المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معضلة الوجود.. أسس المعرفة العلمية



محمد مصطفى
02-14-2009, 09:37 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا المقال وجدته منشور فى موقع العرب اونلاين وهو جميل جدا ومفيد فاحببت ان انقله واعرف رايكم فيه

http://www.alarabonline.org/data/2009/02/02-14/402p.jpg


حدد كلود برنار البيولوجي الفرنسي الشهير منطلق البحث العلمي حين قال: "إن الذي لا يدري عما يبحث لا يعرف ماذا يجد"، لكن قبل هذا وذاك ما المقصود بالمعرفة العلمية؟ وهل ثمة معارف أخرى غير علمية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي؟ وما جدواها؟ بالإضافة إلى ذلك ما العلاقة بين المعرفة والحقيقة، بخاصة إذا كانت هذه الأخيرة كما يقول ميشيل فوكو: "دنيوية... وهي نتاج للعديد من الضوابط...فلكل مجتمع نظامه للحقيقة و"سياسته العامة" لها: وهذا يعني تلك الأنماط من الخطاب التي يغذيها ويجعلها تقوم مقام الحقيقة: أي تلك الآليات وتلك الحالات التي تجعل الفرد يميز بين العبارات الصحيحة والخاطئة وكذا الطريقة التي تقيَّم بها. إنها التقنيات والإجراءات التي تثمن للحصول على الحقيقة: أي مركز ومكانة أولئك الذين يُكلَّفون بقول ما يعتبر حقيقة" " فوكو 1979:46". فالحقيقة إذن هنا شيئ من صنع وإنتاج المجتمعات بدل أن تكون شيئا متساميا عنها.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إننا أمام معارف وحقائق شتى، بالمعنى الذي نقر فيه بوجود طب صيني وطب حديث أو طب تقليدي، وهما معا على كل حال أبعد من ممارسات المشعوذين وبائعي الرحمة الربانية بالتقسيط عبر التعاويذ والتمائم...ألخ. بحيث يبقى الهدف هنا تعريف المعرفة العلمية بخاصة، دون أن يعني ذلك عدم وجود معارف أخرى لها قواعدها ومسلماتها الخاصة كما يوحي بذلك الوحي الديني والكشف الصوفي أو ما يتوافق عليه الجامع المشترك بين الناس بحكم العادة أو العرف.
هذا في الوقت الذي يرى البعض بأن العلم هو العلم الشرعي فحسب، دون أن يلتفت إلى علوم الفضاء والفيزياء والهندسة الوراثية والسبرنتيقا... أو أنه إذا قبل بها على مضض في أقصى الحالات، فإنه يحارب تفسيراتها الفلسفية ومقاصدها الاجتماعية. وهو نوع من الخوف لا مبرر له شرعا. هذا في الوقت الذي يريد البعض أيضا أن لا نتعلم وندرس علوم الإناسة والإيتولوجيا والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، بحجة أن نبتتها غير إسلامية أو أنها تخضع إلى روح "جاهلية" بحسب زعمه. وهو مخالف لما حصل في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية من نقل وترجمة للفكر اليوناني ومعارف الشعوب الأخرى التي احتك بها العرب عن قرب.
وبالتالي إن المعرفة التي نقصد على وجه التحديد، هي تلك المعرفة المرتبطة بـ"الشرح" سواء تعلق الأمر بوقوع حدث أو شيئ، ما يفصل بين المعرفة العلمية "epistémé" والرأي "doxa"، أو إذا شئنا التحديد قلنا نتوخى في هذه المعرفة العليمة "الشرح بالأسباب" من حيث ارتباط السبب بالمسبب وتقرير الدليل لإثبات المدلول في الظواهر الطبيعية، كما يحصل من تطبيقات قواعد الاستدلال والمسلّمات التي تدعم نظاما صوريا تبنى عليه أي نظرية علمية.
