المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرأت لك: حوسبة بالجزيئات



محمد عريف
03-01-2010, 07:27 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعضاء المنتدي الكرام
هذا المقال منشور بمجلة العلوم بعددها الصادر في ابريل 2002
http://www.oloommagazine.com/Images/Magazines/4-2002.jpg



حوسبة بالجزيئات(*)
أنتج الباحثون جزيئات تعمل كدارات وصل وفصل(1) وكأسلاك وتؤدي
حتى دور الذاكرة. ولكن ربط العديد من هذه الأدوات بعضها ببعض يطرح تحديات هائلة.
<A.M. ريد> ـ <M.J. تور>

إلى أي درجة يمكن أن تصبح الحواسيب سريعة وفعالة؟ وهل من الممكن يوما ما تكوين أدمغة «صنعية» لها قدرات عقلية مساوية ـ أو تفوق ـ القدرات البشرية؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تعتمد اعتمادا كبيرا على عامل واحد فقط: مقدار درجة الصِّغر والكثافة التي يمكن أن نصل إليها في صنعنا للدارات الحاسوبية.

إن قلة من الباحثين، إن وجدت، تعتقد أن تقاناتنا الحالية ـ القائمة على شبه الموصلات للإلكترونيات الميكروية بالحالة الصلبة ـ ستطور دارة على درجة من الكثافة والتعقيد بحيث تكفي لنشوء قدرات استعرافية حقيقية. وحتى حديثا، ليس بين التقانات التي اقترحت كبدائل متقدمة لإلكترونيات الحالة الصلبة، تقانة تعِد بما يكفي من التصغير. بيد أن العلماء حققوا خلال عام 1999 تقدما ثوريا قد يغير جذريا مستقبل الحوسبة. ومع أن الطريق بين الحواسيب الحالية وبين الماكينات الذكية لاتزال طويلة، وقد تعتورها فجوات غير قابلة للرأب، فإن حقيقة وجود مسار كامن يعتبر نوعا من الانتصار.

إن التقدم الذي تحقق مؤخرا كان في الإلكترونيات بالمقياس الجزيئي، في حقل انبثق من فرضية منطقية ترى أنه بالإمكان بناء جزيئات منفردة بوسعها إنجاز وظائف مثيلة أو مطابقة لوظيفة الترانزستور والديود (الصمام الثنائي) diode والموصلات (النواقل) والمكونات الأساسية الأخرى للدارات الميكروية الحالية. وبعد فترة تخللتها آمال كبار ولكن لم ترافقها سوى حفنة من النتائج الملموسة، حدثت تطورات عديدة في السنوات القليلة الفائتة رفعت مستوى التوقعات المأمولة بأن هذه التقانة قد توفر يوما لبنات لأجيال قادمة من الإلكترونيات الفائقة الصغر والكثافة للمنطق الحاسوبي. وفي مجموعات مذهلة من البراهين، أوضح كيميائيون وفيزيائيون ومهندسون بأن الجزيئات الإفرادية تستطيع أن توصل التيار الكهربائي وأن تحوله، وبوسعها أيضا اختزان المعلومات.

وفي الشهر 7/1999 أعلن باحثون [من شركة هوليتّ ـ پاكارد ومن جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] عن إنجاز لاقى صدى واسعا في الصحافة الشعبية تمثَّل ببنائهم دارة وصل وفصل (قطع) إلكترونية تتألف من طبقة لملايين عديدة من جزيئات مادة عضوية عرفت باسم الروتاكسان(2). وبربطهم لعدد من دارات الوصل والفصل هذه، أنتج الباحثون نسخة أولية لبوابة منطقية(3) «و» DNA، وهي أداة تؤدي عملية منطقية أساسية. وبمعدل يفوق مليونا من الجزيئات للقطعة الواحدة، فإن دارات الوصل والفصل كانت أكبر بكثير مما يُرغب فيه. ويمكن لهذه الدارات أن تعمل مرة واحدة فقط قبل أن تفقد قدرتها على العمل. بيد أن تجميع هذه الجزيئات لتقوم بدور بوابة منطقية اعتبر ذا أهمية جوهرية.

وبعد أشهر قليلة من ذلك الإعلان، نشر باحثو فريقنا [من جامعتي ييل ورايس] نتائج لأبحاث أجريت على صنف مختلف من الجزيئات عملت كدارات وصل وفصل عكوسة(4). وبعد انقضاء شهر قمنا بتوصيف جزيء أنشأناه صنعيا بوسعه تغيير موصليته (ناقليته) الكهربائية باختزانه إلكترونات بحسب الطلب، فيعمل كأداة للتذكر.

ولكي نصنع دارتنا للوصل والفصل، غرزنا مناطق في الجزيئات تأسر الإلكترونات فقط عندما تخضع هذه الجزيئات لڤلطيات(5) معينة. وهكذا، فإن درجة مقاومة الجزيئات لجريان الإلكترونات كانت منوطة بالڤلطية التي تطبق على هذه الجزيئات. وبتغييرنا عمليا للڤلطية، نستطيع أن نغير الجزيئات تكراريا عندما نريد ذلك، من حالة توصيل إلى حالة عدم توصيل، وهذا هو الشرط الأساسي لدارة وصل وفصل كهربائية. إن هذه الأداة البالغة الصغر تتألف في الحقيقة من طبقة لنحو ألف جزيء من بنزوتيول النتروأمين(6) تتموضع بين تماسين معدنيين.

لقد أدركنا، بعد إنشائنا لدارة الوصل والفصل هذه، أننا لو أعدنا تصميم الجزيئات بحيث تحتفظ بالإلكترونات وليس فقط أن تأسرها لبرهة وجيزة، فقد نحصل على أداة تعمل كعنصر ذاكرة. فعملنا على المنطقة الآسرة للجزيء، وعدلناها بحيث يمكن تغيير موصليتها(7) تغييرا تكراريا. وهكذا حصلنا على «ممص إلكتروني»(8) بوسعه الاحتفاظ بالإلكترونات نحو عشر دقائق مقارنة ببضعة أجزاء من ألف من الثانية (بضعة ملي ثوان) من أجل ذاكرة تداول انتقائي(9) دينامية معهودة سيليكونية الأساس.

ومع أن التقدم كان مشجعا، فإن التحديات ظلت هائلة. فإنشاء أدوات إفرادية يمثل الخطوة الأساسية الأولى؛ ولكن قبل أن نبني دارات كاملة ومفيدة، علينا أن نجد طريقة ما تضمن إنشاء ملايين (إن لم يكن بلايين) عديدة من أدوات جزيئية متنوعة الأنماط، تستقر على سطح ما غير متحرك، وتُربط هذه الأدوات بعضها ببعض وفقا للأسلوب وللنمط اللذين تمليهما علينا مخططاتنا للدارات. إن التقانة لاتزال على درجة من الحداثة بحيث يتعذر الجزم منذ الآن بأن هذا التحدي الضخم سيتم التغلب عليه.


