المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العالِـم المصري علي مصطفى مشرّفة جمع التضلّع في العلوم والقدرة على تبسيطها



عبد الرؤوف
07-16-2009, 01:01 AM
العالِـم المصري علي مصطفى مشرّفة جمع التضلّع في العلوم والقدرة على تبسيطها

تحتاج شعوبنا العربية والاسلامية إلى وصل ما انقطع مع ماضيها، ولا سيَما الجانب العلمي منه. وثمة ماض قريب ناصع الصفحات يُحدثنا عن باحثين ومفكرين عرب ينتمون إلى جيل العمالقة العالميين في علوم الرياضيات والفيزياء في القرن العشرين، الذي ضمّ كوكبة لامعة من العقول المبهرة مثل ألبرت انشتاين وبرتراند رسل ونيلز بوهر وروبرت أوبنهايمر وإيرفنغ شرودنغر وماكس بلانك وغيرهم.

والحق أن العالم المصري علي مصطفى مشرّفة ( 1898- 1950) ينتمي إلى هذا الجيل. اذ يعتبر أحد رواد النهضة العربية الحديثة. وقد نشرت له أهم المجلات العلمية البريطانية الرصينة بحوثه المبتكرة، خصوصاً عن المادة والاشعاع. وتكرست نظرية باسمه عن «الاشعاع والسرعة». وضع عالِمُنا نصب عينيه «تأصيل التقاليد الوطنية في البحث العلمي» وإذاعتها ونشرها في أسلوب مبسّط يلامس الإنسان العادي في حياته اليومية. وخدمة لهذه الغاية النبيلة، أعادت «دار البيروني» اللبنانية في عام 2009، نشر محاضرات مشرّفة وآرائه وأحاديثه وأفكاره، وتحديداًً كتابيه «نحن والعلم والحياة»، الذي ألّفه عام 1946 و «مطالعات علمية» الذي وضعه عام 1943.

في هذين الكتابين، يتصدى مشرّفة للسؤال البديهي عن ماهية العلم. ويجيب بأنه التفكير البشري المنظّم الذي لا يحدّه شيء، وأنه يسعى الى تقرير وقائع وحقائق تقع تحت سمعنا وبصرنا وسائر حواسنا، وأن ثمراته تنعكس تقدماً في المجتمع البشري وطرق عيشه وأساليب حياته وتفكيره وخيالاته. لذا، يرى مشرّفة ضرورة اهتمام بلده مصر بالبحث العلمي اذا ارادت لها مكاناً بين الامم المتحضرة، لا انصرافاً إلى الصناعات وفوائدها العملية فحسب، بل بحثاً في الرياضيات وفلسفة العلوم الطبيعية. وفي نظره، يغدو من الواجب العناية بالأساس الذي يبنى عليه التقدم الفني والصناعي، ويرى في ذلك سبيل القاهرة إلى «النور والرفاهية والمجد».

معضلة الثقافة العلمية

يرسم مشرّفة معالم الطريق إلى الثقافة العلمية، الذي يعني تدوين العلوم باللغة العربية (تأليفاً وترجمة ونقلاً وضبطاً للمصطلحات)، أسوة بما جرى أيام المأمون في «بيت الحكمة» البغدادي. وفي تلك الاستعادة، تشديد على أهمية ترجمة التراث العلمي والفلسفي من الشعوب كافة. فمن المعلوم أن «بيت الحكمة» شهد ترجمة لفلسفة اليونان وعلومها، إضافة الى إرث الهند وفارس في الحكمة والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات وغيرها.

وفي منحى متصل، يشدّد مشرّفة على وجوب ان يكون الحاضر العلمي المنشود متواصلاً مع النواحي الإيجابية علمياً من الماضي العربي الغابر. اذاً، يجب ان يكون التأليف العلمي وإحياء كتب العرب وتمجيد علمائهم، في رأس جدول أعمال أمة «إقرأ». ولهذا المرام، يعتقد بضرورة إنشاء الجمعيات العلمية، وبأن تطلق الدعوات لبذل الجهود في ذلك الاتجاه عبر الصحافة. و لا يريد ابن النيل العلم قابعاً في أبراجه العاجية، بل مسخراً في «خدمة المجتمع»، بمعنى أن تتولاه الدولة نفسها بالرعاية. وينظر مشرّفة باهتمام إلى مصادر توليد الطاقة. وفي رؤية متقدمة بالنسبة الى زمن أربعينات القرن الماضي، يدعو الى لاستفادة من حرارة الشمس ومساقط المياه وإلى الانتفاع من الثروة المعدنية والإحفورية، وضمنها النفط.

ولهذا الغرض، يحضّ عالِمُنا على انشاء وزارة لـ «الاقتصاد العلمي» (وهو أمر ما زالت الدول العربية غافلة عنه لحدّ الآن)، وإلى العناية بالبحوث في الجامعات وانشاء مجمع علمي ومجلات علمية متخصصة وغيرها.