وهنا لا نتساءل عن ماهية الطبيعة وأصل العالم الفيزيائي الذي يطلق عليه في الفلسفة "الأنطولوجيا" أو علم الكائن، بقدر ما نكتفي بالتساؤل حول مصداقية الشروح العلمية المقدمة في استخداماتها ووظائفها، أي أن المعرفة العلمية التي تقدمها هذه المسلمات والفرضيات وقواعد الاستدلال تقدم بدورها للإنسان سلطة كبيرة في تطويع الطبيعة وتحقيق تطلعاته أحيانا بنسبة قد تتوفر على حظوظ مناسبة للتحقق.
ثانيا إن المعرفة العلمية تشرح الظواهر، والظواهر هنا تعني الأشياء والأحداث أو الوقائع، بحيث لا يمكن للإنسان أن يدركها عقليا إلاّ عن طريق الإدراك الحسي المؤدي إلى تشكيل معنى عبر القيام بعملية قياس. فمن خلال الحواس الخمسة، ثمة عنصرين يشاركان بصفة مباشرة في ذلك ، بخاصة من خلاله ما نلمسه "حاسة اللمس" وما نراه "العين"، ما دفع أفلاطون قديما في حديثه عن العالم المادي أن يتكلم عن عالم "مرئي وملموس"" " horatos kai haptos في نصه الشهير" طيمواس" "Timée". هذا قبل أن يؤكد أرسطو ويضيف بأن العلم لا يمكن أن يكون فقط عن طريق الإدراك الحسي، ثم يتطور الأمر اليوم على ضوء أبحاث البرمجة اللغوية العصبية في العلوم الذهنية، ما يشي بالقول أن المعرفة المكتسبة عن طريق الحواس يمكن أن تكون مضببة ومشوشة على أكثر من صعيد، منه مثلا أنه إذا أخذنا بيدنا أنبوبا يمر به ماء بارد جدا، فإننا سنشعر بالبرودة، والعكس صحيح. لكن إذا مر بنفس الأنبوب تيار من الماء البارد والماء الساخن، لأحسسنا بالماء الساخن، وهو نوع من خداع الحواس. زد على ذلك أن المعرفة التي تتم عن طريق الحواس تمر عبر الدماغ. وبالتالي تفرز في معنى معين يتم تمثيله عبر النطق من خلال اللغة. ناهيك أن اللغة أحيانا تعجز عن التعبير نقصا أو تبالغ فيه زيادة. هذا قبل أن يكشف فلاسفة اللغة والمنطق اللغوي واللسانيات أن المعاني غير محشوة في الكلمات، فنحن من يقرر معانيها بالاستعمالات المرصودة لها، وهنا قد تختلف الاستعمالات بالمصطلحات والكلمات والمفاهيم داخل اللغة ذاتها.


http://img.timeinc.net/time/2007/eating/makes_eat/makes_eat_time.jpg

ثانيا، إن سائر الظواهر المادية تنساب في الزمن، فضلا أن رؤيتها ذاتها تخضع بالضرورة لظرف الزمان والمكان، بحيث إن هذا التدفق يجعل من الزمن مفهوما صعب التعريف، ما دام أنه يجبرنا أن نفصل بين ما هو كائن وما سيكون. بحيث إن هذا الفصل على قدر كبير من الأهمية عندما تطرح قضية تحديد ما نعني بالمعرفة العلمية.
ثالثا، إن ما يميز العالم المادي أن أحداثه قائمة في الآن والحال، فهي ليست مستودعة في الماضي، بل ممتدة في المضارع والمستقبل، إن لم تتحول باستمرار بما يجعل التحول "Kinêsis" أحد صفات العالم الدائمة.
والحال أننا لا زلنا نجهل الشيء الكثير من تاريخ الإنسان، بالقياس إلى أن عمر الكون 13 مليار سنة من منظار الفيزياء الكمية، بينما لا يعود تاريخ الإنسان إلى أكثر من سبعة ملايين سنة، والذي لم يكن هو وحده الذي عمَّر الكون بل مشى على أديم الأرض أكثر من عشرة أنواع انقرضت كلها بما فيها إنسان نيادرتال الذي ظهر قبل 150 ألف سنة.
