أستاذ / بدر العصيمي
07-07-2009, 01:32 AM
" قد يرفض المنطق إمكانية مثل هذا السفر
لكن قوانين الفيزياء لا تحول دون ذلك ".
<d. دوتش> ـ <m. لوكوود>
تصوَّر معنا أن صديقتنا صفاء تحتفظ في مرآبها بآلة تتيح لها السفر في الزمن، وأنها استعملتها في الليلة الماضية لزيارة جدها في عام 1934، أثناء فترة خطوبته من جدتها. وقد أقنعته بهويتها بذكر أسرار عائلية لم يكن قد باح بها لأحد حتى ذلك التاريخ. وقد أدهشه ذلك بشدة، لكن الذي سيلي كان أدهى. فعندما أخبر خطيبته أثناء الغداء بأنه قد قابل لتوه حفيدتهما المستقبلية أجابته السيدة معبِّرة عن شكوكها بسلامة عقله وعن استيائها من هذا الادعاء. ففسخت خطوبتهما ولم ينجبا قط تلك الطفلة التي كانت ستصبح أُمَّ صفاء.
فكيف يمكن لصفاء أن تجلس اليوم لتحدثنا عن مغامراتها؟ وإذا كانت أمها لم تولد قط فكيف ولدت هي نفسها؟ إن السؤال الحقيقي هو التالي: عندما تعود صفاء إلى عام 1934، هل تستطيع، أم لا تستطيع، أن تتسبب في قطع علاقة جديها العاطفية؟ إن الجواب عن هذا السؤال يخلق مشكلات عديدة، سواء كان نفيا أو إيجابا. فإذا استطاعت صفاء أن تحول دون ولادتها، فالتناقض واضح. وإذا لم تستطع، فإن عجزها يتعارض مع المنطق المعقول: إذ ما الذي يحول دون أن تتصرف على هواها؟ هل يوجد شيء غامض يشل قدرتها كلما حاولت أن تنفذ بعض رغباتها؟
إن ظروفا كهذه ـ وهي شكل مبسط من "مفارقة الجد" التقليدية، تلك المفارقة التي تجعل الجد يُقتل بيد حفيده القادم من المستقبل ـ تُعتبر، في العادة، أمرًا منافيا لفكرة السفر في الزمن ومع ذلك فمن المدهش أن قوانين الفيزياء لا تحول دون حدوث مثل هذه المغامرات.
وقد ناقش فيلسوف أكسفورد <m. دوميت> مفارقة أخرى غالبا ما تحدث في روايات الخيال العلمي. إنها تتصور ناقدا فنيا يأتي من المستقبل لزيارة رسام في القرن العشرين يعتبره معاصرو الناقد فنانا عظيما. وعندما يشاهد الناقد لوحات الرسام الحالية يجد أنها متوسطة المستوى ويستنتج أن هذا الرسام لم يُنتج بعد اللوحات الرائعة التي أثارت إعجاب أجيال المستقبل. وعندئذ يُطلع الناقد هذا الرسام على كتاب يحوي صورا لهذه الأعمال المتأخرة، فيحتال الرسام في إخفاء هذا الكتاب ويجبر الناقد على الانصراف من دونه، ثم يكتفي بتقليد صور الكتاب بعناية كبيرة على شكل لوحات. وبذلك تكون المقلّدات موجودة لأنها نسخ من اللوحات، واللوحات موجودة لأنها نسخ من المُقلدات. وعلى الرغم من أن هذه القصة ليس فيها أي تناقض، فإنها تنطوي على شيء خاطئ جدا. إنها ترمي إلى إعطائنا اللوحات دون أن يضطر أحد إلى بذل جهد فني كي يبتكرها ـ نوع من "الوجبة الفنية المجانية."
لقد اعتاد الفيزيائيون، من خلال قناعتهم بهذه الاعتراضات، أن يتذرعوا بمبدأ تسلسل زمني لا يسمح بالسفر باتجاه الماضي. والسفر باتجاه واحد نحو المستقبل لا يطرح مشكلات من هذا القبيل. تتنبأ نظرية النسبية الخاصة لآينشتاين بإمكانية أن يتوغل ملاحو الفضاء (ممن يتاح لهم أن ينجزوا رحلة ذهاب وإياب إلى الأرض بتسارعات كافية) عشرات السنين في المستقبل دون أن يشيخوا سوى سنة أو سنتين؛ إلا أن من المهم أن نميّز بين التنبؤات من هذا القبيل، التي تقتصر على إدهاشنا، وبين المعالجات التي قد تخرق قوانين الفيزياء أو المبادئ الفلسفية التي يمكن تبريرها بأسلوب مستقل.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005503.jpg
مفارقة الجد، التي مفادها أن يمنع المسافر الزمني ولادة نفسه، حجة قديمة ضد السفر في الزمن.
سنشرح فيما يلي لماذا لا ينْتَهِك السفرُ باتجاه الماضي أيا من هذه القوانين. وفي سبيل ذلك علينا أولا أن نفحص مفهوم (مبدأ) الزمن ذاته كما يفهمه الفيزيائيون. ففي نظريتي آينشتاين النسبية الخاصة والعامة تنضم إحداثيات المكان الثلاثة مع الإحداثي الزمني لتصنع كلها معا زمكانا ذا أربعة أبعاد. ففي حين يتألف المكان من نقاط فضائية يتألف الزمكان من نقاط زمكانية، أو أحداث؛ أحداث يمثل كل منها موضعا معينا في زمن معين. فحياتك تتخذ في الزمكان شكل "دودة" ذات أربعة أبعاد، نهاية ذيلها تقابل حادث ولادتك، ومقدمة رأسها تمثل حادث وفاتك. والنظرة إلى جسم ما، في لحظة معينة، تريك مقطعا عرضيا ذا ثلاثة أبعاد من هذه الدودة الطويلة الدقيقة ذات الالتواءات المعقدة. أما الخط الذي تقع الدودة على طوله (بإهمال ثخنه) فيسمى الخط العالمي لهذا الجسم.
وعند كل نقطة من خطك العالمي تكون الزاوية التي يصنعها هذا الخط مع محور الزمن قياسا لسرعتك. والخط العالمي للشعاع الضوئي يُرسم نموذجيا كمستقيم يصنع زاوية 45 درجة مع محور الزمن، والومضة الضوئية المنتشرة في كل الاتجاهات تشكل مخروطا في الزمكان يسمى مخروط الضوء . والفرق المهم بين الفضاء العادي والزمكان هو أن الخط العالمي ـ بخلاف الخط المرسوم على الورق مثلا ـ لا يمكن أن يتخذ شكل التواءات اعتباطية. ولما كانت الأشياء كلها لا يمكن أن تتحرك بأسرع من الضوء، فإن الخط العالمي لأي شيء مادي (طبيعي) لا يمكن أن يخرج عن مخروط الضوء الصادر عن حدث وقع في ماضي ذلك الشيء. ويقال عن الخطوط العالمية التي تستجيب لهذه الخاصية إنها من نوع الزمن. والزمن، كما يقاس بالميقاتيات يتزايد باتجاه واحد على طول الخط العالمي.
تتطلب نظرية آينشتاين النسبية الخاصة أن تكون الخطوط العالمية، للأشياء الطبيعية، من النوع الزمني. وتتنبأ معادلات الحقل في نظريته النسبية العامة بأن الأجسام العظيمة الكتلة، كالنجوم والثقوب السوداء، تشوه الزمكان وتحني الخطوط العالمية. ذلك هو أصل التثاقل في هذه النظرية: يتلولب الخط العالمي للأرض حول الخط العالمي للشمس، الذي يتلولب هو الآخر حول الخط العالمي لمركز مجرتنا.
هب أن الزمكان صار مشوها لدرجة أن بعض الخطوط العالمية تشكل حلقات مغلقة. فأمثال هذه الخطوط ستكون من نوع الزمن على طول مسارها. ومع أنها تتمتع موضعيا بكل خصائص المكان والزمان العادية، فإنها يمكن أن تكون ممرات إلى الماضي. وإذا حاولنا أن نتتبع بدقة منحنيا من هذا القبيل، مغلقا ومن النوع الزمني، ونحن ندور عليه من البداية للنهاية، فقد نصطدم بأنفسنا الماضية ونُدفع جانبا. أما إذا سلكنا جزءا من هذا المنحني فسنستطيع أن نعود إلى الماضي وأن نشارك في أحداثه. نستطيع أن نتصافح مع أنفسنا عندما كنا أكثر شبابا، أو أن نزور أسلافنا إذا كانت الحلقة كبيرة بدرجة كافية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005504.jpg
يتراكب المكان والزمان في كيان واحد ذي أربعة أبعاد اسمه الزمكان. نمثل هنا بعدين مكانيين والبعد الزمني. يربط الخط العالمي كل الحوادث التي تطرأ على حياة الإنسان بالزمكان. وبما أننا كائنات ذات حجم، فإن الخط العالمي لكل منا أشبه بدودة يتزايد طولها من المهد إلى اللحد منه بالخط. لكن الخطوط العالمية للأشعة الضوئية، المنتشرة في كل الاتجاهات بدءا من حادث ما، تؤلف بمجموعها مخروطا في الزمكان اسمه مخروط الضوء. ولا يمكن لأي خط عالمي، أيا كان صاحبه ـ بشرا أو جمادا ـ أن يتجاوز المخروط الزمني المنطلق من أية نقطة زمكانية من ماضيه.
ولهذه الغاية علينا إما أن نستعمل حلقات طبيعية من النوع الزمني، وإما أن نخلق مثل هذه الحلقات بتشويه الزمكان وتمزيق نسيجه. فآلة السفر في الزمن ليست إذًا مركبة من نوع خاص بل إن من شأنها أن توفر طريقا نحو الماضي يمكن أن تسلكه مركبة عادية، كالسفينة الفضائية مثلا. لكن الحلقة ذات النوع الزمني (أو قل الأنبوب الزمني المغلق الذي يحيط بها) تختلف عن الطريق المكاني العادي بأنها ستستنفد إذا سلكها عدد لانهائي من العربات، لأنها لا يمكن أن تحوي سوى عدد محدود من ديدان الخطوط العالمية. وإذا سلكها المرء للعودة إلى حادث معين فسيصادف في طريقه كل من سلكها قبله، أو سيسلكها، نحو ذلك الحادث.