نهاية معالم الطريق(**)
وبالنظر إلى عِظَم تحديات المستقبل، يحق لنا أن نتساءل لماذا يركز الباحثون، وحتى وسائل الإعلام السائدة، اهتمامهم على التقدم الذي تم مؤخرا؟ إن الإجابة تتعلق باعتماد المجتمع الصناعي على الإلكترونيات الميكروية، وترتبط بالتقييدات التي تخصص طبيعة تقانة اليوم.

إن تلك الطبيعة (الحالة الصلبة والمبنية على السيليكون) تنبثق منطقيا من أكثر البديهيات شهرة في التقانة: قانون مور Moore. وينص هذا القانون على أن عدد الترانزستورات التي يمكن صنعها على دارة سيليكونية تكاملية (وبناء على ذلك سرعة الحوسبة لدارة من هذا النمط] يتضاعف كل 18 إلى 24 شهرا. وبعد متابعة هذا المنحني الاستثنائي أربعة عقود نلحظ أن الإلكترونيات الميكروية للجسم الصلب تقدمت إلى درجة تمكن معها المهندسون من وضع مئة مليون ترانزستور على شظية سيليكونية مساحتها سنتيمترات مربعة قليلة، وببعد قدره 0.18 ميكرون كسمة أساسية لكل ترانزستور.

ولاتزال هذه الترانزستورات أكبر بكثير من الأدوات ذات الأبعاد الجزيئية. ولوضع فَرْق الكُبر في نصابه الصحيح نلاحظ أنه إذا كبّرنا مساحة الترانزستور المعهود ليحتل الصفحة التي تقرؤها فإن مساحة الأداة الجزيئية ستكون النقطة التي تنتهي بها هذه الجملة. وحتى بعد دستة من السنوات، يُتوقع أن تقلص التحسينات الصناعية طول الترانزستور السيليكوني إلى 120 نانومترا تقريبا، فإنه سيظل أكبر بستين ألف مرة من مساحة الأداة الإلكترونية الجزيئية.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002286.jpg
قد تبدو دارة الإلكترونيات الجزيئية شبيهة بهذا التصور الذي وضعه أحد المؤلفيْن (ريد). والأدوات الجزيئية هي تلك الأشياء الأسطوانية البالغة الصغر التي تبرز من الكرات التي هي إما جسيمات شبه موصلة تعمل كعناصر ذاكرة (الخضر)، أو جسيمات من الذهب تعمل كوصلات كهربائية. وتمثل العصي السود الكبيرة في الشكل أنابيب كربونية نانوية، تعمل أيضا كوصلات كهربائية. أما اللِبادات السود المستطيلة الشكل الأكبر حجما، فهي وصلات تم تصنيعها بالطباعة الحجرية لتصل ما بين الدارات الخارجية الأكبر والمعهودة أكثر في طبيعتها.


زد على ذلك أن أحدا لا يتوقع أن الإلكترونيات الميكروية القائمة على السيليكون ستظل تخضع باستمرار إلى قانون «مور». وفي وقت ما سيجد مصنِّعو الشيپات أنه من العسير اقتصاديا الاستمرار في تصغير الإلكترونيات الميكروية. فكلما رزموا ترانزستورات أكثر على شيپة، فإن ظواهر معينة، كالإشارات التائهة على الشيپة، وضرورة تبديد الحرارة من هذا العدد الكبير من الترانزستورات الشديدة الارتزام، وقبل هذا وذاك صعوبة تكوين هذه الترانزستورات، ستوقف أو تبطئ بشدة التقدم المنشود.

وبالفعل، فإن المضايقات الناجمة عن صنع ترانزستورات سيليكونية أكثر صغرا وأشد فاعلية، وكذلك الوصلات بينها، تتفاقم من حيث إزعاجيتها، علما بأنها ليست جوهرية حتى الآن. وتتوقع كثرة من الخبراء تعاظم هذه التحديات على نحو مثير جدا، وذلك باقتراب الترانزستورات من مستوى 0.1 ميكرون. وبالنظر إلى هذه الصعوبات وأخرى غيرها، فإن الازدياد الأُسّي في كثافة الترانزستورات، وفي معدلات المعالجة الخاصة بالدارة التكاملية، سيظل قائما فقط بسبب وجود ارتفاع أُسي مماثل في الإنفاق المالي الضروري للوصول إلى التسهيلات التي ستساعد على بناء هذه الشيپات. وفي نهاية المطاف سيتفوق الدافع لتصغير النسب على تلك التسهيلات الفائقة التكلفة، وسيصل السوق إلى حالة توازن. وتتصور كثرة من الباحثين أن هذا التوازن سيحدث نحو عام 2015 أو قبل ذلك، حيث يتوقع أن تبلغ تكلفة التصنيع مئتي بليون دولار. وعندما يحدث ذلك، فإن فترة الانبهار بالتقدمات في قدرة المعالجة لدى الشيپات الحاسوبية ستكون قد استنفدت أغراضها، وستكون أي زيادة جديدة في هذه القدرة مستحيلة من حيث التكلفة.

ومما يؤسف له أن هذا المأزق سيحدث قبل زمن طويل من قدرة الشيپات الحاسوبية على تحقيق القدرة التي تفي ببعض أهم الأهداف التي طالما جهد علم الحاسوب لتحقيقها، كتكوين «أدمغة» إلكترونية شديدة التعقيد تُمكِّن الإنسالات(10) من أداء مهمات فكرية أو استعرافية تضاهئ ما يقوم به الإنسان.


بلايين وبلايين(***)
إن للصِّغر الاستثنائي في حجم الأدوات الجزيئية مزايا تتخطى مجرد المقدرة على رزم أعداد متزايدة من هذه الجزيئات في رقعة صغيرة. ولإدراك هذه الفوائد المهمة يتطلب الأمر فهم كيفية عمل تلك الأدوات، وهذا بدوره يتطلب بعض المعرفة بسلوك الإلكترونيات عندما تُحتجز في مناطق تبلغ في صغرها رتبة الجزيئات أو الذرات.