غير أن المعرفة التي يبحث عنها المفكر ورجل العلم يجب أن تلتزم بطابع الضرورة " يعني ذلك ارتباط السبب بالمسبب على وجه العلة أو القوة..." كما هو متضمَّن مثلا في مفهوم "قانون" الطبيعة " جاذبية نيوتن مثلا".
وبالتالي نجد أنفسنا في معضلة أساسية عندما نتكلم عن المعرفة العلمية، فمن جهة نجد أن ظواهر هذا العالم الخاضع للزمن، متحولة باستمرار، ومن جهة أخرى إن محاولة الشرح الذي نريد تقديمه يجنح إلى عالم مثالي ومعادلات ثابتة، موضوع "عقل خالص"، حيث تجد البناءات النظرية والرياضية فقط مكانها. ومن ثم كيف السبيل أن نجد شروحا لظواهر تخضع إلى تحول "kinêsis" دائم، حيث ليس هناك من شيئ يثبت على حاله، ما دام ديدن الطبيعة تقضي بأن كل من فيها فان، وفي تحول مستمر.
ويمكن أن ننبه أيضا بأن المعرفة العلمية غير المعرفة الشرعية، لأنها تؤكد اليوم ما كان البارحة في تعداد الخيال الجامح، وهي أيضا قد تنفي ما كانت تؤكده البارحة، كما يمكن أن تؤكد ما كانت تنفيه البارحة, لذا لا ينام طلاب العلم على جانب من الحقائق ويهملون أخرى... فهم في حيرة وحذر دائمين. مفاد هذا القول بأن العلم ليس له مسوح دينية، إثنية أو طائفية يستعرض أزياءها... لذلك فإن القول بـ"أسلمة" العلوم محض أسطورة، فليس لك في ميدان العلم أن تفعل لوحدك كما يريد أصحاب القبعات السوداء في السيرك، بأن يخرجوا لك منها طيورا بيضاء وحمراء وسوداء... إذ ليس للعالِِم أن يخرج لك من نفس المعادلة العلمية علما إسلاميا ... أو كاثوليكيا.
ولذلك كانت حركة العلم عبر التاريخ تنمو وتتطور بالحذف والإضافة والتجريب والنقض والتراكم، أو بالرفع والدفع كما يقول أهل الجدل، فالنظريات العلمية ومسلماتها معروضة على قارعة الطريق، يمكن تطويرها... أو نقضها ودحضها من قبل سائر الناس، ما يؤكد أن حركة العلم وإنتاجه التقني لا تتوقف... ولا ينبغي لها ذلك، مهما كانت التبريرات والتعليلات.
وعلى ضوء هذا الاقتضاء، إن المختبرات والتجارب الإنسانية منذ القدم لا تعرف التوقف والاستراحة والاستقالة.. بالإضافة إن العلم لا ينظر إلى عقائد الناس وما يؤمنون به، لذلك هبط نجم المسلمون وصعد نجم الآخرين لمّا فرط الأوائل في ناصية العلم واستسلموا للجهل والقدرية والتواكل وابتعدوا عن الاجتهاد وتشجيع الإبداع... الذي كان وراء تقدمهم ونهضتهم وحملهم مشعل الحضارة طوال قرون.
ومن ثم إن مع تطور العلم تطورت الرؤية إلى الكون، حيث عرفنا مع غاليليو ونيوتن أنها تدور "دوران الأرض حول الشمس"، لكن مع الفيزياء الحديثة وميكانيكا الكم والنسبية والكوسمولوجيا الحديثة، عرفنا أن الدوران أهليلجي وأن السرعة تزداد مع الاقتراب من الشمس وبطيئة عندما تبتعد عنها، كما عرفنا أيضا بأن طبيعة الدوران مستقيمة على الخط ولولبية حول امتداده.