هل يحوي عالمنا، الآن أو سيحوي في المستقبل، حلقات من نوع الزمن؟ إننا لا نعلم جواب هذا السؤال؛ لكن لدينا حدسيات نظرية عديدة عن الكيفية التي قد تتشكل بها. منها مثلا الحل الذي اكتشفه <K. گوديل> لمعادلات آينشتاين التي تصف الحلقات ذات النوع الزمني. وهو حل يقول بأن العالم كله في حالة دوران (طبقا للحقائق المتاحة حاليا فإن العالم لا يدور). ومنها أيضا أن حلقات من النوع الزمني تظهر في حلول معادلات آينشتاين التي تصف الثقوب السوداء الدوّامة. لكن هذه الحلول تهمل المادة التي تسقط في الثقب الأسود، ومازال مدى انطباقها على الثقوب السوداء الواقعية موضع جدل. زد على ذلك أن المسافر في الزمن من شأنه أن يؤسَر ضمن الثقب الأسود بعد أن يصل إلى الماضي، إلا إذا كان معدل دوران (تدويم) الثقب الأسود أكبر من قيمة حرجة. هذا علما بأن الفيزيائيين الفلكيين لا يعتقدون بأن سرعة دوران الثقوب السوداء الطبيعية التشكل تبلغ هذه القيمة العالية. ربما كان بإمكان حضارة أكثر تقدما من حضارتنا أن تحقن مادة في الثقوب السوداء كي تبلغ سرعة دورانها حدا يكفي لنشوء حلقات زمنية مأمونة، إلا أن معظم الفيزيائيين يستبعدون هذه الإمكانية.
لقد تصور <A .J. ويلر>، الفيزيائي في جامعة برنستون، طريقا مختصرا عبر الزمكان سمّاه ثقبا دوديا. ثم بيَّن <S .K. ثورن>، من معهد كاليفورنيا للتقانة، وسواه كيف يجب تحريك طرفي الثقب الدودي كي يصنعا حلقة من نوع الزمن. وتدل حسابات حديثة أجراها <R. گوت>، من برنستون، على أن خيطا كونيا (وهذا أيضا بناء نظري لم يتأكد وجوده ولا عدمه) يستطيع أن يشكل حلقة من نوع الزمن عندما يمر بسرعة كبيرة بالقرب من خيط كوني آخر.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005505.jpg يمكن لمنحن مغلق من نوع الزمن أن يتشكل إذا انحنى الزمكان حتى يشكل حلقة مغلقة. فإذا سلك إنسان منحنيا من هذا القبيل خاصا به، بادئا رحلته غدا ومنطلقا في الزمان، فإنه سينتهي إلى اليوم (الذي هو أمس غده ذاك).
إننا اليوم بعيدون تماما عن اكتشاف أي من هذه الحلقات الزمنية. ولكنها قد تصبح في متناول الحضارات المستقبلية عندما تحاول تنفيذ مفارقات السفر في الزمن. لذلك لنفحص المفارقات بعناية كي نحدد المبادئ ـ إن وجدت ـ التي يمكن أن تنتهكها هذه المفارقات طبقا لكل من الفيزياء التقليدية والكمومية.
إن الفيزياء التقليدية تؤكد، بما لا يقبل الشك، أن على صفاء أن تنفذ ـ عندما تصل إلى الماضي ـ الأعمال التي يسجل التاريخ أنها نفذتها. ويرى بعض الفلاسفة أن هذه المهمة تحد من "حرية اختيارها" بشكل غير مقبول. لكن هذه الحجة ضد إمكانية السفر في الزمن لا تبدو مقنعة، من وجهة نظر الفيزياء التقليدية، لأن الفيزياء التقليدية مذهب حتمي، في غياب الحلقات الزمنية المغلقة. أي إن ما يحدث في أية لحظة معين حتميا بما يحدث عند لحظة تالية (أو سابقة). وهذا معناه أن كل أفعالنا نتائج محتومة لما حدث حتى قبل أن نكون مضغة في أرحام أمهاتنا. وهذه الحتمية وحدها غالبا ما يُنظر إليها كأمر يتعارض مع حرية الاختيار. وعلى هذا فإن السفر في الزمن لا يحد من حرية الاختيار بأكثر مما تحد الفيزياء التقليدية نفسها من هذه الحرية.
إن جوهر مفارقة الجد لا يكمن في انتهاك حرية الاختيار بل في انتهاك مبدأ أساسي يقوم عليه العلم والتفكير المنطقي السائد، نسميه مبدأ الاستقلال الذاتي (المحلي) autonomy. وطبقا لهذا المبدأ نستطيع أن نخلق في جوارنا المباشر أي تشكيل مادي نتيجة قوانين الفيزياء محليا، دون أن نعبأ بما يحدث في سائر أنحاء الكون. فليس علينا، عندما نقدح عود ثقاب، أن نخشى الفشل بسبب أن الكواكب قد تكون، مثلا، في تشكيل يحول دون نجاح هذه العملية. فالاستقلال الذاتي خاصية منطقية من المرغوب جدا أن تتضمنها قوانين الفيزياء. إذ إن هذا المبدأ هو مبدأ رئيسي لكل علم تجريبي: فنحن نرى أن من المسلم به إمكان إعداد أجهزتنا في أي تشكيل تبيحه قوانين الفيزياء وأن سائر الكون سيتدبر أمر نفسه قِبَل ذلك.
في غياب الحلقات من النوع الزمني تتوافق كل من الفيزياء التقليدية والفيزياء الكمومية مع مبدأ الاستقلال الذاتي. ولكن الفيزياء التقليدية عند وجود هذه الحلقات لا تتوافق مع ذلك المبدأ بسبب ما يسميه<L .J. فريدمان> (من جامعة وسكنسن) وسواه مبدأ التوافق (التماسك) consistency. يقول هذا المبدأ إن التشكيلات المادية الوحيدة التي يمكن تنفيذها محليا هي التشكيلات الذاتية التوافق عالميا. وبموجب هذا المبدأ يستطيع العالم خارج المختبر أن يقيِّد أفعالنا الداخلية فيزيائيا، حتى ولو كان كل ما نفعله متوافقا محليا مع قوانين الفيزياء. ونحن لا نشعر عادة بهذا التقييد لأن مبدأي الاستقلال الذاتي والتوافق لا يتعارضان أبدا إلا بوجود حلقات من النوع الزمني.
لا يوجد في الفيزياء التقليدية سوى تاريخ واحد: إن التوافق يقتضي من صفاء، مهما حاولت أن تغير سير أحداث التاريخ، أن تؤدي العمل الذي أوكله تاريخها السابق إليها. إن بإمكانها أن تزور جدها. وقد تصبح الجدة المستقبلية لصفاء قلقة على حالة الجد الصحية عندما يروي لها ما حدث له مع حفيدتهما، إنه متأثر ويطلب يدها فتقبل عرض الزواج منه. وليس هذا بالشيء الممكن حدوثه فحسب، بل إن الفيزياء التقليدية تحتم حدوث أشياء من هذا القبيل. والخلاصة أن صفاء لا تستطيع أبدا أن تغير الماضي، بل تصبح جزءا منه.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005506.jpg
يمكن للنيوترون أن يتفكك في أية لحظة، وإن كان التفكك في بعض اللحظات أكبر احتمالا منه في سواها. وبموجب تفسير إيڤيرت لميكانيك الكم بفكرة العوالم المتعددة فإن كل واحدة من اللحظات التي يحدث فيها التفكك تنتمي إلى عالم لا توجد فيه لحظة تفكك سواها.
ولكن ماذا لو أرادت صفاء أن تثور على التاريخ؟ لنتصور أنها سافرت نحو الماضي لتلاقي نفسها عندما كانت أصغر سنا (سنقول: صنوها)، وأن صنوها الأصغر يسجل، في أثناء هذا اللقاء، ما تقوله صفاء؛ وفي الوقت المناسب، وقد أصبح الصنو صفاء الأكبر، يحاول الصنو متعمدا أن يقول شيئا آخر. فهل يجب أن نفترض، بما ينافي العقل، أن قوة خفية لا تقاوَم تجبر الصنو على أن يلفظ الكلمات نفسها التي لُفظت في الماضي على عكس عزمه السابق؟ من الممكن لصفاء أن تبرمج إنسانا آليا بحيث يتكلم بدلا منها: فهل سيجد هذا الإنسان الآلي نفسه مجبرا على الخروج عن البرنامج الذي صُمم له؟
إن الفيزياء التقليدية تجيب عن هذا السؤال بنعم: هناك حتما شيء يمنع صفاء، أو الإنسان الآلي، من الخروج عن خط الأحداث التي جرت في الماضي. وليس ضروريا أن يكون هذا الشيء مثيرا: إذ يكفي نشوء أي شيء من الأشياء المألوفة. فقد تختل مركبة صفاء، أو تطرأ عِلَّة على برنامج الإنسان الآلي. ومهما يكن من أمر، فإن التوافق يُحتِّم سقوط مبدأ الاستقلال الذاتي.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005507.jpg
إن صورة الواقع، بموجب التفسير القائم على فكرة العوالم المتعددة، تزيل صفة المفارقة عن السفر في الزمن. تخطط صفاء لأن تركب غدا آلة (عربة) السفر في الزمن كي تعود إلى اليوم الذي هي فيه. ولكنها تقرر أيضا ألا تفعل ذلك إذا برزت هي اليوم من هذه الآلة. إنها تستطيع أن تنفذ هذه الخطة بدون مفارقة. ففي عالم من النوع B لا تبرز صفاء من الآلة اليوم، ولذلك تدخل بموجب مخططها، في الآلة غدا. ثم تخرج اليومَ، ولكن في عالم من النوع A، فتلتقي نسخة من نفسها ـ نسخة لا تدخل في آلة الزمن.
لنعد الآن إلى قصة الناقد الفني المسافر في الزمن. سنطلق على انتهاك المعقولية اسم مفارقة المعرفة (إن مفارقة الجد هي مفارقة على صعيد مبدأ الاتساق). ونعطي هنا لكلمة "معرفة" معنى موسعا: معنى يضم اللوحة الزيتية والمقالة العلمية وأية قطعة في آلة وأي كائن حي. إن مفارقات المعرفة تنتهك المبدأ القائل بأن المعرفة لا يمكن أن تأتي إلى الوجود إلا من خلال حل مسألة ما، كمسألة التطور البيولوجي أو التفكير البشري. ويبدو أن السفر في الزمن يبيح للمعرفة أن تنساب من المستقبل إلى الماضي وبالعكس، فتسلك مسارا حلقيا ذاتي التوافق، دون أن يُضطر أي امرئ، أو أي شيء، إلى التصارع مع المشكلات المناظرة. علما بأن الاعتراض الفلسفي هنا لا يستند إلى فكرة أن حاملات المعرفة المصنعة بشريا قد نُقلت نحو الماضي ـ إنها عنصر "الغداء المجاني". أي إن المعرفة المطلوبة لاختراع الحاملات لا تتوافر من الحاملات ذاتها.