وبوسع الإلكترونات الحرة أن تتخذ سويات طاقية(11) ضمن طيف متصل من الإمكانيات. ولكن الإلكترونات في الذرات أو الجزيئات تكون ذات سويات طاقية تقتصر على عدد من القيم المتميزة، كدرجة معينة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة من درجات سلم ما. إن هذه السلسلة من القيم الطاقية المتميزة تفرضها النظرية الكمومية، وتصدق فيما يتعلق بأي جملة مقيدة في مكان متناهي الصغر. وترتب الإلكترونات نفسها في الجزيئات كروابط بين الذرات، وتماثل «سحبا(12)» مبعثرة تسمى مداريات(13). ويتحدد شكل المداري بنمط وهندسة الذرات المكونة له. وكل مداري هو سوية طاقية منفصلة للذرات.

وحتى أصغر الترانزستورات الميكروية المعهودة والتي توجد في دارة تكاملية، فإن هذه الترانزستورات تظل أكبر بكثير من أن تكمم(14) الإلكترونات في داخلها. وتكون حركة الإلكترونات في هذه الأدوات أسيرة الخصائص الفيزيائية (التي تعرف بالبنية العصائبية(15)) لذرات السيليكون المكونة لها. وهذا يعني أن الإلكترونات تتحرك في مادة ما ضمن عصابة سويات طاقية تكون أكبر بكثير إذا ما قورنت بالسويات الطاقية المتاحة في ذرة أو في جزيء منفرد. إن هذا الطيف الواسع من السويات الطاقية المتاحة يسمح للإلكترونات بأن تكتسب ما يكفي من الطاقة كي تتسرب من أداة إلى أخرى بجوارها. وعندما تقترب أبعاد هذه الأدوات المعهودة من رتبة مئات النانومترات، يكون من العسير جدا منع التيارات الكهربائية الضئيلة جدا، والتي تمثل معلومات، من التسرب من أداة إلى أخرى مجاورة. وحقيقة الأمر، إن الترانزستورات تسرب الإلكترونات التي تمثل معلومات، الأمر الذي يجعل من الصعب عليها أن تبقى في حالة «تعطل».

وإضافة إلى تمكين الأدوات الجزيئية من احتواء إلكتروناتها بطريقة أكثر أمانا، فإنه من الممكن أيضا استثمار ظواهر الميكانيك الكمومي في تصميم جزيئات لتأدية وظائف محددة أخرى. فمثلا، لبناء «سلك» جزيئي نحتاج إلى جزيء متطاول، تجري فيه الإلكترونات بسهولة من طرف إلى آخر. والإلكترونات تنزع في أي بنية مكممة (كالجزيء مثلا) إلى أن تتحرك من سوية طاقية أعلى إلى أخرى أخفض. فمن أجل توجيه هذه الحركات، نحتاج أيضا إلى جزيء له مداري فارغ خفيض الطاقة مبعثر عبر أرجاء الجزيء من طرف إلى الطرف الآخر. ويعرف نمطيا المداري الإلكتروني الفارغ خفيض الطاقة بالمداري پاي pi. ويعرف الشكل الثلاثي الأبعاد الذي تتراكب فيه السحب الإلكترونية بين مكون جزيئي ومجاوره بالشكل المقترن conjugated، وهكذا يعرف سلكنا الجزيئي «بنظام پاي المقترن» pi-conjugated system.

بيد أن على أداة ناشطة (كالترانزستور مثلا) أن تعمل أكثر من مجرد السماح للإلكترونات بالجريان، إذ عليها أن تضبط هذا الجريان بشكل أو بآخر. وهكذا، فإن مهمة مهندس الأداة الجزيئية استغلال السويات الطاقية لعالم الميكانيك الكمومي، وبخاصة تصميم جزيئات لمدارياتها خصائص تمكنها من إنجاز التحكم الإلكتروني المطلوب. فمثلا، بتراكب صحيح للمداريات في الجزيء، تأخذ الإلكترونات بالجريان. ولكن إذا ما اضطرب التراكب (بسبب التواء الجزيئات، أو لتأثر هندستها على نحو ما)، يتوقف الجريان. وبعبارة أخرى، المفتاح الخاص بالتحكم على المستوى الجزيئي يتمثل في منابلة عدد الإلكترونات التي يسمح لها بالجريان بطاقة مدارية خفيضة، وذلك عن طريق تشويش التراكب المداري عبر الجزيئات.

إن الطرائق المعيارية للتركيب الكيميائي تسمح للباحثين بتصميم وإنتاج جزيئات ذات ذرات معينة وهندسات وترتيبات مدارية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن تكوين كميات هائلة في آن واحد من هذه الجزيئات، كلها متماثلة ولا عيب فيها. ويصعب كثيرا تحقيق هذا الانتظام في نظم أخرى، كما أن كلفته ستكون عالية جدا إذا ما أنجز على دفعات، كما هي الحال في عملية الطباعة الحجرية (الليثوگرافيا) lithography التي استعملت لإنتاج ملايين الترانزستورات على دارة متكاملة integrated circuit.

إن الطرائق المتبعة في إنتاج أدوات جزيئية هي نفسها التي تتبع في الصناعات الصيدلانية. يبدأ الكيميائيون بمركب، ويحورونه تدريجيا بإضافة كواشف موصوفة تعرف جزيئاتها بأنها ترتبط بجزيئات أخرى في مقرات نوعية specific sites. وقد يمر الإجراء بعدة خطوات، ولكن الأجزاء تترابط تدريجيا بعضها ببعض لتشكل أداة جزيئية محتملة جديدة لها البنية المدارية المرغوبة. وبعد أن يتم صنع الجزيء المطلوب، نستعمل التقانات التحليلية المألوفة، كمطيافية الأشعة تحت الحمراء، والرنين المغنطيسي النووي، والقياس الكتلوي الطيفي، لتعيين بنية الجزيئات وتأكيدها. وتقدم التقانات المذكورة آنفا معلومات متنوعة عن الجزيء، بما في ذلك وزنه الجزيئي ونقطة الوصل، أو زاوية شدفة معينة منه. وبضم هذه المعلومات بعضها إلى بعض، نعين في نهاية كل خطوة بنية الجزيء الجديد الذي يتم تركيبه.

وكانت أبسط أدواتنا الفعالة جزيئا بُني على خيط يتألف من ثلاث حلقات بنزينية، تراكبت فيها المداريات (أي كانت مقترنة) عبر الجزيئات كلها. وقد جعلنا الوصلات بين حلقات البنزين ضعيفة بنيويا بحيث يؤدي أي التواء أو انفتال إلى إضعاف أو تقوية المداريات. وإذا ما استطعنا التحكم في هذه الالتواءات، فإننا سنحصل على أداة جزيئية نستطيع بوساطتها التحكم في جريان التيار، أي سيكون لدينا دارة وصل وفصل.