والواقع أن المعرفة العلمية انطلقت في بدايتها بالضرورة من شروح تخضع إلى قواعد كونية كما تفرض ذلك المنهجية البرهانية أو الاستنباطية، فهي من تؤدي في الأخير إلى بناءات صورية يطلق عليها << نظريات علمية>>، بحيث تخضع هذه البناءات الصورية والنظريات العلمية في النهاية إلى مجموع المسلمات المقبولة في أي نموذج علمي وقواعد الاستدلال، كالمنطق والرياضيات.
غير أن ما بين هذين العالمين، نقصد عالم التحول المادي وعالم الأشكال الثابتة والمستقرة، أو إذا شئنا بلغة أخرى عالم الكينونة وعالم النظريات الرياضية، فليس هناك أي علاقة منطقية بين العالمين. لذا سنركز على هذه المفارقة على وجه التحديد التي اعترضت المفكرين منذ أفلاطون وصولا إلى أينشتاين، بحيث ليس هناك من علاقة منطقية بين نظام المسلَّمات الصوري الذي يعتبر في النهاية قاعدة أو بمثابة البناء المثالي الذي نطلق عليه "الشرح العلمي"، وما يمكن لحواسنا عبر عملية قياس أن تقدمه لنا كمعلومات تجريبية. إذ نجد أينشتاين نفسه في رسالة مؤرخة في 7 ماي/ أيار 1952 يعترف بغياب أي علاقة منطقية بين ما يمكن أن نسميه مجموعة قضايا نظرية نطلق عليها "س" ومستوى "أ" الخاص بالإدراك الحسي.
ومن ثم إذا كانت المنهجية العلمية قد أكدت خصوبتها وقوتها كما وقع طوال القرن العشرين، علينا أن نوضح أسباب النقاش الدائر بخصوص الفجوة غير العقلانية بين العقلي والحسي، بحيث نضع على قدم المساواة مكتسبات أحدث النظريات العلمية والنتائج التي ما زالت صالحة وأساسية في أبحاث أكبر فلاسفة الإغريق والعرب قديما. ما دام لا مفر من مواجهة مشكلة الفجوة غير العقلانية بين العقلي والحسي التي قد تصادف أي بحث في أي معرفة علمية.
والحال بالعودة إلى الفلسفة نجد أن أفلاطون والفارابي وابن رشد وابن سينا هم من طرحوا لأول مرة في تاريخ الإنسانية مشكلة المعرفة العلمية والمقصود بها:
أ‌- يخضع الشرح العلمي إلى طابع الضرورة والمثالية، فضلا عن استحالة استنباطه بطريقة مباشرة عبر معطيات الإدراك الحسي، لأن هذه الأخيرة ذاتية وانطباعية وتختلف من شخص إلى آخر.
ب‌- يعمد أفلاطون ومن بعده المتكلمين والفلاسفة العرب إلى وسيلة جديدة ستحظى فيما بعد بالإجماع، كونها المنهجية المتبعة في أي بحث يريد أن يكون علميا، بحيث تفرض هذه المنهجية بداية تقديم لائحة من الفرضيات والمسلمات، يجري التحقق منها عبر الاعتماد على قواعد الاستدلال المقبولة والمعروفة فيها، مما يفترض من القضايا المستنبطة من مسلماتها أن تكون متطابقة وملائمة ومعقولة وتدعمها معطيات الملاحظة.


http://www.maybelogic.org/maybequarterly/02/ZP%20-%20Plato%20Play-Doh%2002.jpg

ت‌- يعمد أفلاطون ومن بعده الفلاسفة العرب لأول مرة في تاريخ العلم إلى الرياضيات كوسيلة تتيح لهم التعبير واستنباط النتائج الصادرة عن المسلمات. ومن ثم تم الاعتراف بأبعاد النظرية العلمية القائمة على المنهج الفرضي الاستنباطي. وهو بمثابة الأداة الصورية المتبعة في علم الكونيات منذ أرسطو إلى عصر النهضة.