إن الأحداث الفيزيائية تبدو، في مفارقات اللاتوافق، مقيدة بأشد مما تعودناه، ولكنها تكون أضعف تقييدا من ذلك في مفارقات المعرفة. فحالة الكون، على سبيل المثال، قبل وصول الناقد الفني لا تحتِّم مَنْ سيأتي، أو ما سيأتي، من المستقبل، في حال مجيء أي إنسان، ولا ما سيحمل معه. ذلك أن القوانين الحتمية للفيزياء التقليدية تبيح للناقد أن يجلب معه لوحات رائعة أو لوحات رديئة، أو ألا يحمل أية لوحات. ولئن كانت هذه اللاحتمية ليست ما نتوقعه عادة من الفيزياء التقليدية، إلا أنها ليست عائقا أساسيا ضد السفر في الزمن. والواقع أن هذه اللاحتمية تتسع لإضافة مبدأ آخر للقوانين التقليدية، مبدأ يقول بأن المعرفة لا يمكن أن تنشأ إلا كنتيجة لعمليات حل المسائل.
لكن هذا المبدأ يناقض مبدأ الاستقلال الذاتي كما رأيناه في مفارقة الجد، إذ ما الذي يمنع أن تحمل صفاء مخترعات جديدة تذهب بها نحو الماضي وتعرضها أمام من يفترض أنهم مخترعوها الأصليون؟ وهكذا نرى أن الفيزياء التقليدية تستطيع أن تتقبل هذا النوع من السفر الزمني الذي يُعتبر عادة من قبيل المفارقة، ولكن على حساب التضحية بمبدأ الاستقلال الذاتي. وبالتالي فإن التحليل التقليدي لا يزيل التناقض كليا.
لكن هذا كله يبدو لنا ضربا من النظريات الأكاديمية، لأن الفيزياء التقليدية مغلوطة. ولئن كانت نتائجها قريبة جدا من الواقع في ظروف عديدة، إلا أنها تكون بعيدة جدا عنه عند معالجة الحالات التي تتضمن منحنيات زمنية مغلقة.
إننا نعلم منذ فترة طويلة أن الحلقات الزمنية، إذا وجدت، لا يمكن أن تدرَك إلا من خلال ميكانيك الكم. وقد برهن <W .S. هوكنگ>، من جامعة كمبردج، على أن التأثيرات الكمومية إما أن تمنع تشكل حلقات زمنية أو أن تدمِّر كل مسافر زمني يقترب من أي حلقة زمنية. وبموجب حسابات هوكنگ، التي تَستخدِمُ تقريبا يُهمِل التأثيرات التثاقلية للحقول الكمومية، يتبين أن تفاوتات هذه الحقول تبلغ قيما لانهائية في جوار الحلقات الزمنية. والعمليات التقريبية لا بد منها إلى أن نكتشف كيفية تطبيق نظرية الكم تطبيقا تاما على التثاقل، ولكن الزمكانات التي تحوي حلقات زمنية تجعل طرق الحسابات التقريبية الحالية تبلغ مدى كبيرا من الموثوقية عند التطبيق. ويسود الاعتقاد بأن اللانهائيات التي تظهر في حسابات هوكنگ لا تعني أكثر من قصور هذه الأساليب. أي إن التأثيرات الكمومية، التي سنشرحها، من شأنها أن تُيَسِّر فعلا السفر في الزمن، لا أن تحول دونه.
إن ميكانيك الكم يمكن أن يستلزم وجود منحنيات زمنية مغلقة. وهذه الحلقات، على الرغم من صعوبة اكتشافها في الأمداء الكبيرة، يمكن أن توجد بكثرة في الأمداء دون المجهرية حيث تسود التأثيرات الكمومية. ولئن كنا لا نملك حتى اليوم أية نظرية كمومية مُرْضِية تماما للتثاقل، فإن لدينا من النظريات التقريبية المطروحة ما يكفي لتبيان أن الزمكان، رغم مظهره الممهد في الأمداء الكبيرة، ذو بنية إسفنجية ذات أنفاق دودية في المجال دون المجهري، إضافة إلى حلقات زمنية تصعد الزمن نحو الماضي في غضون 10-42 من الثانية تقريبا. وكل ما نستطيع قوله بهذا الصدد هو أن الجسيمات دون المجهرية الموجودة فينا وفيما حولنا قادرة على أن تسافر في الزمن عددا لا يُحصى من المرات.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005508.jpg
والأهم من ذلك أن ميكانيك الكم قادر على حل مفارقات السفر في الزمن. وهذه النظرية هي أفضل نظرية فيزيائية أساسية لدينا، وتشكل ابتعادا جذريا عن وجهات النظر التقليدية السائدة، لأنها، بدلا من أن تتنبأ بيقين تام بكل ما سنرصده، فإنها تتنبأ بكل ما يمكن أن ينتج من عملية الرصد وباحتمال معين لكل نتيجة. فالنيوترون، مثلا، يتفكك (إلى بروتون وإلكترون ونيوترينو مضاد)، إذا انتظرناه، في غضون عشرين دقيقة تقريبا، ولكنه قد يتفكك فورا أو يعيش أكثر من ذلك بما لا يقاس. فكيف سنتمكن من فهم هذه العشوائية؟ هل تمتلك النيوترونات خاصية داخلية نجهلها حاليا؛ خاصية تختلف من نيوترون لآخر وتفسر الفروق الملحوظة في فترات حياتها؟ إن هذه الفكرة غير الواقعية، والمغرية قد استُبعدت لتناقضها مع نبوءات ميكانيك الكم التي تأكدت صحتها بالتجربة.
لقد جرت محاولات أخرى لتعديل ميكانيك الكم بما يضمن بقاء إحساساتنا البديهية التقليدية على حالها. ولكن لم يُكتب النجاح لأي منها. ويبدو أن من الأفضل أن نقبل بميكانيك الكم كما هو، وأن نتبنى الحقيقة الواقعية كما تبرز مباشرة من النظرية نفسها. وعندما نذكر ميكانيك الكم فإننا نعني بذلك التفسير المسمى نظرية العوالم المتعددة الذي ابتدعه <H. إيڤيريت> الثالث عام 1957. يقول هذا الفيزيائي بأن الحدث الفيزيائي الذي يمكن أن يقع، يقع فعليا في عالم خاص به. أي إن الواقع الفيزيائي يتركب من مجموعة عوالم تسمى أحيانا عدودة العوالم. وكل عالَم من هذه المجموعة يحوي نسخته النيوترونية الخاصة التي نرغب في رصد تفككها. ويتعلق بكل لحظة تفكك نيوتروني ممكن؛ عالمٌ يتفكك فيه النيوترون في تلك اللحظة. ولما كنا نرصد تفككه في لحظة معينة فإننا نحن أيضا يجب أن نوجد في عدة نسخ، نسخة في كل عالم. ففي أحد العوالم نرى النيوترون يتفكك في الساعة 10 و 30 دقيقة، وفي عالم آخر نراه يتفكك في الساعة 10 و 31 دقيقة، وهكذا دواليك. فالنظرية الكمومية، كما تُطبَّق في عدودة العوالم، نظرية حتمية ـ إنها تتنبأ باحتمال ذاتي لكل نتيجة رصد وذلك بتعيين النسبة التي تظهر فيها تلك النتيجة في العوالم المختلفة.
إن تفسير إيڤيريت لميكانيك الكم لايزال موضع جدل بين الفيزيائيين. ويُستعمل هذا الميكانيك عادة كأداة حساب في تقدير احتمال كل مُخرج ممكن لعملية فيزيائية وذلك انطلاقا من مُدخل هو المعلومات المتاحة عن العملية، ونحن، في معظم الأحيان، لا نحتاج إلى تفسير الرياضيات التي تصف تلك العملية. ولكن، هناك فرعان في الفيزياء ـ هما علم الكون الكمومي والنظرية الكمومية للحساب ـ يستدعيان مثل هذا التفسير. وهذان الفرعان يهدفان أساسا إلى اكتشاف كيفية عمل المنظومات الفيزيائية المدروسة داخليًا. وفي هذين المجالين يسود تفسير إيڤيريت لدى الباحثين.
فماذا تقول إذًا نظرية ميكانيك الكم، من زاوية تفسير إيڤيريت، بخصوص مفارقات السفر في الزمن؟ إن إحدى المفارقات وهي مفارقة الجد لم تعد مطروحة. هب أن صفاء قد اندفعت في مشروع ينطوي على مفارقة، مشروع يمنع ولادتها إذا تحقق. فماذا يحدث؟ إذا كان الزمكان التقليدي يحتوي على حلقات زمنية، فلا بد عندئذ، بموجب ميكانيك الكم، من وجود رابطة غريبة الشكل بين العوالم المحتواة في عدودة العوالم. فبدلا من وجود عدة عوالم مستقلة ومتوازية، يحوي كل منها حلقات زمنية، نصبح في الواقع إزاء زمكان واحد مؤلف من عدة عوالم متشابكة مترابطة. وهذه الروابط تجبر صفاء على السفر إلى عالم يطابق العالم الذي غادرته، حتى لحظة الوصول، ولكنه يختلف بعدئذ بسبب وجودها فيه.
هل تحول صفاء دون ولادتها أم لا؟ إن الجواب يتوقف على العالَم الذي نشير إليه. ففي العالَم الذي غادرته، والذي ولدت فيه، يتزوج جدها جدتها فعلا، ولكن صفاء لا تزوره فيه. أما في العالم الآخر، العالم الذي سافرت فيه صفاء الأصلية نحو الماضي، فلا يتزوج جدها هذه السيدة بالذات وبالتالي لا تولد صفاء بتاتا.
وهكذا نرى أن سفر صفاء في الزمن يقيد أفعالها. والواقع أنه بموجب ميكانيك الكم، فلن يقيد هذا السفر الأفعال أبدا. أي إن ميكانيك الكم يتوافق مع مبدأ الاستقلال الذاتي حتى عند وجود حلقات زمنية.