ولكي نجعل حلقة البنزين في مركز الجزيء، أضفنا الزمرتين NO2 و NH2 على نحو تبرز فيه من الخيط وبعيدا عنه ولتكونا في موضعين متقابلين (إنما غير متناظرين) بالنسبة إلى مركز الحلقة. لقد تركت هذه التشكيلة اللاتناظرية الجزيء مع سحابة إلكترونية شديدة الاضطراب. وتلك السحابة اللاتناظرية المضطربة جعلت بدورها الجزيء شديد الاستعداد للانفتال في الحقل (المجال) الكهربائي: إن تطبيق حقل كهربائي على الجزيء يسبب التواءه. لقد أصبح لدينا الآن أداة فعالة: كلما طبقنا ڤلطية معينة على الجزيء، تشكل لدينا حقل كهربائي يلوي الجزيء ويعوق مرور التيار. ولدى إزالة الڤلطية، يرتد الجزيء إلى شكله الأصلي، ويجري التيار من جديد. وفي تجربة لاحقة وجدنا أن التحويل (الوصل والفصل) المفاجئ من حالة إلى أخرى والذي يحدث في أداتنا المتناهية الصغر يفوق كثيرا ما يحدث في أي أداة جسم صلب مشابهة.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002287.jpg


وبطبيعة الحال، فإن تقانة متقدمة كثيرا وسنوات طويلة من الأبحاث هما ما نحتاج إليه لاختبار إحدى هذه الأدوات. ويتمثل التحدي الأساسي بالوصول إلى المجال الليلپيوتي Lilliputian (القزم الخيالي) المتعذر فهمه بغية إحداث التّماس بجزيء متفرد والتآثر معه، وبغية الحصول على معلومات عن سلوك ذلك الجزيء في عالمنا الماكروسكوبي (الكِبري أو العياني).

وكان هذا التقدم مستحيلا لولا اكتشاف المجهر النفقي الماسح scanning tunneling microscope STM في الثمانينات من القرن العشرين بمختبرات IBM البحثية في زوريخ. لقد فتح هذا المجهر للعلماء نافذة يطلون منها على عالم الذرات، وأتاح لهم رؤية ذرات أو جزيئات منفردة ومنابلتها. فبوجود رأس ذري حاد معدني ثُبِّت بدقة فوق سطح ما، يمكن عندئذ تحسس طوبوغرافية (السمات السطحية) السطح بوساطة تيار كهربائي ضعيف جدا من الإلكترونات النفقية يجري بين السطح والرأس الحاد. إن تحريك الرأس إلى الأمام والخلف يرسم صورة دقيقة لتلال السطح ووديانه.

ومع أن تقنية المجهر النفقي الماسح (STM) حاسمة لبناء واختبار كل أداة بمفردها، فإن على كل دارة جزيئية صالحة للاستعمال أن تتألف من عدد هائل من الأدوات ذات تراتب منتظم، مثبتة تثبيتا آمنا على بنية صلبة للحيلولة دون تآثر بعضها مع بعض عشوائيا. ولقد انبثق التقدم الذي سيواجه هذا التحدي الهائل من دراسة الانتظام (التجميع) الذاتي self-assembly؛ ظاهرة تتراتب فيها الذرات أو الجزيئات (أو حتى مجموعة من الجزيئات) تراتبا ذاتيا وعفويا في أنماط منتظمة وحتى في نظم معقدة نسبيا من دون أي تدخّل خارجي.

محمد عريف
03-01-2010, 07:29 PM
غراء جزيئي(****)
وما إن تُحرّك سيرورة الانتظام الذاتي، حتى تواصل بذاتها متجهة إلى نهاية مرغوبة(16). وفي أبحاثنا نستخدم ظاهرة الانتظام الذاتي لنربط عددا كبيرا جدا من الجزيئات بسطح يكون عادة معدنيا (انظر الشكل في الصفحة 54). وعندما تربط الذرات، التي غالبا ما تكون متطاولة الشكل، تبرز من السطح، كغابة هائلة الاتساع مليئة بأشجار متطابقة مرتبة في صفيف array كامل.

لقد درس الباحثون نظما متنوعة ذاتية الانتظام. وكثيرا ما تطلب عملنا تثبيت الأدوات الجزيئية على سطح معدني (اعتياديا الذهب). وهكذا، غالبا ما كنّا نجري بحثنا على شدفة جزيئية، نقوم بتثبيتها على إحدى نهايتي الأداة، أو على كلتا النهايتين، ولهذه الشدفة ألفة عالية لذرات الذهب. وعموما، تُبنى الشدفة النوعية التي نستعملها (والتي نسميها لأسباب أصبحت مفهومة زمرة نهائية «لزجة(17)») على ذرة كبريت، وتعرف الزمرة كيميائيا بالتيول thiol.

ولاستهلال الانتظام الذاتي، فإننا نحتاج إلى غمس السطح الذهبي في دورق يحوي محلولا. وتوجد في المحلول أدواتنا الجزيئية، حيث رُبطت بكل طرف من طرفي الأداة الواحدة زمرة تيولية. وبصورة عفوية، وبأعداد يصعب تصورها، تثبت الأدوات نفسها على السطح الذهبي.


الأساسيات(*****)


إن السعي الحثيث إلى إنتاج أدوات أصغر ربما لا يدع خيارا أمام التقانيين سوى الارتحال باتجاه إلكترونيات تحل فيها تصاميم خاصة لجزيئات منفردة محل الدارات الحالية للترانزستور. ويتوقع أن يتم هذا النزوح القسري (كما يعتقد بعض الباحثين) خلال العقد القادم.
وتتمثل المتطلبات الأساسية لحاسوب ذي وظائف عامة بدارة وصل وفصل (كالترانزستور) وبذاكرة وبطريقة ما لوصل عدد كبير من الأدوات وعناصر الذاكرة وصلا عشوائيا. ولقد نجح العلماء حتى الآن بإنتاج دارات وصل وفصل وعناصر ذاكرة ذات جزيئات منفردة. بيد أن لدارات الوصل والفصل طرفيين فقط. أما من حيث الواقع، فإن بناء دارات منطقية معقدة يتطلب أداة لها أكثر من طرفيين، يجري فيها مثلا تيار بين طرفيين، ويضبط هذا الجريان طرفي ثالث (وللعلم فإن الترانزستورات الحالية تعمل وفقا لهذه الطريقة.) ومما يزيد الأمر تعقيدا أن العلماء لا يملكون حاليا طريقة ما لوصل عدد هائل من الأدوات. ومع أنه لا تتوافر ظاهريا حلول كامنة لهذه المعضلة، فإن الباحثين يظنون أنه من الضروري التوصل إلى تصاميم هندسية وترسيخ تقاليد جديدة كليا إذا ما أريد فعلا استثمار الأدوات الجزيئية.