إجمالا يفترض أفلاطون والفلاسفة العرب أن هذا الكون من صنع صانع شاء أن يبنيه انطلاقا من عناصر قليلة أساسية وبسيطة ورياضية، حيث تجد ظواهره شرحها العلمي في انتظام هذا الفضاء إذا اكتشفنا تلك المعادلة الرياضية التي استعملها الله في تجميع عناصر الكون. هذا على افتراض بأن الله استعمل رياضيات يستطيع البشر فهمها، لكن أفلاطون يقر بأنه لا يمكن للعقل البشري أن يفهم من الظواهر غير ما نصت عليه المعادلة الرياضية التي تعبر عن تغيره وتحوله في الزمان، لا غير. وهو ما ذهبت إليه أحدث التصورات العلمية من خلال نموذج "الانفجار العظيم" في علم الفلك الحديث، ما دام أن الاتفاق حصل اليوم بما يشبه الإجماع أو يكاد بين العلماء بأنه يستحيل على أي نموذج علمي تقديم وصف كامل للكون برمته.
والحال أن قصور العلم إذا كان في القرن السابع عشر وصولا إلى القرن العشرين أمر لا يمكن أن يستسيغه الفهم، فهو اليوم محل قبول واسع من قبل العلماء أنفسهم، بل الأكثر من ذلك إن طلب النجدة من العلم لا يجدي أحيانا، هذا إن لم يكن تطوراته أحيانا وراء كوارث لا تبقي ولا تذر. لذلك إن العلم يجب أن يهتم بالوقائع والظواهر دون المعايير. فإذا كان بإمكانه أن يقول لنا كيف نحن، فإنه لا يمكن له أن يقول لنا ما هو الذي لا يسير على ما يرام في كينونتنا، لأنه لا يمكن أن يوجد علم الوضع البشري. هكذا إذا كان من المسلم به أن أحكام القيمة منذ الفيلسوف هيوم لا يمكن اختزالها في أحكام الواقع، فإن هذه المسلمة أصبحت مثار انتقادات كبيرة، لأن ما يجري اليوم في العالم يدل على أن العالم مصاب بالحمق في كثير من تصرفاته، بحيث إن العقل الذي ورثناه عن الإنسان البدائي لم يتطور بالشكل التام لكي يمكن أن يتكيف مع العالم، إذ أن نوع العقل على ضوء نظرية التطور في النشوء والارتقاء تم اصطفاؤه لكي يعالج جملة من المشاكل التي كان يتعرض لها الإنسان البدائي في صيده وقطفه الثمار منذ ثلاثين ألف سنة، بحيث كانت المشاكل التي تعترض آنذاك ساكنة قليلة العدد تحاول قدر إمكانها أن تعيش وتضمن استمرارية والحفاظ على النوع وسط محيط بيئي تميزه قلة الموارد. لكن هذا النوع من العقل الذي ورثناه لا يمكن أن يؤدي وظيفته كاملا في الألفية الثالثة، بخاصة وسط مدن مزدحمة تعج بالسيارات والخوف من أن يقع لك شيئ في الطريق، سواء كنت متجها للعمل أو عائدا منه! بخلاف أن الواحد منا يدرك أنه لا يمكنه أن يلد أطفالا كثيرون، ما دام يعلم علم اليقين استحالة أن يضمن تربيتهم تربية جيدة ويضمن لهم كلهم مقعدا في الجامعة.
هذا ليس لأن مشاكلنا اليوم أكثر حدة من أسلافنا، بل ما هي الأداة التي يمكن أن نقيس بها كل ما يقع؟ فهي غائبة تمام إن لم تكن عاجزة عن التكيف مع مجريات الواقع المتحولة بشكل سريع جدا.
ذلك أن الجهاز الذهني الذي ورثناه عن أسلافنا البدائيين يوجد في منقطع الطرق، فهو من جهة مقبل على المجهول أمام ما ينتظره من تداعيات قد تخلفها تكنولوجيا المعلومات، الهندسة الوراثية، النانوية والاستنساخ... بحيث لا يصلح هذا العقل الذي ورثناه ولا يتطابق مع الذي نود استعماله منه اليوم. لذلك ليس من المدهش والغريب أن نجد تصرفات عبثية ومدمرة، إن لم يكن العقل البشري المعاصر يهذي ويرتكب حماقات تلو الأخرى. ناهيك عن تكاثر الأمراض النفسية من انفصام ومازوخية وسادية ونرجسية وازدواج في الشخصية... ألخ.