لنفترض أن صفاء تحاول جهدها أن تنفذ مفارقة، فتقرر أن تركب غدا عربة السفر في الزمن وأن تغادرها اليوم، إلا إذا برز صنوٌ لها اليوم كان قد انطلق غدا، وفي هذه الحالة لن تركب عربة الزمن غدا. إن هذا القرار ينطوي على تناقض ذاتي من وجهة نظر الفيزياء التقليدية، ولكنه ليس كذلك من وجهة نظر ميكانيك الكم. ففي نصف العوالم ـ التي نرمز لها بـ A ـ تخرج صفاء من العربة أكبر سنا. وعندئذ، بموجب قرارها، لا تركب صفاء العربة غدا وبالتالي فإن كل عالم من العوالم A يحتوي على صفاءين: إحداهما أكبر سنا من الأخرى بقليل. أما في العوالم الأخرى، B، فلا يخرج أحد من العربة وتركب صفاء عندئذ العربة وتصل إلى عالم من A تلتقي فيه صنوا لها أصغر سنا. وتكون من جديد حرة في التصرف على هواها في الماضي، فتفعل أشياء تختلف تماما عما في ذاكرتها (الدقيقة).
وهكذا هناك في نصف العوالم لقاء بين صفاءين، ولا يوجد لقاء في النصف الآخر. ففي العوالم A تظهر "من العدم" صفاء أكبر سنا، وفي العوالم B تختفي "إلى الأبد". وهكذا يحتوي كل واحد من عوالم A على صفاءين إحداهما، الأكبر سنا، بدأت حياتها في B. وقد اختفت صفاء الآن من كل عوالم B، لأنها هاجرت إلى أحد عوالم A.
وهكذا نرى أن ميكانيك الكم يقضي بأن تترابط العوالم فيما بينها بطريقة تتيح لصفاء أن تنفذ مخططاتها دون تناقض، مهما بلغت هذه المخططات من التعقيد. هب أن صفاء تريد أن تُنشئ مفارقة وذلك بأن تحاول اختراق هذه الرابطة مرتين. أي إنها تريد أن تظهر ثانية في العالم الذي غادرته وأن تلقى نفسها السابقة لتتناول طبقا من السباگيتي بدلا من الشطيرة التي تذكر أنها تناولتها. إنها تستطيع أن تتصرف على هواها، كأن تأكل مثلا الطبق الذي تريده بصحبة صنوها الأصغر؛ لكن عدودة العوالم، بسبب ترابطها المختلف عن ترابط المفارقة السابقة، تمنعها من فعل ذلك في عالمها الأصلي. أي إنها تستطيع أن تنجح في مشاطرة صنوها طبق السباگيتي في عالم آخر فقط، في حين أنها تظل وحيدة في عالمها الأصلي مع شطيرتها.
وثمة ظاهرة أخرى غريبة يمكن أن تتحقق بفضل السفر في الزمن، ونسميها الانفصال اللاتناظري. لنفترض أن سميرا، صديق صفاء، لا يصاحبها في هذا السفر: ففي نصف العوالم تركب صفاء عربة السفر في الزمن ولا تخرج منها أبدا. من وجهة نظر سمير توجد إمكانية انفصال أبدي. إن إحدى نسختي سمير سترى صفاء وقد غادرت دون رجعة. (النسخة الأخرى تعود إليها صفاء الثانية). أما من وجهة نظر صفاء فلا يمكن أن يحدث أي انفصال عن سمير لأن كل نسخة منها ستنتهي إلى عالم يحوي نسخة من سمير ـ نسخة عليها أن تعاشرها بنسخة أخرى من ذاتها.
ولو أن سميرا وصفاء اتبعا مخططا واحدا ـ أن لا يدخل أحدهما في العربة إلا إذا غادرها الآخر أولا ـ لأمكن لهما أن ينفصلا تماما منتهيين في عالمين مختلفين. ولو أرادا تنفيذ رغبتين أكثر تعقيدا لأمكن لكل منهما أن ينتهي مصاحبا أي عدد من نسخ الآخر. ولو كان بالإمكان السفر في الزمن على مدى طويل لاستطاعت حضارتان متعاديتان في مجرة واحدة استخدام الانفصال اللاتناظري للسيطرة على المجرة كلها. وعلى هذه الشاكلة يمكن لحضارة كاملة أن تُضاعِف نفسها، كما تفعل صفاء، إلى أي عدد من نسخ ذاتها. وكلما ازداد عدد هذه النسخ يتزايد احتمال أن يرى أحد الراصدين زوال هذه الحضارة من عالمه، وذلك بالضبط على شاكلة زوال صفاء من العالم A بالنسبة لسمير، عندما تظهر نسختها في العالم B (وربما كان هذا هو السبب في أننا لم نصادف قط أناسا من خارج الأرض!)
إن ميكانيك الكم، في حكاية الناقد الفني ومن وجهة نظر المشاركين فيها، يتيح وقوع حوادث على شاكلة ما يصف دوميت: إن العالَم الذي تعلَّم فيه الرسام الرسم لا بد أن يكون العالم الذي أتى منه الناقد. واللوحات في هذا العالم كانت ناجمة عن جهود إبداعية، وقد نُقِلت صورها فيما بعد نحو ماضي عالم آخر. وهناك حصل بالفعل انتحال اللوحات ـ إذا كان نسخ المرء نسخة أخرى عما صنعه يمكن أن يُسمّى انتحالا ـ وحصل الرسام على "شيء بالمجان." ومع ذلك لا توجد مفارقة؛ لأن وجود اللوحات ناجم عن جهد حقيقي خلاق، ولو في عالم آخر.
إن فكرة إمكانية حل مفارقات السفر في الزمن، بفضل مفهوم العوالم المتعددة، ليست جديدة على كتّاب الخيال العلمي ولا على الفلاسفة؛ بل إن ما عرضناه أقرب إلى كونه طريقة برهان على صواب هذا الحل، بالاستناد إلى نظرية فيزيائية قائمة، منه إلى حل مبتكر. وكل ما قلناه عن السفر في الزمن مستمَد من استخدام ميكانيك الكم لاستنباط سلوك الدارات المنطقية ـ تماما كالدارات المستخدمة في الحواسيب باستثناء أننا نضيف هنا فرضية أن المعلومات يمكن أن تسافر نحو الماضي على حلقة زمنية. والمسافرون الزمنيون في حاسوبنا هنا هم رُزم من المعلومات. وقد تم الحصول على نتائج مماثلة باستخدام نماذج أخرى.
إن هذه الحسابات تؤدي إلى التخلص تماما من مفارقات اللاتوافق التي هي مصنوعات ذهنية محضة مستمدة من وجهة نظر عالمية تقليدية انتهت صلاحيتها. لقد قدمنا الحجج لبيان أن مفارقات المعرفة أيضا ليس من شأنها أن تقف حائلا دون السفر في الزمن. لكن هذه الحجج ستظل موضع جدل إلى أن نتمكن من ترجمة المبادئ مثل المعرفة والإبداع إلى لغة الفيزياء؛ وعندئذ فقط نستطيع أن نؤكد ما إذا كان مبدأ "عدم وجود وجبات مجانية" الذي نتطلبه (والقائل بأن خلق المعرفة يأتي من عملية حل المسائل) متناسقا مع ميكانيك الكم وسائر الفيزياء في حال وجود حلقات زمنية.
وهناك حجة أخيرة غالبا ما تُساق ضد السفر في الزمن. وبهذا الصدد يقول هوكنگ: "إن أفضل برهان على استحالة السفر في الزمن هو أننا لم نلحظ قط وفودا من السياح قادمين من المستقبل." لكن هذه الحجة خاطئة، لأن الحلقة الزمنية لا ترجع الزمن إلى أبعد من اللحظة التي خُلقت فيها. فلو صنعت أولى الحلقات الأرضية الزمنية المتاح سلوكها في عام 2054 فإن المسافرين في الزمن عليها بعد ذلك يستطيعون استخدامها للسفر إلى عام 2054 أو إلى ما بعده، لا إلى ما قبله. وقد توجد فعلا حلقات زمنية متاح سلوكها في مكان آخر من المجرة إلا أنه يجب ألا نتوقع بالضرورة "وفودا من السياح قادمين من المستقبل." فبسبب محدودية إمكانية الحلقات الزمنية، وعدم إمكان تجديد مخزوننا منها في أي وقت معين في هذا العالم، يتضح أن الحلقة الزمنية ليست مَعينا يمكن تجديده. لكن الحضارات الخارجية عن أرضنا، أو أحفادنا ستكون لهم أولوياتهم في مجال استخدامها، ولا يوجد سبب يحملنا على الاعتقاد بأن زيارة الأرض في القرن العشرين تقع على رأس اهتماماتهم. وحتى لو كان الأمر كذلك فلن يصلوا إلا إلى بعض العوالم، وقد لا يكون عالمنا من جملتها.
وهكذا نستنتج ما يلي: إذا كان السفر في الزمن مستحيلا، يظل علينا أن نكتشف سبب هذه الاستحالة. وقد نستطيع، أو لا نستطيع، ذات يوم أن نكتشف أمكنة فيها حلقات زمنية صالحة للسفر، أو أن نصنع عددا منها. لكن إذا تأكدت لنا صحة صورة من قبيل نموذج العوالم العديدة ـ ولا نعرف، في علم الكون الكمومي ولا في النظرية الكمومية للحساب، أي بديل قابل للتطبيق ـ فإن كل الاعتراضات المسوقة ضد السفر في الزمن تكون معتمِدة على نماذج خاطئة للواقع الفيزيائي. وبالتالي فعلى من لايزال يرفض فكرة السفر في الزمن أن يقدم حجة علمية أو فلسفة جديدة. ?
المؤلفان
David Deutsch - Michael Lockwood
أستاذان في جامعة أكسفورد يشتركان في الاهتمام بالأسس الفلسفية للفيزياء. يعمل دوتش زميلا باحثا في كلية ولفسون. حصل على الدكتوراه في الفيزياء من أكسفورد تحت إشراف <D. سياما> وقام بأبحاث بعد الدكتوراه تحت إشراف <A .J. ويلر> و<B. دو ويت> و<R. بنروز> ويعمل حاليا في مجال النظرية الكمومية في الحسابيات. ويؤلف دوتش الآن كتابا في الفيزياء والفلسفة بعنوان "بنية الحقيقة." أما لوكوود فهو زميل في كلية گرين كوليج ومحاضر في قسم التعليم المستمر. حصل على الدكتوراه في الفلسفة من أكسفورد أيضا. وأصدر كتابه "العقل والدماغ والكمومية" في عام 1989 ويؤلف حاليا كتابا آخر حول طبيعة الزمن. يعتقد المؤلفان أن العالم الحقيقي أغرب بكثير مما يتصوره الخيال العلمي ولكنه في النهاية أكثر قابلية للفهم.