وعلى الرغم من ملاءمته العملية، فإن الانتظام الذاتي لا يكفي وحده (في البداية على الأقل) لإنتاج نظم حوسبة مفيدة. وكان علينا لبعض الوقت أن نستعمل مع ظاهرة الانتظام الذاتي طريقة تصنيعية، مثل الطباعة الحجرية التي تستعمل في تصنيع أشباه الموصلات (النواقل) المعهودة. ففي الطباعة الضوئية الحجرية، يسلط الضوء، أو أي إشعاع كهرمغنطيسي آخر، عبر صورة شبيهة بالرَّوسم stencil لإنشاء أنماط معدنية شبه موصلة على سطح رقاقة wafer شبه موصلة أيضا. واستعملنا في أبحاثنا الطباعة الضوئية الحجرية لتوليد ثقوب وطبقات وصل بينية معدنية في مادة ركامية عازلة. وأنشأنا في الثقوب التماسات الكهربائية، وانتقينا كذلك نقاطا أُقسرت فيها الجزيئات على الانتظام الذاتي. فالنظام النهائي إذًا يتألف من جزيئات ذاتية الانتظام، وثُبِّتت إلى شبكة من وصلات بينية معدنية تشبه المتاهة من حيث بنيتها.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002288.jpg

اختبر جزيء ثنائي تيول البنزين كموصل كهربائي فيما بين الرؤوس الذهبية في الشكل الهندسي الموضح هنا. وقد توافقت تجريبيا خاصتا الجزيء، وهما التيار-الڤلطية (الخط البياني في الأسفل) إلى حد بعيد مع المعالجة النظرية. إن التيار ذا الجريان الكبير نسبيا بشارة جيدة بأن للأدوات الجزيئية قدرة كامنة على العمل تلاؤميا مع إلكترونيات معهودة أكثر.




وأتى أول توصيف ناجح للانتظام الذاتي في الإلكترونيات الجزيئية في عام 1996، عندما اختبر فريق<S.P. وايز> [من جامعة ولاية پنسلڤانيا] الجزيئات المنتظمة ذاتيا. ونجح واحد منا (تور) [وكان حينذاك في جامعة ساوث كارولينا] في تركيب الأداة. وحصل «وايز» وزملاؤه لدى مزجهم كمية ضئيلة من محلول جزيئات ـ صُممت كي تتمتع بخصائص الموصلية مع محلول آخر يحوي جزيئات معروفة بخمولها وعزلها ـ على طبقة ذاتية الانتظام، تتشتت فيها الجزيئات التوصيلية تشتتا كبيرا بين الجزيئات اللاتوصيلية(18). وبوضع رأس المجهر النفقي الماسح (STM) مباشرة فوق أحد الجزيئات المنعزلة ذات التوصيلية، كان بالإمكان قياس التوصيلية قياسا كميا. وكما هو متوقع، كانت توصيلية هذا الجزيء أعلى على نحو يعتد به من توصيلية الجزيئات المجاورة. وتم الحصول أيضا على نتائج مماثلة من قبل فريق بحثي من جامعة پيردو قام بوسم قمم الجزيئات التوصيلية بجسيمات دقيقة من الذهب.

وفي الوقت نفسه قام أحدنا (ريد) [عندما كان في جامعة ييل] بأول قياس كهربي كمّي لجزيء منفرد تم صنعه بالانتظام الذاتي. وبالتحديد قام «ريد» وفريقه بقياس مقدار التيار الذي يمكن أن يجري عبر جزيء منفرد. وتمركزت بنية التجربة على مجهر نفقي ماسح (STM) حُوِّر ليحمل رأسين يتوضع أحدهما مقابل الآخر بدقة وثبات ميكانيكي يكفيان لاحتواء جزيء منفرد بين هذين الرأسين (انظر الشكل في هذه الصفحة). واستُعمل جزيء شديد البساطة يوصل الإلكترونات المتحركة: حلقة بنزينية منفردة ذات نهايتين تحمل كل منهما زمرة تيولية طرفية لزجة تلامس الرقيقتين المعدنيتين لرأسي المجهر النفقي الماسح. وقد تبين أن مقاومة الجزيء هي من رتبة عشرات ملايين الأوم.

وجد باحثو جامعة ييل أيضا أن بوسع الجزيء أن يحمل تيارا شدته 0.2 ميكروأمپير وباستطاعة قدرها 5 ڤلط، مما يعني أن بوسع الجزيء أن يمرر عبره قرابة مليون مليون (أي 1012) إلكترون في الثانية. إن هذا الرقم يثير الإعجاب، وعلى وجه التخصيص إذا علمنا أن الإلكترونات تمر عبر الجزيء في صف منفرد فقط (أي إلكترون فإلكترون). لقد كانت شدة التيار أكبر بكثير مما كان متوقعا من حسابات بسيطة للطاقة المبددة في الجزيء، الأمر الذي قاد إلى الاستنتاج بأن الإلكترونات تمر عبر الجزيء من دون أن تولد طاقة حرارية بسبب تآثر أو تصادم بعضها ببعض.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_0073.gif



وبسرعة، أُتبعت هذه الملاحظات الأولية حول توصيلية الجزيئات بوصف الأدوات الأساسية. وتتألف أبسط أداة إلكترونية من ديود، يمكن تصوره على أنه صمام valve للإلكترونات أحادي الاتجاه. وفي عام 1997، وبعد سنة فقط من قياس توصيلية الجزيئات، بنى فريقان بحثيان، كل على انفراد، الديود. فلقد ركب فريق <M.R. متزگر> [من جامعة ألباما] جزيئا له صف داخلي من المداريات الطاقية، التي تفاوتت وفقا لقطبية الڤلطية التي يخضع لها. لقد كان صف المداريات مشابها لدرجات السلم. وبتطبيق الڤلطية في أحد الاتجاهين، أصبح الصف وكأنه سلم أُسند إلى جدار منزلي. ففي هذا الاتجاه، سيُبذل جهد كبير للصعود على السلم. أما في ڤلطية معكوسة القطبية، فإن صف المداريات يشبه درجات سلم أُلقي منبسطا على الأرض، حيث يمكن اجتيازه بجهد ضئيل.