والسؤال الأساسي الذي يعترض سبيلنا في تطبيق فتوحات العلم وأسسه المنطقية والتجريبية والمادية على نشأة هذا العالم مثلا، يبدأ من معضلة القول بأن الكون كان موجودا منذ الأزل، ما يجعل وضع العالم في الوقت الحالي لا يمكن تفسيره بصورة تامة بالركون إلى الحالات الأسبق، لأن كل ما رجعنا إلى سبب امتدت خطوط الرجعة إلى الخلف بدون نهاية وبدون انقطاع في سلسلة السببية، وبالتالي كل ما رجعنا إلى الخلف سنجد نقطة أخرى إلى ما لانهاية. وبالتالي سنظل ندور وندور إلى ما لانهاية...
ومن جهة أخرى إذا قلنا بأن الكون ظهر إلى الوجود في لحظة معينة من الماضي، فإن اللحظة الأولى تصبح فريدة من نوعها، لكن هنا كيف نربط بين الوجود والعدم؟ يبدو أن شيئا هناك ما وراء القوانين العلمية ـ شيئا فوق طبيعي ـ ينبغى الرجوع إليه عندما كان الزمن يساوي صفرا. والسؤال ما هو هذا الشيء غير الطبيعي؟ وهنا بالذات نكون قد وضعنا قدمنا خارج التفسير العلمي، وهو أمر غير مرغوب فيه على الإطلاق.
ثمة تصور ثالث يقول أنه لا هذا ولا ذاك، بمعنى أنه لم يكن هناك كون منذ الأزل، ولا كون ظهر على حين غرة وفجأة. ومن ثم إمكانية وجود طريق ثالث بين الطريقين السالفين الذكر، هو أن الكون لم يوجد دائما، ولم يظهر على نحو مفاجئ في لحظة زمنية خلق فيها، بل ظهر تدريجيا كما يعنيه زمن بلانك " أي 10 -43 من الثانية". وهذه الإمكانية يمكن أن نتبناها على ضوء ميكانيك الكم والفيزياء النووية، حيث مبدأ اللايقين لهايزنبرغ، ما يعرف بعامل اللاحتمية في الطبيعة.
وهذا يعني أن الأحداث والوقائع على المستوى المجهري على الأقل، يمكن أن تكون تلقائية، أي أنها تحدث بلا أسباب سابقة تامة التحديد وحتمية على هذا الوجه أو ذاك، مما يترك لهذه اللاحتمية أن توفر للكون فرصة الظهور دون أن يخلق أو "يسبب" بطريقة فيزيائية خاصة. الأمر الذي يؤدي إلى القول بأن الظهور التلقائي للكون يتماشى مع قوانين فيزياء الكم " فيزياء الذرة"، بينما في الفيزياء الكلاسيكية يعتبر ذلك معجزة، ولا يمكن تفسيرها علميا.
إجمالا، تحاول النظرية النسبية العامة أو المقصورة وصف الظواهر المرئية، ولا يمكنها في هذا المسعى أن تحسم النزاع بين المثالية والمادية، كما يخطئ من يرى بأنها قادرة أن تحسم النزاع بين الدين وخصومه. لكن نظرية النسبية مهيأة أكثر من غيرها بأن تتضمن تفسيرات فلسفية أو روحية. الأمر الذي دفع البعض للقول بأن نظرية النسبية انتصار نهائي لمذهب المثالية على المادية، بينما اعتبرها البعض شكل من أشكال المادية.