المصدر : مجلة العلوم المجلد 12
لكن قوانين الفيزياء لا تحول دون ذلك ".
<d. دوتش> ـ <m. لوكوود>
تصوَّر معنا أن صديقتنا صفاء تحتفظ في مرآبها بآلة تتيح لها السفر في الزمن، وأنها استعملتها في الليلة الماضية لزيارة جدها في عام 1934، أثناء فترة خطوبته من جدتها. وقد أقنعته بهويتها بذكر أسرار عائلية لم يكن قد باح بها لأحد حتى ذلك التاريخ. وقد أدهشه ذلك بشدة، لكن الذي سيلي كان أدهى. فعندما أخبر خطيبته أثناء الغداء بأنه قد قابل لتوه حفيدتهما المستقبلية أجابته السيدة معبِّرة عن شكوكها بسلامة عقله وعن استيائها من هذا الادعاء. ففسخت خطوبتهما ولم ينجبا قط تلك الطفلة التي كانت ستصبح أُمَّ صفاء.
فكيف يمكن لصفاء أن تجلس اليوم لتحدثنا عن مغامراتها؟ وإذا كانت أمها لم تولد قط فكيف ولدت هي نفسها؟ إن السؤال الحقيقي هو التالي: عندما تعود صفاء إلى عام 1934، هل تستطيع، أم لا تستطيع، أن تتسبب في قطع علاقة جديها العاطفية؟ إن الجواب عن هذا السؤال يخلق مشكلات عديدة، سواء كان نفيا أو إيجابا. فإذا استطاعت صفاء أن تحول دون ولادتها، فالتناقض واضح. وإذا لم تستطع، فإن عجزها يتعارض مع المنطق المعقول: إذ ما الذي يحول دون أن تتصرف على هواها؟ هل يوجد شيء غامض يشل قدرتها كلما حاولت أن تنفذ بعض رغباتها؟
إن ظروفا كهذه ـ وهي شكل مبسط من "مفارقة الجد" التقليدية، تلك المفارقة التي تجعل الجد يُقتل بيد حفيده القادم من المستقبل ـ تُعتبر، في العادة، أمرًا منافيا لفكرة السفر في الزمن ومع ذلك فمن المدهش أن قوانين الفيزياء لا تحول دون حدوث مثل هذه المغامرات.
وقد ناقش فيلسوف أكسفورد <m. دوميت> مفارقة أخرى غالبا ما تحدث في روايات الخيال العلمي. إنها تتصور ناقدا فنيا يأتي من المستقبل لزيارة رسام في القرن العشرين يعتبره معاصرو الناقد فنانا عظيما. وعندما يشاهد الناقد لوحات الرسام الحالية يجد أنها متوسطة المستوى ويستنتج أن هذا الرسام لم يُنتج بعد اللوحات الرائعة التي أثارت إعجاب أجيال المستقبل. وعندئذ يُطلع الناقد هذا الرسام على كتاب يحوي صورا لهذه الأعمال المتأخرة، فيحتال الرسام في إخفاء هذا الكتاب ويجبر الناقد على الانصراف من دونه، ثم يكتفي بتقليد صور الكتاب بعناية كبيرة على شكل لوحات. وبذلك تكون المقلّدات موجودة لأنها نسخ من اللوحات، واللوحات موجودة لأنها نسخ من المُقلدات. وعلى الرغم من أن هذه القصة ليس فيها أي تناقض، فإنها تنطوي على شيء خاطئ جدا. إنها ترمي إلى إعطائنا اللوحات دون أن يضطر أحد إلى بذل جهد فني كي يبتكرها ـ نوع من "الوجبة الفنية المجانية."
لقد اعتاد الفيزيائيون، من خلال قناعتهم بهذه الاعتراضات، أن يتذرعوا بمبدأ تسلسل زمني لا يسمح بالسفر باتجاه الماضي. والسفر باتجاه واحد نحو المستقبل لا يطرح مشكلات من هذا القبيل. تتنبأ نظرية النسبية الخاصة لآينشتاين بإمكانية أن يتوغل ملاحو الفضاء (ممن يتاح لهم أن ينجزوا رحلة ذهاب وإياب إلى الأرض بتسارعات كافية) عشرات السنين في المستقبل دون أن يشيخوا سوى سنة أو سنتين؛ إلا أن من المهم أن نميّز بين التنبؤات من هذا القبيل، التي تقتصر على إدهاشنا، وبين المعالجات التي قد تخرق قوانين الفيزياء أو المبادئ الفلسفية التي يمكن تبريرها بأسلوب مستقل.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005503.jpg
مفارقة الجد، التي مفادها أن يمنع المسافر الزمني ولادة نفسه، حجة قديمة ضد السفر في الزمن.
سنشرح فيما يلي لماذا لا ينْتَهِك السفرُ باتجاه الماضي أيا من هذه القوانين. وفي سبيل ذلك علينا أولا أن نفحص مفهوم (مبدأ) الزمن ذاته كما يفهمه الفيزيائيون. ففي نظريتي آينشتاين النسبية الخاصة والعامة تنضم إحداثيات المكان الثلاثة مع الإحداثي الزمني لتصنع كلها معا زمكانا ذا أربعة أبعاد. ففي حين يتألف المكان من نقاط فضائية يتألف الزمكان من نقاط زمكانية، أو أحداث؛ أحداث يمثل كل منها موضعا معينا في زمن معين. فحياتك تتخذ في الزمكان شكل "دودة" ذات أربعة أبعاد، نهاية ذيلها تقابل حادث ولادتك، ومقدمة رأسها تمثل حادث وفاتك. والنظرة إلى جسم ما، في لحظة معينة، تريك مقطعا عرضيا ذا ثلاثة أبعاد من هذه الدودة الطويلة الدقيقة ذات الالتواءات المعقدة. أما الخط الذي تقع الدودة على طوله (بإهمال ثخنه) فيسمى الخط العالمي لهذا الجسم.
وعند كل نقطة من خطك العالمي تكون الزاوية التي يصنعها هذا الخط مع محور الزمن قياسا لسرعتك. والخط العالمي للشعاع الضوئي يُرسم نموذجيا كمستقيم يصنع زاوية 45 درجة مع محور الزمن، والومضة الضوئية المنتشرة في كل الاتجاهات تشكل مخروطا في الزمكان يسمى مخروط الضوء . والفرق المهم بين الفضاء العادي والزمكان هو أن الخط العالمي ـ بخلاف الخط المرسوم على الورق مثلا ـ لا يمكن أن يتخذ شكل التواءات اعتباطية. ولما كانت الأشياء كلها لا يمكن أن تتحرك بأسرع من الضوء، فإن الخط العالمي لأي شيء مادي (طبيعي) لا يمكن أن يخرج عن مخروط الضوء الصادر عن حدث وقع في ماضي ذلك الشيء. ويقال عن الخطوط العالمية التي تستجيب لهذه الخاصية إنها من نوع الزمن. والزمن، كما يقاس بالميقاتيات يتزايد باتجاه واحد على طول الخط العالمي.
تتطلب نظرية آينشتاين النسبية الخاصة أن تكون الخطوط العالمية، للأشياء الطبيعية، من النوع الزمني. وتتنبأ معادلات الحقل في نظريته النسبية العامة بأن الأجسام العظيمة الكتلة، كالنجوم والثقوب السوداء، تشوه الزمكان وتحني الخطوط العالمية. ذلك هو أصل التثاقل في هذه النظرية: يتلولب الخط العالمي للأرض حول الخط العالمي للشمس، الذي يتلولب هو الآخر حول الخط العالمي لمركز مجرتنا.
هب أن الزمكان صار مشوها لدرجة أن بعض الخطوط العالمية تشكل حلقات مغلقة. فأمثال هذه الخطوط ستكون من نوع الزمن على طول مسارها. ومع أنها تتمتع موضعيا بكل خصائص المكان والزمان العادية، فإنها يمكن أن تكون ممرات إلى الماضي. وإذا حاولنا أن نتتبع بدقة منحنيا من هذا القبيل، مغلقا ومن النوع الزمني، ونحن ندور عليه من البداية للنهاية، فقد نصطدم بأنفسنا الماضية ونُدفع جانبا. أما إذا سلكنا جزءا من هذا المنحني فسنستطيع أن نعود إلى الماضي وأن نشارك في أحداثه. نستطيع أن نتصافح مع أنفسنا عندما كنا أكثر شبابا، أو أن نزور أسلافنا إذا كانت الحلقة كبيرة بدرجة كافية.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005504.jpg
يتراكب المكان والزمان في كيان واحد ذي أربعة أبعاد اسمه الزمكان. نمثل هنا بعدين مكانيين والبعد الزمني. يربط الخط العالمي كل الحوادث التي تطرأ على حياة الإنسان بالزمكان. وبما أننا كائنات ذات حجم، فإن الخط العالمي لكل منا أشبه بدودة يتزايد طولها من المهد إلى اللحد منه بالخط. لكن الخطوط العالمية للأشعة الضوئية، المنتشرة في كل الاتجاهات بدءا من حادث ما، تؤلف بمجموعها مخروطا في الزمكان اسمه مخروط الضوء. ولا يمكن لأي خط عالمي، أيا كان صاحبه ـ بشرا أو جمادا ـ أن يتجاوز المخروط الزمني المنطلق من أية نقطة زمكانية من ماضيه.
ولهذه الغاية علينا إما أن نستعمل حلقات طبيعية من النوع الزمني، وإما أن نخلق مثل هذه الحلقات بتشويه الزمكان وتمزيق نسيجه. فآلة السفر في الزمن ليست إذًا مركبة من نوع خاص بل إن من شأنها أن توفر طريقا نحو الماضي يمكن أن تسلكه مركبة عادية، كالسفينة الفضائية مثلا. لكن الحلقة ذات النوع الزمني (أو قل الأنبوب الزمني المغلق الذي يحيط بها) تختلف عن الطريق المكاني العادي بأنها ستستنفد إذا سلكها عدد لانهائي من العربات، لأنها لا يمكن أن تحوي سوى عدد محدود من ديدان الخطوط العالمية. وإذا سلكها المرء للعودة إلى حادث معين فسيصادف في طريقه كل من سلكها قبله، أو سيسلكها، نحو ذلك الحادث.