أما الفريق الثاني [فريق جامعة ييل] فقد اتخذ مسارا مختلفا قليلا. فالفروق في صف مستويات الطاقة للديود الجزيئي، حدثت خارج الجزيء، في نقاط تماسه مع المعدن. عمل هذا الترسيم على نحو جيد أيضا، وكان توطئة لتصميم أدوات جزيئية ودارات أكثر نفعا وأهمية.


وصل من الأعلى إلى الأسفل(******)
مع بداية بناء هذه الأدوات، قام فريق جامعة ييل بملاءمة بنية صنعت لأول مرة في جامعة كورنيل. واشتملت هذه البنية على ثقب غاية في الصغر عُرف بالمَسَمِّ النانوي nanopore، أنشئت فيه «منطقة فعالة» بالانتظام الذاتي في طبقة منفردة لعدد صغير نسبيا من الأدوات الجزيئية التي غدت أحادية الطبقة monolayer. وسُمح لقرابة ألف أداة جزيئية بأن تنتظم ذاتيا في ثقب لا تتجاوز أبعاده ثلاثين نانومترا. وبتبخير التماس المعدني الموجود في أعلى الطبقة الأحادية الذاتية الانتظام self-assembly monolayer SAM يكتمل صنع الأداة.

وبعد استعمال هذا الشكل الفضائي لإنتاج الديودات الجزيئية واختبارها، سارع فريق جامعة ييل إلى العمل على أدوات أكثر تعقيدا، من بينها على وجه التخصيص دارات الوصل والفصل. إن دارة وصلٍ وفصل ما قابلة للضبط هي المتطلب الأدنى لحاسوب ذي أغراض عامة. حتى إن التوصل إلى دارة وصل وفصل بوسعها تضخيم التيار (إضافة إلى مجرد وصله وفصله) سيكون أمرا مرغوبا فيه كثيرا. إن هذا التضخيم ضروري لربط عدد كبير جدا من دارات الوصل والفصل بعضها ببعض وهذا ما يتطلبه بناء دارات منطقية معقدة. وبالنظر إلى أن الترانزستور السيليكوني يلبي هذين المتطلبين، فلقد اعتُبر إنجازه أعظم نجاح تحقق في القرن العشرين.

ولايزال علينا أن نكتشف المكافئ الجزيئي للترانزستور الذي يستطيع في آن واحد أن يصل ويفصل التيار ويضخمه. لقد خطا الباحثون الخطوات الأولى في الطريق الصحيحة ببنائهم دارات الوصل والفصل الالتوائية التي سبق وصفها. وفي الحقيقة، فإن <J. تشن > [وهي طالبة دراسات عليا في فريق «ريد» بجامعة ييل] اكتشفت خصائص وصل وفصل مهمة تفوق فيها نسبة الوصل إلى الفصل الألف، وذلك بقياس جريان التيار في الحالتين المختلفتين. وبغرض المقارنة، نذكر أن للأداة المشابهة في عالم الجسم الصلب (وتعرف بالديود النفقي الرنيني resonant tunneling diode) نسبة وصل/فصل تقارب المئة فقط.

لاستثمار كامل لنظم الحوسبة الجزيئية، قد يتطلب الأمر
تحولات جذرية عن التصميم الحالي للحوسبة
ولوحظ سلوك مماثل في تجارب أجراها فريقا جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس والشركة HP. فلقد أوضحوا في الأدلة التي قدموها أنه بالإمكان قطع موصلية طبقة جزيئية من الروتاكسانات rotaxanes (جزيئات ذات قسم مركزي بثقلة barbell محيطة) قطعا يمكن التنبؤ به عند تطبيق ڤلطية على وصلة junction تحوي الجزيئات. ففي ڤلطية من هذا المقدار، تفاعلت الجزيئات مغيرة شكلها الفضائي، ومبدلة اصطفاف المداريات لتقطع مرور التيار عبر الجزيء. وبضم مجموعة من هذه الوصلات بعضها إلى بعض، بنى الفريقان البحثيان أداة أنجزت وظيفة منطقية بسيطة.

ولعل التشجيع الأقوى يرجع إلى أن الأدوات الجزيئية سبق أن برهنت ذاتيا على خصائصها كعناصر ذاكرة. فإضافة إلى ضرورة كون الأداة فعالة وشبيهة بالترانزستور، فإن الذاكرة هي المتطلب الرئيسي الآخر لصنع حاسوب مفيد ذي أغراض عامة. ففي دارة الوصل والفصل الالتوائية التي طورناها، غيرنا (كما سبق أن ذكرنا) الوحدة الفعالة الكهربائية الداخلية (الحلقة البنزينية المركزية ذات الميلان الجانبي وذات الزمرتين المتقابلتين NO2 و NH2) باحتفاظنا فقط بزمرة النترو NO2 «الماصة للإلكترونات». لقد أدى هذا التغيير إلى جعل المداريات الجزيئية قابلة للتحوير (فإما أن تنتشر، أو أن تتجمع وذلك وفقا لحالة شحنة الزمرة الداخلية). إن غياب الشحنة أو وجودها في العقدة الداخلية يحور توصيل الإلكترونات عبر الجزيء. وبتخزين شحنة على زمرة النترو، أعقنا التوصيل الذي يمثل ثنائيا"O" binary. وعلى العكس من ذلك، إن عدم وجود شحنة على الزمرة يسبب توصيلا عاليا، وهذا ما يمث ثنائيا "1". ومما يعتد به أن خلية الذاكرة الجزيئية احتفظت (أو تذكرت إذا شئت) بالبتَّة bit 19 المختزنة قرابة عشر دقائق؛ وهذه برهة من الزمن مذهلة في طولها مقارنة بعنصر الذاكرة السيليكوني DRAM، الذي يحتفظ بالبتة بضعا من ألف في الثانية (بضعة ملي ثوان)؛ حيث لا بد من تعزيز متواتر لعنصر الذاكرة DRAM السيليكوني بوساطة دارة خارجية كي يحتفظ عنصر الذاكرة هذا بالبيانات فترة زمنية أطول. وبناء عنصر الذاكرة (الذي اشتمل على تحوير مباشر وواضح نسبيا لدارة الوصل ـ الفصل الالتوائية) برهن على السهولة والمرونة اللتين تُميزان إعادة تصميم أدوات بالمقياس الجزيئي.

وإذا أخذنا بالاعتبار الفوائد الكامنة الهائلة للأدوات الجزيئية، فلماذا لا نوقف كليا أبحاث السيليكون، ونعمل بكامل قوانا على النظم ذات الأساس الجزيئي؟ لأنه على الرغم من التقدم المبشر بالنجاح الذي تحقق حديثا، لايزال هنالك عدد من العوائق (وبعضها أساسي) يعترض طرق الدارات الجزيئية الجبارة ذات التعقيد الخارق.


