إنما غير متناظرين) بالنسبة إلى مركز الحلقة. لقد تركت هذه التشكيلة اللاتناظرية الجزيء مع سحابة إلكترونية شديدة الاضطراب. وتلك السحابة اللاتناظرية المضطربة جعلت بدورها الجزيء شديد الاستعداد للانفتال في الحقل (المجال) الكهربائي: إن تطبيق حقل كهربائي على الجزيء يسبب التواءه. لقد أصبح لدينا الآن أداة فعالة: كلما طبقنا ڤلطية معينة على الجزيء، تشكل لدينا حقل كهربائي يلوي الجزيء ويعوق مرور التيار. ولدى إزالة الڤلطية، يرتد الجزيء إلى شكله الأصلي، ويجري التيار من جديد. وفي تجربة لاحقة وجدنا أن التحويل (الوصل والفصل) المفاجئ من حالة إلى أخرى والذي يحدث في أداتنا المتناهية الصغر يفوق كثيرا ما يحدث في أي أداة جسم صلب مشابهة.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002287.jpg
وبطبيعة الحال، فإن تقانة متقدمة كثيرا وسنوات طويلة من الأبحاث هما ما نحتاج إليه لاختبار إحدى هذه الأدوات. ويتمثل التحدي الأساسي بالوصول إلى المجال الليلپيوتي Lilliputian (القزم الخيالي) المتعذر فهمه بغية إحداث التّماس بجزيء متفرد والتآثر معه، وبغية الحصول على معلومات عن سلوك ذلك الجزيء في عالمنا الماكروسكوبي (الكِبري أو العياني).
وكان هذا التقدم مستحيلا لولا اكتشاف المجهر النفقي الماسح scanning tunneling microscope STM في الثمانينات من القرن العشرين بمختبرات IBM البحثية في زوريخ. لقد فتح هذا المجهر للعلماء نافذة يطلون منها على عالم الذرات، وأتاح لهم رؤية ذرات أو جزيئات منفردة ومنابلتها. فبوجود رأس ذري حاد معدني ثُبِّت بدقة فوق سطح ما، يمكن عندئذ تحسس طوبوغرافية (السمات السطحية) السطح بوساطة تيار كهربائي ضعيف جدا من الإلكترونات النفقية يجري بين السطح والرأس الحاد. إن تحريك الرأس إلى الأمام والخلف يرسم صورة دقيقة لتلال السطح ووديانه.
ومع أن تقنية المجهر النفقي الماسح (STM) حاسمة لبناء واختبار كل أداة بمفردها، فإن على كل دارة جزيئية صالحة للاستعمال أن تتألف من عدد هائل من الأدوات ذات تراتب منتظم، مثبتة تثبيتا آمنا على بنية صلبة للحيلولة دون تآثر بعضها مع بعض عشوائيا. ولقد انبثق التقدم الذي سيواجه هذا التحدي الهائل من دراسة الانتظام (التجميع) الذاتي self-assembly؛ ظاهرة تتراتب فيها الذرات أو الجزيئات (أو حتى مجموعة من الجزيئات) تراتبا ذاتيا وعفويا في أنماط منتظمة وحتى في نظم معقدة نسبيا من دون أي تدخّل خارجي.