هل يحوي عالمنا، الآن أو سيحوي في المستقبل، حلقات من نوع الزمن؟ إننا لا نعلم جواب هذا السؤال؛ لكن لدينا حدسيات نظرية عديدة عن الكيفية التي قد تتشكل بها. منها مثلا الحل الذي اكتشفه <K. گوديل> لمعادلات آينشتاين التي تصف الحلقات ذات النوع الزمني. وهو حل يقول بأن العالم كله في حالة دوران (طبقا للحقائق المتاحة حاليا فإن العالم لا يدور). ومنها أيضا أن حلقات من النوع الزمني تظهر في حلول معادلات آينشتاين التي تصف الثقوب السوداء الدوّامة. لكن هذه الحلول تهمل المادة التي تسقط في الثقب الأسود، ومازال مدى انطباقها على الثقوب السوداء الواقعية موضع جدل. زد على ذلك أن المسافر في الزمن من شأنه أن يؤسَر ضمن الثقب الأسود بعد أن يصل إلى الماضي، إلا إذا كان معدل دوران (تدويم) الثقب الأسود أكبر من قيمة حرجة. هذا علما بأن الفيزيائيين الفلكيين لا يعتقدون بأن سرعة دوران الثقوب السوداء الطبيعية التشكل تبلغ هذه القيمة العالية. ربما كان بإمكان حضارة أكثر تقدما من حضارتنا أن تحقن مادة في الثقوب السوداء كي تبلغ سرعة دورانها حدا يكفي لنشوء حلقات زمنية مأمونة، إلا أن معظم الفيزيائيين يستبعدون هذه الإمكانية.
لقد تصور <A .J. ويلر>، الفيزيائي في جامعة برنستون، طريقا مختصرا عبر الزمكان سمّاه ثقبا دوديا. ثم بيَّن <S .K. ثورن>، من معهد كاليفورنيا للتقانة، وسواه كيف يجب تحريك طرفي الثقب الدودي كي يصنعا حلقة من نوع الزمن. وتدل حسابات حديثة أجراها <R. گوت>، من برنستون، على أن خيطا كونيا (وهذا أيضا بناء نظري لم يتأكد وجوده ولا عدمه) يستطيع أن يشكل حلقة من نوع الزمن عندما يمر بسرعة كبيرة بالقرب من خيط كوني آخر.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005505.jpg يمكن لمنحن مغلق من نوع الزمن أن يتشكل إذا انحنى الزمكان حتى يشكل حلقة مغلقة. فإذا سلك إنسان منحنيا من هذا القبيل خاصا به، بادئا رحلته غدا ومنطلقا في الزمان، فإنه سينتهي إلى اليوم (الذي هو أمس غده ذاك).
إننا اليوم بعيدون تماما عن اكتشاف أي من هذه الحلقات الزمنية. ولكنها قد تصبح في متناول الحضارات المستقبلية عندما تحاول تنفيذ مفارقات السفر في الزمن. لذلك لنفحص المفارقات بعناية كي نحدد المبادئ ـ إن وجدت ـ التي يمكن أن تنتهكها هذه المفارقات طبقا لكل من الفيزياء التقليدية والكمومية.
إن الفيزياء التقليدية تؤكد، بما لا يقبل الشك، أن على صفاء أن تنفذ ـ عندما تصل إلى الماضي ـ الأعمال التي يسجل التاريخ أنها نفذتها. ويرى بعض الفلاسفة أن هذه المهمة تحد من "حرية اختيارها" بشكل غير مقبول. لكن هذه الحجة ضد إمكانية السفر في الزمن لا تبدو مقنعة، من وجهة نظر الفيزياء التقليدية، لأن الفيزياء التقليدية مذهب حتمي، في غياب الحلقات الزمنية المغلقة. أي إن ما يحدث في أية لحظة معين حتميا بما يحدث عند لحظة تالية (أو سابقة). وهذا معناه أن كل أفعالنا نتائج محتومة لما حدث حتى قبل أن نكون مضغة في أرحام أمهاتنا. وهذه الحتمية وحدها غالبا ما يُنظر إليها كأمر يتعارض مع حرية الاختيار. وعلى هذا فإن السفر في الزمن لا يحد من حرية الاختيار بأكثر مما تحد الفيزياء التقليدية نفسها من هذه الحرية.
إن جوهر مفارقة الجد لا يكمن في انتهاك حرية الاختيار بل في انتهاك مبدأ أساسي يقوم عليه العلم والتفكير المنطقي السائد، نسميه مبدأ الاستقلال الذاتي (المحلي) autonomy. وطبقا لهذا المبدأ نستطيع أن نخلق في جوارنا المباشر أي تشكيل مادي نتيجة قوانين الفيزياء محليا، دون أن نعبأ بما يحدث في سائر أنحاء الكون. فليس علينا، عندما نقدح عود ثقاب، أن نخشى الفشل بسبب أن الكواكب قد تكون، مثلا، في تشكيل يحول دون نجاح هذه العملية. فالاستقلال الذاتي خاصية منطقية من المرغوب جدا أن تتضمنها قوانين الفيزياء. إذ إن هذا المبدأ هو مبدأ رئيسي لكل علم تجريبي: فنحن نرى أن من المسلم به إمكان إعداد أجهزتنا في أي تشكيل تبيحه قوانين الفيزياء وأن سائر الكون سيتدبر أمر نفسه قِبَل ذلك.
في غياب الحلقات من النوع الزمني تتوافق كل من الفيزياء التقليدية والفيزياء الكمومية مع مبدأ الاستقلال الذاتي. ولكن الفيزياء التقليدية عند وجود هذه الحلقات لا تتوافق مع ذلك المبدأ بسبب ما يسميه<L .J. فريدمان> (من جامعة وسكنسن) وسواه مبدأ التوافق (التماسك) consistency. يقول هذا المبدأ إن التشكيلات المادية الوحيدة التي يمكن تنفيذها محليا هي التشكيلات الذاتية التوافق عالميا. وبموجب هذا المبدأ يستطيع العالم خارج المختبر أن يقيِّد أفعالنا الداخلية فيزيائيا، حتى ولو كان كل ما نفعله متوافقا محليا مع قوانين الفيزياء. ونحن لا نشعر عادة بهذا التقييد لأن مبدأي الاستقلال الذاتي والتوافق لا يتعارضان أبدا إلا بوجود حلقات من النوع الزمني.
لا يوجد في الفيزياء التقليدية سوى تاريخ واحد: إن التوافق يقتضي من صفاء، مهما حاولت أن تغير سير أحداث التاريخ، أن تؤدي العمل الذي أوكله تاريخها السابق إليها. إن بإمكانها أن تزور جدها. وقد تصبح الجدة المستقبلية لصفاء قلقة على حالة الجد الصحية عندما يروي لها ما حدث له مع حفيدتهما، إنه متأثر ويطلب يدها فتقبل عرض الزواج منه. وليس هذا بالشيء الممكن حدوثه فحسب، بل إن الفيزياء التقليدية تحتم حدوث أشياء من هذا القبيل. والخلاصة أن صفاء لا تستطيع أبدا أن تغير الماضي، بل تصبح جزءا منه.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005506.jpg
يمكن للنيوترون أن يتفكك في أية لحظة، وإن كان التفكك في بعض اللحظات أكبر احتمالا منه في سواها. وبموجب تفسير إيڤيرت لميكانيك الكم بفكرة العوالم المتعددة فإن كل واحدة من اللحظات التي يحدث فيها التفكك تنتمي إلى عالم لا توجد فيه لحظة تفكك سواها.
ولكن ماذا لو أرادت صفاء أن تثور على التاريخ؟ لنتصور أنها سافرت نحو الماضي لتلاقي نفسها عندما كانت أصغر سنا (سنقول: صنوها)، وأن صنوها الأصغر يسجل، في أثناء هذا اللقاء، ما تقوله صفاء؛ وفي الوقت المناسب، وقد أصبح الصنو صفاء الأكبر، يحاول الصنو متعمدا أن يقول شيئا آخر. فهل يجب أن نفترض، بما ينافي العقل، أن قوة خفية لا تقاوَم تجبر الصنو على أن يلفظ الكلمات نفسها التي لُفظت في الماضي على عكس عزمه السابق؟ من الممكن لصفاء أن تبرمج إنسانا آليا بحيث يتكلم بدلا منها: فهل سيجد هذا الإنسان الآلي نفسه مجبرا على الخروج عن البرنامج الذي صُمم له؟
إن الفيزياء التقليدية تجيب عن هذا السؤال بنعم: هناك حتما شيء يمنع صفاء، أو الإنسان الآلي، من الخروج عن خط الأحداث التي جرت في الماضي. وليس ضروريا أن يكون هذا الشيء مثيرا: إذ يكفي نشوء أي شيء من الأشياء المألوفة. فقد تختل مركبة صفاء، أو تطرأ عِلَّة على برنامج الإنسان الآلي. ومهما يكن من أمر، فإن التوافق يُحتِّم سقوط مبدأ الاستقلال الذاتي.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005507.jpg
إن صورة الواقع، بموجب التفسير القائم على فكرة العوالم المتعددة، تزيل صفة المفارقة عن السفر في الزمن. تخطط صفاء لأن تركب غدا آلة (عربة) السفر في الزمن كي تعود إلى اليوم الذي هي فيه. ولكنها تقرر أيضا ألا تفعل ذلك إذا برزت هي اليوم من هذه الآلة. إنها تستطيع أن تنفذ هذه الخطة بدون مفارقة. ففي عالم من النوع B لا تبرز صفاء من الآلة اليوم، ولذلك تدخل بموجب مخططها، في الآلة غدا. ثم تخرج اليومَ، ولكن في عالم من النوع A، فتلتقي نسخة من نفسها ـ نسخة لا تدخل في آلة الزمن.
لنعد الآن إلى قصة الناقد الفني المسافر في الزمن. سنطلق على انتهاك المعقولية اسم مفارقة المعرفة (إن مفارقة الجد هي مفارقة على صعيد مبدأ الاتساق). ونعطي هنا لكلمة "معرفة" معنى موسعا: معنى يضم اللوحة الزيتية والمقالة العلمية وأية قطعة في آلة وأي كائن حي. إن مفارقات المعرفة تنتهك المبدأ القائل بأن المعرفة لا يمكن أن تأتي إلى الوجود إلا من خلال حل مسألة ما، كمسألة التطور البيولوجي أو التفكير البشري. ويبدو أن السفر في الزمن يبيح للمعرفة أن تنساب من المستقبل إلى الماضي وبالعكس، فتسلك مسارا حلقيا ذاتي التوافق، دون أن يُضطر أي امرئ، أو أي شيء، إلى التصارع مع المشكلات المناظرة. علما بأن الاعتراض الفلسفي هنا لا يستند إلى فكرة أن حاملات المعرفة المصنعة بشريا قد نُقلت نحو الماضي ـ إنها عنصر "الغداء المجاني". أي إن المعرفة المطلوبة لاختراع الحاملات لا تتوافر من الحاملات ذاتها.