المطلوب: ترانزستور جزيئي(*******)
وأهم هذه العوائق التحدي المتمثل بصنع أداة جزيئية تشبه الترانزستور في عملها. وللترانزستور ثلاثة طَرفيات terminals، أحدها يضبط جريان التيار بين الطرفيين الآخرين. وعلى الرغم من كفايتها، فإن لدارة الوصل والفصل الالتوائية التي سبق أن وصفناها طرفيين فقط، يَضبط التيار بينهما حقل كهربائي. أما في ترانزستور المفعول المجالي field-effect transistor (وهو النمط الموجود في الدارة المتكاملة)، فإن ضبط التيار يتم أيضا بوساطة حقل كهربائي. بيد أن هذا الحقل ينشأ عندما تطبق ڤلطية ما على الطرفي الثالث (انظر الشكل في الصفحة المقابلة).

إن الأداة الجزيئية الثلاثية الطرفيات ستتيح التركيب الكيميائي المطلوب لدارات معقدة ذات فاعلية كبيرة. ولكن حتى قبل ذلك، يحتمل أن يتم استعمال تركيبات لنظم جزيئية بإلكترونيات معهودة في كل مرة تكون فيها ميزات الانتظام الذاتي طبيعية. ولكن الحيّز الفاصل بين عالم الجزيئات وعالم الإلكترونيات الميكروية يمثل بحد ذاته تحديا. فللشيپات الحاسوبية الحالية مستويان من حيث السلم الحجمي. فعلى المستوى الماكروسكوبي (الكبري) للشيپة، فإننا نستطيع أن نراها بأعيننا وأن نتلمسها بأيدينا. ومن الضروري أن نجري اختزالا بعامل قدره ألف كي نصل إلى مستوى الأسلاك، ويشمل ذلك أضخم الوصلات على الشيپة والتي يقل قطرها عن قطر شعرة الإنسان. ويلي ذلك مستويً ثان من الاختزال، وبعامل قدره ألف أيضا، كي نصل إلى أبعاد أصغر وصلات الترانزستور ومكوناته. فإذا كان لا بد من إضافة الأداة الجزيئية إلى الشيپة، فعلينا أن نختزل أصغر أداة إلكترونية ميكروية في الترانزستور بعامل ثالث قدره ألف أيضا.

كما أن التحديات المتمثلة بالخصائص الحرارية هي الأخرى مربكة، وعلى وجه التخصيص إذا ما اتضح للمهندسين أنه لا بديل (في حال استعمال الأداة الجزيئية) من اللجوء إلى صيغة وشكل فضائي يماثلان ما يستعمل حاليا في ترانزستور الشيپات المعهودة. فأحدث المعالجات الميكروية الحالية، التي يحوي الواحد منها عشرة ملايين ترانزستور، ودورة ميقاتية ترددها نصف جيگاهرتز (نصف بليون دورة في الثانية)، تصدر طاقة كهربائية قدرها مئة واط تقريبا ـ أي ما يفوق (كحرارة مشعة) ما يصدر عن وعاء طبخ منزلي. ووحدة كهذه تقع على الحد الحراري لتقانة أشباه الموصلات. ومعرفة الكمية الدنيا للحرارة التي تصدرها أداة جزيئية واحدة، قد تساعد على تعيين الحد الأقصى لعدد الأدوات الجزيئية التي يمكن أن نضعها على شيپة واحدة، أو على ركيزة من نوع ما.

ويعادل هذا الحد الحراري الأساسي للجزيء (حيث يتم التشغيل في درجة حرارة الغرفة وبالسرعات الحالية) قرابة خمسين پيكوواط (أي 50 × 12-10 واط). ويشير هذا الرقم إلى حد أعلى من عدد الأدوات الجزيئية التي يمكن تكديسها، ويفوق هذا العدد مئة ألف ضعف تقريبا عدد الترانزستورات الميكروية السيليكونية التي يمكن وضعها حاليا على شيپة واحدة. ومع أن هذا يبدو تحسينا كبيرا، فإنه لايزال أدنى بكثير من الكثافة التي يمكن بلوغها لو كان الحد الحراري غير قائم.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002289.jpg

يحدث الانتظام (التجميع) الذاتي تلقائيا عندما تقوم جزيئات لها زمر طرفية تم اختيارها اختيارا خاصا (الأصفر) بربط نفسها بمادة ارتكازية. ونموذجيا، لا تتعامد الجزيئات مع الركيزة. وتبين صورة المجهر النفقي الماسح (الزاوية اليمنى السفلية) منظرا علويا لطبقة من جزيئات تيول الألكان alkanethiol على الذهب. وتعكس الحافة شبه الصَدِعة حدا حبيبيا على الركيزة الذهبية التحتية.




وفي هذه الحسابات اتبعنا العرف المعمول به في الإلكترونيات الميكروية السيليكونية، وهو أنه يمكن معالجة كل أداة على حدة. وبتعبير آخر، يمكن اختيار أي أداة من هذه الملايين التي لا تحصى من خلال الوصلات البينية الخاصة بها، تماما كمنزل بعنوان شارع وحيد. إن نظام العنونة هذا (الذي يعرف بالوصول العشوائي) قد يكون ضروريا، مثلا، لاستعادة محتويات موضع خاص في الذاكرة.

ولا أحد يعرف حتى الآن كيف يمكن إنشاء بنية لها وصلات بينية على المستوى الجزيئي. والتوسيعات المباشرة للتقنيات الحالية التي تستعمل في صنع الإلكترونيات الميكروية المعقدة غير عملية فيما يتعلق بالإلكترونيات بالمقياس الجزيئي، ذلك أن الطباعة الحجرية الضرورية لإنشاء الوصلات البينية الخاصة بالجزيئات المنفردة تقع خارج نطاق قدرات التقانات المعروفة حاليا. ولكن هل المقدرة على التعامل مع كل أداة على حدة (التصميم الهندسي الذي يستعمل حاليا) لازمة أو كافية فيما يتعلق بالكثافات بالمقياس الجزيئي؟ وكيف ستبدو الدارات التي ستنتج على نطاق واسع بهذه التقانات الجزيئية؟ وهل سيغدو بالإمكان استعمال أنابيب نانوية nanotubes (أي بنى كربونية أحادية الجدار يبلغ قطر الواحدة منها نانومترا واحدا أو اثنين، وطولها أقل من ميكرون) كجيل جديد من الوصلات البينية بين أدوات بالمقياس الجزيئي؟