ويرى مشرّفة إلى العلم باعتباره وسيلة لقاء كوني، بل يجهر باعتقاده بأن العلماء يشكّلون «أسرة واحدة» تسعى الى خير البشرية. ويعتقد بأنه يجدر بتلك الأسرة أن تعيد النظر في صلاتها التقليدية والتاريخية مع المجتمع، التي قامت على الانعزال والبعد عن مشكلاته. ويشير إلى أن أولى النقاط التي يجب مراجعتها هي «المسؤولية الاخلاقية»، أي النظر إلى عواقب استخدام الاختراعات، ولا سيَما ما له علاقة بالدمار والتخريب، وكذلك تجديد صلة العلم مع الدعوة إلى الخير والحق والدفاع عنهما. ويُدرج في سبل التقريب بين العلماء، الاحتفاء بتاريخ العلوم في المناهج الدراسية كونها إرثاً إنسانياً مشتركاً.

وعلى رغم ما يحوط لفظة «السياسة» من دلالة مشينة بالنسبة الى كثير من العاملين في مجال العلوم، يدعو مشرّفة، واستئناساً بآراء افلاطون وأرسطو في انواع الحكومات، إلى اتحاد العلم والسياسة في سبيل النفع العام. ويُذكّر بأن هذا حصل في أوروبا في مواجهة مشاكل المجاعة وآثار الحروب. ويعرض وجهة نظره ايضاً في تدهور الصناعة في بلده عما كانت عليه أيام محمد علي باشا، فينادي بربطها بالعلم لتجديد شبابها واستنهاضها ودفعها الى الأمام، إعتقاداً منه بأنه: «اذا اجتمع العلم والصناعة، عادا على الأمة بالخير والرفاهية»، كما يرد في مؤلفاته.

وفي نظرة اخلاقية صارمة، يحمل مشرّفة أصحاب المال، خصوصاً الملاك العقاريين، جزءاً من المسؤولية في تدهور الاحوال المصرية، لأنهم أصحاب السلطان والحاكمون على الأرض وبشرها. ويدعوهم إلى الاخذ بالطُرُق العلمية لتحسين الانتاج والنهوض بالاقتصاد والمال. ويكتب مشرّفة: «اذا اقترن (صاحب الأملاك العقارية والمال) بالعلم، سما به الأخير إلى سماء الواجب، وأحاطه بقدسية الضمير، وتحولت حريته في استخدامه من حرية الجاهل إلى حرية العالم».

ومن اللافت أن دعاوى مماثلة تردّدت كثيراً على لسان النظام الجمهوري الذي ظهر في مصر بعد 23 تموز (يوليو) 1952، عقب انقلاب أطاح آخر ملوك أسرة محمد علي باشا في مصر.

ولا يحصر دعوته الى الأخذ بالعقلية العلمية في مصر، بل يوجهها إلى الأمة العربية ذات الماضي المجيد، «حين وُلدت حضارتها عقولاً تذهب إلى الحقائق وتعنى بالجوهر وليس بالعرض وتطلب اللب لا القشور... والعلم سلاح يُحارب به الفقر والمرض والجهل، ولنا في اجدادنا الاقدمين اسوة حسنة»، وفقاً لتعبير مشرّفة. ومن خلال ترويجه العلم، يدحض عالِمُنا مقولتين: الاولى مسؤولية الدين عن انحطاط العلوم في العصور الوسطى، مُدلّلاً على ذلك بإزدهار العلوم في بلدان الشرق حيث سيطر الفضاء الديني بالقدر نفسه، ومُلاحظاً ان الدين يحثّ على «حب الحق». وتتمثّل المقولة الثانية التي يتصدى لها، بالقول أن منشأ العلم أوروبي، مُشدّداً على أن العلوم مشاع بين الأمم، وأن لا وطن له.

وإذ يفكّر مشرّفة في تضارب الناس في تصورهم للحياة إلى حدّ التنافر، يرى أن ذلك يؤدي إلى: «القطيعة، وإلى الكيد والتقاتل والحروب»، بحسب كلماته.

ويستخلص من ذلك مقولة التشديد على الدور الكبير الذي يؤديه العلم في صنع تصورات الناس وتفكيرهم، وكذلك في تخفيف التضارب في الآراء بينهم، من خلال تقديم تصورات تستند إلى الواقع والمنطق السليم. ويقول: «اذا جرى الامر على هذا النحو، حل التعاون مكان التنابذ والتطاحن... وفضل العلم انه يزودنا ببيَنات عن الكون وحقائق الحياة نفسها وعن قيَمها وما تزخر به من روحانية تتوق للخير والحق والجمال».

وعلى رغم ستة عقود تفصلنا عن هذا العالِم المصري، إلا أن كتاباته تبدو طرية وآنية، فكأنها كتبت تواً كي تخاطب العقل والوجدان معاً وتحض على الاستفادة من ثمرات العلوم ووضعها في خدمة المجتمع والارتقاء به إلى حياة أفضل.

* أستاذ الإبستمولوجيا في الجامعة اللبنانية ــ ص الحياة