إن الأحداث الفيزيائية تبدو، في مفارقات اللاتوافق، مقيدة بأشد مما تعودناه، ولكنها تكون أضعف تقييدا من ذلك في مفارقات المعرفة. فحالة الكون، على سبيل المثال، قبل وصول الناقد الفني لا تحتِّم مَنْ سيأتي، أو ما سيأتي، من المستقبل، في حال مجيء أي إنسان، ولا ما سيحمل معه. ذلك أن القوانين الحتمية للفيزياء التقليدية تبيح للناقد أن يجلب معه لوحات رائعة أو لوحات رديئة، أو ألا يحمل أية لوحات. ولئن كانت هذه اللاحتمية ليست ما نتوقعه عادة من الفيزياء التقليدية، إلا أنها ليست عائقا أساسيا ضد السفر في الزمن. والواقع أن هذه اللاحتمية تتسع لإضافة مبدأ آخر للقوانين التقليدية، مبدأ يقول بأن المعرفة لا يمكن أن تنشأ إلا كنتيجة لعمليات حل المسائل.
لكن هذا المبدأ يناقض مبدأ الاستقلال الذاتي كما رأيناه في مفارقة الجد، إذ ما الذي يمنع أن تحمل صفاء مخترعات جديدة تذهب بها نحو الماضي وتعرضها أمام من يفترض أنهم مخترعوها الأصليون؟ وهكذا نرى أن الفيزياء التقليدية تستطيع أن تتقبل هذا النوع من السفر الزمني الذي يُعتبر عادة من قبيل المفارقة، ولكن على حساب التضحية بمبدأ الاستقلال الذاتي. وبالتالي فإن التحليل التقليدي لا يزيل التناقض كليا.
لكن هذا كله يبدو لنا ضربا من النظريات الأكاديمية، لأن الفيزياء التقليدية مغلوطة. ولئن كانت نتائجها قريبة جدا من الواقع في ظروف عديدة، إلا أنها تكون بعيدة جدا عنه عند معالجة الحالات التي تتضمن منحنيات زمنية مغلقة.
إننا نعلم منذ فترة طويلة أن الحلقات الزمنية، إذا وجدت، لا يمكن أن تدرَك إلا من خلال ميكانيك الكم. وقد برهن <W .S. هوكنگ>، من جامعة كمبردج، على أن التأثيرات الكمومية إما أن تمنع تشكل حلقات زمنية أو أن تدمِّر كل مسافر زمني يقترب من أي حلقة زمنية. وبموجب حسابات هوكنگ، التي تَستخدِمُ تقريبا يُهمِل التأثيرات التثاقلية للحقول الكمومية، يتبين أن تفاوتات هذه الحقول تبلغ قيما لانهائية في جوار الحلقات الزمنية. والعمليات التقريبية لا بد منها إلى أن نكتشف كيفية تطبيق نظرية الكم تطبيقا تاما على التثاقل، ولكن الزمكانات التي تحوي حلقات زمنية تجعل طرق الحسابات التقريبية الحالية تبلغ مدى كبيرا من الموثوقية عند التطبيق. ويسود الاعتقاد بأن اللانهائيات التي تظهر في حسابات هوكنگ لا تعني أكثر من قصور هذه الأساليب. أي إن التأثيرات الكمومية، التي سنشرحها، من شأنها أن تُيَسِّر فعلا السفر في الزمن، لا أن تحول دونه.
إن ميكانيك الكم يمكن أن يستلزم وجود منحنيات زمنية مغلقة. وهذه الحلقات، على الرغم من صعوبة اكتشافها في الأمداء الكبيرة، يمكن أن توجد بكثرة في الأمداء دون المجهرية حيث تسود التأثيرات الكمومية. ولئن كنا لا نملك حتى اليوم أية نظرية كمومية مُرْضِية تماما للتثاقل، فإن لدينا من النظريات التقريبية المطروحة ما يكفي لتبيان أن الزمكان، رغم مظهره الممهد في الأمداء الكبيرة، ذو بنية إسفنجية ذات أنفاق دودية في المجال دون المجهري، إضافة إلى حلقات زمنية تصعد الزمن نحو الماضي في غضون 10-42 من الثانية تقريبا. وكل ما نستطيع قوله بهذا الصدد هو أن الجسيمات دون المجهرية الموجودة فينا وفيما حولنا قادرة على أن تسافر في الزمن عددا لا يُحصى من المرات.
http://www.oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N11-12_H07_005508.jpg
والأهم من ذلك أن ميكانيك الكم قادر على حل مفارقات السفر في الزمن. وهذه النظرية هي أفضل نظرية فيزيائية أساسية لدينا، وتشكل ابتعادا جذريا عن وجهات النظر التقليدية السائدة، لأنها، بدلا من أن تتنبأ بيقين تام بكل ما سنرصده، فإنها تتنبأ بكل ما يمكن أن ينتج من عملية الرصد وباحتمال معين لكل نتيجة. فالنيوترون، مثلا، يتفكك (إلى بروتون وإلكترون ونيوترينو مضاد)، إذا انتظرناه، في غضون عشرين دقيقة تقريبا، ولكنه قد يتفكك فورا أو يعيش أكثر من ذلك بما لا يقاس. فكيف سنتمكن من فهم هذه العشوائية؟ هل تمتلك النيوترونات خاصية داخلية نجهلها حاليا؛ خاصية تختلف من نيوترون لآخر وتفسر الفروق الملحوظة في فترات حياتها؟ إن هذه الفكرة غير الواقعية، والمغرية قد استُبعدت لتناقضها مع نبوءات ميكانيك الكم التي تأكدت صحتها بالتجربة.
لقد جرت محاولات أخرى لتعديل ميكانيك الكم بما يضمن بقاء إحساساتنا البديهية التقليدية على حالها. ولكن لم يُكتب النجاح لأي منها. ويبدو أن من الأفضل أن نقبل بميكانيك الكم كما هو، وأن نتبنى الحقيقة الواقعية كما تبرز مباشرة من النظرية نفسها. وعندما نذكر ميكانيك الكم فإننا نعني بذلك التفسير المسمى نظرية العوالم المتعددة الذي ابتدعه <H. إيڤيريت> الثالث عام 1957. يقول هذا الفيزيائي بأن الحدث الفيزيائي الذي يمكن أن يقع، يقع فعليا في عالم خاص به. أي إن الواقع الفيزيائي يتركب من مجموعة عوالم تسمى أحيانا عدودة العوالم. وكل عالَم من هذه المجموعة يحوي نسخته النيوترونية الخاصة التي نرغب في رصد تفككها. ويتعلق بكل لحظة تفكك نيوتروني ممكن؛ عالمٌ يتفكك فيه النيوترون في تلك اللحظة. ولما كنا نرصد تفككه في لحظة معينة فإننا نحن أيضا يجب أن نوجد في عدة نسخ، نسخة في كل عالم. ففي أحد العوالم نرى النيوترون يتفكك في الساعة 10 و 30 دقيقة، وفي عالم آخر نراه يتفكك في الساعة 10 و 31 دقيقة، وهكذا دواليك. فالنظرية الكمومية، كما تُطبَّق في عدودة العوالم، نظرية حتمية ـ إنها تتنبأ باحتمال ذاتي لكل نتيجة رصد وذلك بتعيين النسبة التي تظهر فيها تلك النتيجة في العوالم المختلفة.
إن تفسير إيڤيريت لميكانيك الكم لايزال موضع جدل بين الفيزيائيين. ويُستعمل هذا الميكانيك عادة كأداة حساب في تقدير احتمال كل مُخرج ممكن لعملية فيزيائية وذلك انطلاقا من مُدخل هو المعلومات المتاحة عن العملية، ونحن، في معظم الأحيان، لا نحتاج إلى تفسير الرياضيات التي تصف تلك العملية. ولكن، هناك فرعان في الفيزياء ـ هما علم الكون الكمومي والنظرية الكمومية للحساب ـ يستدعيان مثل هذا التفسير. وهذان الفرعان يهدفان أساسا إلى اكتشاف كيفية عمل المنظومات الفيزيائية المدروسة داخليًا. وفي هذين المجالين يسود تفسير إيڤيريت لدى الباحثين.
فماذا تقول إذًا نظرية ميكانيك الكم، من زاوية تفسير إيڤيريت، بخصوص مفارقات السفر في الزمن؟ إن إحدى المفارقات وهي مفارقة الجد لم تعد مطروحة. هب أن صفاء قد اندفعت في مشروع ينطوي على مفارقة، مشروع يمنع ولادتها إذا تحقق. فماذا يحدث؟ إذا كان الزمكان التقليدي يحتوي على حلقات زمنية، فلا بد عندئذ، بموجب ميكانيك الكم، من وجود رابطة غريبة الشكل بين العوالم المحتواة في عدودة العوالم. فبدلا من وجود عدة عوالم مستقلة ومتوازية، يحوي كل منها حلقات زمنية، نصبح في الواقع إزاء زمكان واحد مؤلف من عدة عوالم متشابكة مترابطة. وهذه الروابط تجبر صفاء على السفر إلى عالم يطابق العالم الذي غادرته، حتى لحظة الوصول، ولكنه يختلف بعدئذ بسبب وجودها فيه.
هل تحول صفاء دون ولادتها أم لا؟ إن الجواب يتوقف على العالَم الذي نشير إليه. ففي العالَم الذي غادرته، والذي ولدت فيه، يتزوج جدها جدتها فعلا، ولكن صفاء لا تزوره فيه. أما في العالم الآخر، العالم الذي سافرت فيه صفاء الأصلية نحو الماضي، فلا يتزوج جدها هذه السيدة بالذات وبالتالي لا تولد صفاء بتاتا.
وهكذا نرى أن سفر صفاء في الزمن يقيد أفعالها. والواقع أنه بموجب ميكانيك الكم، فلن يقيد هذا السفر الأفعال أبدا. أي إن ميكانيك الكم يتوافق مع مبدأ الاستقلال الذاتي حتى عند وجود حلقات زمنية.