وقد يحتاج الابتعاد الجذري عن التصاميم الحالية للحوسبة إلى عقود بكاملها كي يتم الاستثمار الكامل لنظم الحوسبة الجزيئية، وذلك إذا ما رُغب في استثمار الإلكترونيات استثمارا مهما يتجاوز قانون «مور». ولا نملك حاليا سوى أفكار محدودة جدا عن المدى الذي سيؤول إليه هذا الابتعاد. إن القدرة على بناء أدوات جزيئية معقدة ذات صيغ paradigms محددة، ولها جداول تَحْكُمُ وصل الأدوات بعضها ببعض ستكشف أمامنا طريقا مختلفة كليا في تفكيرنا بتصميم الحواسيب.



http://www.oloommagazine.com/images/Articles/18/SCI2002b18N4_H07_002290.jpg

إن للترانزستور المعهود (a) ثلاثة طرفيات، تعرف بالمنبع والبوابة والمصرف. ولدى تطبيق ڤلطية موجبة على البوابة، تُسحب الإلكترونات باتجاه العازل (b)، مما يسمح للتيار بالجريان من المنبع إلى المصرف. وقد استعمل أيضا جزيء أساسه ثلاث حلقات بنزينية (c) لوصل وفصل تيار كهربائي. إن للحلقة المركزية شدفا لاتناظرية، الأمر الذي يساعدها على الالتواء بوساطة حقل كهربائي (d). فإذا ما طبقت ڤلطية نوعية، فإن الحقل الكهربائي يلوي الجزيء ويسمح للتيار بالجريان.




ومع أن هذا الابتعاد سيواجه الكثير من المشكلات، فإنه لا خيار أمامنا سوى حلها إذا كان على الإلكترونيات أن تتابع في القرن الحادي والعشرين تقدمها في نطاقٍ ما، بُمعدل يكافئ معدل تقدمها الحالي. وعلى الرغم من صعوبة هذه التحديات، فإن المكافأة التي سينالها أولئك الذين سيجدون حلولا لتلك المشكلات قد تكون مذهلة. وبسعيهم إلى تخطي القيود التي يفرضها قانون «مور» على التقانة الحالية ذات القوة الهائلة، فإن هؤلاء الباحثين سينقلون الإلكترونيات إلى حقل هائل الاتساع ومجهول الحدود. فإذا ما استطعنا الوصول إلى تلك المنطقة، فإننا سنكتشف بالتأكيد أشياء مدهشة.

المؤلفان

Mark A. Reed - James M. Tour
بدأ المؤلفان تعاونهما في أبحاث الإلكترونيات الجزيئية عام 1990. يرأس ريد قسم الهندسة الإلكترونية في جامعة ييل، كما أنه أستاذ كرسي <H. هودجكينسون> للهندسة والعلوم التطبيقية في تلك الجامعة. وتشمل اهتماماته البحثية التقانة النانوية والحدود الأساسية للموصلية الإلكترونية. وبالنظر إلى عمله السابق باحثا لدى الشركة «تكساس إنسترومنتس»، فلقد أنشأ حديثا مع <تور> مؤسسة «مولكلار إلكترونيكس كوربوريشن» في شيكاگو بهدف تحويل الإلكترونيات الجزيئية إلى سلع تجارية. نشر أكثر من مئة بحث، وله 17 براءة اختراع في المفعول الكمومي والوصلات المتغايرة heterojunction والأدوات الجزيئية. أما تور فهو كيميائي يعمل في حقل الاصطناع العضوي، صمم واصطنع جزيئات عضوية خاصة بالإلكترونيات الجزيئية مدة عشر سنوات. يعمل تور في قسم الكيمياء وفي مركز علوم النظم النانوية وتقاناتها في جامعة رايس، حيث يتابع الجوانب الكيميائية للإلكترونيات الجزيئية. وقد عمل سابقا في جامعة ساوث كارولينا حيث أمضى أحد عشر عاما عضوا في الهيئة التدريسية بقسم الكيمياء في هذه الجامعة.

مراجع للاستزادة
CONDUCTANCE OF A MOLECULAR JUNCITON. M. A. Reed, C. Zhou, C. J. Muller, T. P. Burgin and J. M. Tour in Science, Vol. 278, pages 252-254; October 10, 1997.
A DEFECT-TOLERANT COMPUTER ARCHITECTURE: OPPORTUNITIES FOR NANOTECHNOLOGY. J. R. Heath, P J. Kuekes, G. S. Snider and R. S. Williams in Science, Vol. 280, pages 1716-1721; June 12, 1998.
MOLECULAR ELECTRONICS: SCIENCE AND TECHNOLOGY. Edited by A. Aviram and M. Ratner. Annals of the New York Academy of Sciences, Vol. 852; 1998.
Scientific American, June 2000
(*) Computing with Molecules
(**)The End of The Road Map
(***) Billions and Billions
(****) The Basics
(*****) Molecular Glue
(******)Connecting from the Top Down
(*******)Needed The Next Transistor

(1) switches
(2)rotaxanes
(3) بوابة منطقية logic gate: مجموعة من المكونات الإلكترونية تقوم بإحدى العمليات المنطقية التالية: «و» AND، «نفي و» NAND، «أو» OR، «نفي أو» NOR.
(4) reversible switch
(5)voltages
(6) nitroamine benzenethiol
(7)conductivity
(8) electron sucker
(9)random-access memory
(10) ج: إنسالة وهذه نحت من إنسان-آلي robot
(11) energy levels
(12)clouds
(13)orbital
(14) يكمم quantize: يقتصر على عدد من القيم الممكنة ضمن مجموعة من القيم المميزة.
(15) band structures
(16) [انظر: "Self - Assembling Materials",by G. M. Whitesides, Scientific American, September 1995]
(17) "sticky" end group
(18)nonconductive
(19) مخصورة: binary digit رقم ثنائي.

المـــبدع
03-03-2010, 05:58 PM
شكرا لك اخي

وبارك فيك

ننتظر الجديد والجديد

محمد عريف
03-03-2010, 09:31 PM
شكراً لمرورك أخي المبدع

مع وافر احترامي وتقديري

النانوي
03-10-2010, 02:18 PM
شكرا محمد عريف على هذا المقال

الرائع

لي عودة وسأقرأة بالتفصيل إن شاءالله

محمد عريف
09-09-2010, 04:32 PM
شكرا محمد عريف على هذا المقال

الرائع

لي عودة وسأقرأة بالتفصيل إن شاءالله

مرورك الأروع أخي

اتمني لك مزيد من الاستفادة

مع وافر احترامي وتقديري