لنفترض أن صفاء تحاول جهدها أن تنفذ مفارقة، فتقرر أن تركب غدا عربة السفر في الزمن وأن تغادرها اليوم، إلا إذا برز صنوٌ لها اليوم كان قد انطلق غدا، وفي هذه الحالة لن تركب عربة الزمن غدا. إن هذا القرار ينطوي على تناقض ذاتي من وجهة نظر الفيزياء التقليدية، ولكنه ليس كذلك من وجهة نظر ميكانيك الكم. ففي نصف العوالم ـ التي نرمز لها بـ A ـ تخرج صفاء من العربة أكبر سنا. وعندئذ، بموجب قرارها، لا تركب صفاء العربة غدا وبالتالي فإن كل عالم من العوالم A يحتوي على صفاءين: إحداهما أكبر سنا من الأخرى بقليل. أما في العوالم الأخرى، B، فلا يخرج أحد من العربة وتركب صفاء عندئذ العربة وتصل إلى عالم من A تلتقي فيه صنوا لها أصغر سنا. وتكون من جديد حرة في التصرف على هواها في الماضي، فتفعل أشياء تختلف تماما عما في ذاكرتها (الدقيقة).
وهكذا هناك في نصف العوالم لقاء بين صفاءين، ولا يوجد لقاء في النصف الآخر. ففي العوالم A تظهر "من العدم" صفاء أكبر سنا، وفي العوالم B تختفي "إلى الأبد". وهكذا يحتوي كل واحد من عوالم A على صفاءين إحداهما، الأكبر سنا، بدأت حياتها في B. وقد اختفت صفاء الآن من كل عوالم B، لأنها هاجرت إلى أحد عوالم A.
وهكذا نرى أن ميكانيك الكم يقضي بأن تترابط العوالم فيما بينها بطريقة تتيح لصفاء أن تنفذ مخططاتها دون تناقض، مهما بلغت هذه المخططات من التعقيد. هب أن صفاء تريد أن تُنشئ مفارقة وذلك بأن تحاول اختراق هذه الرابطة مرتين. أي إنها تريد أن تظهر ثانية في العالم الذي غادرته وأن تلقى نفسها السابقة لتتناول طبقا من السباگيتي بدلا من الشطيرة التي تذكر أنها تناولتها. إنها تستطيع أن تتصرف على هواها، كأن تأكل مثلا الطبق الذي تريده بصحبة صنوها الأصغر؛ لكن عدودة العوالم، بسبب ترابطها المختلف عن ترابط المفارقة السابقة، تمنعها من فعل ذلك في عالمها الأصلي. أي إنها تستطيع أن تنجح في مشاطرة صنوها طبق السباگيتي في عالم آخر فقط، في حين أنها تظل وحيدة في عالمها الأصلي مع شطيرتها.
وثمة ظاهرة أخرى غريبة يمكن أن تتحقق بفضل السفر في الزمن، ونسميها الانفصال اللاتناظري. لنفترض أن سميرا، صديق صفاء، لا يصاحبها في هذا السفر: ففي نصف العوالم تركب صفاء عربة السفر في الزمن ولا تخرج منها أبدا. من وجهة نظر سمير توجد إمكانية انفصال أبدي. إن إحدى نسختي سمير سترى صفاء وقد غادرت دون رجعة. (النسخة الأخرى تعود إليها صفاء الثانية). أما من وجهة نظر صفاء فلا يمكن أن يحدث أي انفصال عن سمير لأن كل نسخة منها ستنتهي إلى عالم يحوي نسخة من سمير ـ نسخة عليها أن تعاشرها بنسخة أخرى من ذاتها.
ولو أن سميرا وصفاء اتبعا مخططا واحدا ـ أن لا يدخل أحدهما في العربة إلا إذا غادرها الآخر أولا ـ لأمكن لهما أن ينفصلا تماما منتهيين في عالمين مختلفين. ولو أرادا تنفيذ رغبتين أكثر تعقيدا لأمكن لكل منهما أن ينتهي مصاحبا أي عدد من نسخ الآخر. ولو كان بالإمكان السفر في الزمن على مدى طويل لاستطاعت حضارتان متعاديتان في مجرة واحدة استخدام الانفصال اللاتناظري للسيطرة على المجرة كلها. وعلى هذه الشاكلة يمكن لحضارة كاملة أن تُضاعِف نفسها، كما تفعل صفاء، إلى أي عدد من نسخ ذاتها. وكلما ازداد عدد هذه النسخ يتزايد احتمال أن يرى أحد الراصدين زوال هذه الحضارة من عالمه، وذلك بالضبط على شاكلة زوال صفاء من العالم A بالنسبة لسمير، عندما تظهر نسختها في العالم B (وربما كان هذا هو السبب في أننا لم نصادف قط أناسا من خارج الأرض!)
إن ميكانيك الكم، في حكاية الناقد الفني ومن وجهة نظر المشاركين فيها، يتيح وقوع حوادث على شاكلة ما يصف دوميت: إن العالَم الذي تعلَّم فيه الرسام الرسم لا بد أن يكون العالم الذي أتى منه الناقد. واللوحات في هذا العالم كانت ناجمة عن جهود إبداعية، وقد نُقِلت صورها فيما بعد نحو ماضي عالم آخر. وهناك حصل بالفعل انتحال اللوحات ـ إذا كان نسخ المرء نسخة أخرى عما صنعه يمكن أن يُسمّى انتحالا ـ وحصل الرسام على "شيء بالمجان." ومع ذلك لا توجد مفارقة؛ لأن وجود اللوحات ناجم عن جهد حقيقي خلاق، ولو في عالم آخر.
إن فكرة إمكانية حل مفارقات السفر في الزمن، بفضل مفهوم العوالم المتعددة، ليست جديدة على كتّاب الخيال العلمي ولا على الفلاسفة؛ بل إن ما عرضناه أقرب إلى كونه طريقة برهان على صواب هذا الحل، بالاستناد إلى نظرية فيزيائية قائمة، منه إلى حل مبتكر. وكل ما قلناه عن السفر في الزمن مستمَد من استخدام ميكانيك الكم لاستنباط سلوك الدارات المنطقية ـ تماما كالدارات المستخدمة في الحواسيب باستثناء أننا نضيف هنا فرضية أن المعلومات يمكن أن تسافر نحو الماضي على حلقة زمنية. والمسافرون الزمنيون في حاسوبنا هنا هم رُزم من المعلومات. وقد تم الحصول على نتائج مماثلة باستخدام نماذج أخرى.
إن هذه الحسابات تؤدي إلى التخلص تماما من مفارقات اللاتوافق التي هي مصنوعات ذهنية محضة مستمدة من وجهة نظر عالمية تقليدية انتهت صلاحيتها. لقد قدمنا الحجج لبيان أن مفارقات المعرفة أيضا ليس من شأنها أن تقف حائلا دون السفر في الزمن. لكن هذه الحجج ستظل موضع جدل إلى أن نتمكن من ترجمة المبادئ مثل المعرفة والإبداع إلى لغة الفيزياء؛ وعندئذ فقط نستطيع أن نؤكد ما إذا كان مبدأ "عدم وجود وجبات مجانية" الذي نتطلبه (والقائل بأن خلق المعرفة يأتي من عملية حل المسائل) متناسقا مع ميكانيك الكم وسائر الفيزياء في حال وجود حلقات زمنية.
وهناك حجة أخيرة غالبا ما تُساق ضد السفر في الزمن. وبهذا الصدد يقول هوكنگ: "إن أفضل برهان على استحالة السفر في الزمن هو أننا لم نلحظ قط وفودا من السياح قادمين من المستقبل." لكن هذه الحجة خاطئة، لأن الحلقة الزمنية لا ترجع الزمن إلى أبعد من اللحظة التي خُلقت فيها. فلو صنعت أولى الحلقات الأرضية الزمنية المتاح سلوكها في عام 2054 فإن المسافرين في الزمن عليها بعد ذلك يستطيعون استخدامها للسفر إلى عام 2054 أو إلى ما بعده، لا إلى ما قبله. وقد توجد فعلا حلقات زمنية متاح سلوكها في مكان آخر من المجرة إلا أنه يجب ألا نتوقع بالضرورة "وفودا من السياح قادمين من المستقبل." فبسبب محدودية إمكانية الحلقات الزمنية، وعدم إمكان تجديد مخزوننا منها في أي وقت معين في هذا العالم، يتضح أن الحلقة الزمنية ليست مَعينا يمكن تجديده. لكن الحضارات الخارجية عن أرضنا، أو أحفادنا ستكون لهم أولوياتهم في مجال استخدامها، ولا يوجد سبب يحملنا على الاعتقاد بأن زيارة الأرض في القرن العشرين تقع على رأس اهتماماتهم. وحتى لو كان الأمر كذلك فلن يصلوا إلا إلى بعض العوالم، وقد لا يكون عالمنا من جملتها.
وهكذا نستنتج ما يلي: إذا كان السفر في الزمن مستحيلا، يظل علينا أن نكتشف سبب هذه الاستحالة. وقد نستطيع، أو لا نستطيع، ذات يوم أن نكتشف أمكنة فيها حلقات زمنية صالحة للسفر، أو أن نصنع عددا منها. لكن إذا تأكدت لنا صحة صورة من قبيل نموذج العوالم العديدة ـ ولا نعرف، في علم الكون الكمومي ولا في النظرية الكمومية للحساب، أي بديل قابل للتطبيق ـ فإن كل الاعتراضات المسوقة ضد السفر في الزمن تكون معتمِدة على نماذج خاطئة للواقع الفيزيائي. وبالتالي فعلى من لايزال يرفض فكرة السفر في الزمن أن يقدم حجة علمية أو فلسفة جديدة. ?
المؤلفان
David Deutsch - Michael Lockwood
أستاذان في جامعة أكسفورد يشتركان في الاهتمام بالأسس الفلسفية للفيزياء. يعمل دوتش زميلا باحثا في كلية ولفسون. حصل على الدكتوراه في الفيزياء من أكسفورد تحت إشراف <D. سياما> وقام بأبحاث بعد الدكتوراه تحت إشراف <A .J. ويلر> و<B. دو ويت> و<R. بنروز> ويعمل حاليا في مجال النظرية الكمومية في الحسابيات. ويؤلف دوتش الآن كتابا في الفيزياء والفلسفة بعنوان "بنية الحقيقة." أما لوكوود فهو زميل في كلية گرين كوليج ومحاضر في قسم التعليم المستمر. حصل على الدكتوراه في الفلسفة من أكسفورد أيضا. وأصدر كتابه "العقل والدماغ والكمومية" في عام 1989 ويؤلف حاليا كتابا آخر حول طبيعة الزمن. يعتقد المؤلفان أن العالم الحقيقي أغرب بكثير مما يتصوره الخيال العلمي ولكنه في النهاية أكثر قابلية للفهم.
المصدر : مجلة العلوم المجلد 12