وعلى ضوء هذا الاقتضاء يمكن أن نعتبر بأن الزمان والمكان في النظرية النسبية ليسا حقيقة موضوعية، "فالمكان ليس حقيقة موضوعية سوى أنه ترتيب للأشياء التي نشهدها فيه، كما أن الزمان ليس له وجود مستقل سوى ترتيب الأحداث التي نقيسه بها". الأمر الذي ينجم عنه تأويلين متناقضين:
- إذا اعتبرنا بأن المكان والزمان شيئين روحيين، بحيث حل محلهما في النظرية النسبية قراءات على ساعات أو مساطر مادية، فهذا يعني تفسيرا ماديا.
- أما إذا اعتبرنا بأن مبدأ بقاء المادة لم يعد مقبولا، نظرا لكون المادة في منظور الفيزياء النووية يمكن أن تتحول إلى شيئ غير مادي، وهو الطاقة. اعتبر ذلك دلالة على أن المادة ليست فيها حياة أو حقيقة أو ذكاء أو جوهر، وبالتالي اعتبر ذلك إنجازا ضخما ضد المادية.
والواقع أن كلا الموقفين يتحكم فيه منطلق الملاحظ، بحيث لا يمكن على ضوء الفيزياء النووية القول بأن قانون السببية يجرنا إلى تبني حتمية نيوتن ولابلاس القائمة على تعريف الحالة التي يمكن أن يبقى فيها الشيئ الذري "صلب المادة" في موضع وسرعة محددتين، بحيث أثبتت التجرية بأن ثمة لا يقين على وجه التأكيد حتى يمكن أن نتنبأ بموقع الذرة في سرعتها المستقبلي على وجه التأكيد، إذ أقصى ما يمكن أن نبلغه هو قياس إحصائي لمجمل القيم المستقبلية إذا عرفنا قيمتها الحالية.
وطبقا للنظرية الإحصائية للاحتمالات، يمكن قبول تلك النظرية العلمية التي تبدي اتفاقا مع الوقائع المرئية أكبر ما تبديه نظريات أخرى. لكن في هذه النقطة بالذات نعلم بأن ذلك يعني هو أن أحسن نظرية هي النظرية التي تجيد وصف الوقائع، لكن ذلك للأسف لا يمكن أن يشكل نظرية على وجه الإطلاق.
وعلى أية حال يمكن إضافة مقومات البساطة الرياضية، الاقتصاد في الجهد والوقت والاتفاق مع الفطرة السليمة في سمات النظرية العلمية التي تتجنب معادلاتها التعقيد وتجعل العلم أكثر ديناميكية. فضلا عن كون أن السؤال حول قبول هذه النظرية العلمية بدل أخرى في زمن ومكان ما، ليس له علاقة وثيقة بكونها صحيحة أو مثالية، بحيث لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا إذا دققنا النظر في الهدف الذي تريد أن تخدمه النظرية.
هل التنبؤ بما سيجري ويدور مستقبلا؟ أو استنتاج أكبر عدد من الظواهر والأحداث من مبادئ بسيطة؟ فضلا عن ذلك، هل الغرض هو استغلالها كدعامة في دفع الناس نحو تبني نمط من العيش أو تبني هذا السلوك ورفض ذاك؟
كل ذلك يفي بأنه لا يمكن الفصل بين القيمة التكنولوجية والاجتماعية في أي نظرية علمية، بخاصة أن السلوك البشري يتأثر بالقيمة الاجتماعية، ما دامت هذه الأخيرة تنطوي على آراء دينية وسياسية... أما التأثير التكنولوجي على السلوك البشري... فهو موجود ... وإن كان غير مباشر. بيد أن الكل يعلم اليوم بأن التغيرات التكنولوجية تحدث تغيرات اجتماعية تظهر بالتدريج في شكل سلوك اجتماعي.
ومن ثم نستخلص مثلا بأن المسكوت عنه بالصريح المباشر في الفيزياء النووية وفق الصيغة المعروضة في مبادئ نظرية الكم، ترفض إدخال الحتمية في التفكير والإبداع والجزم بالقطعية والحتمية في الأفكار، بحيث إن خلفيتها تتماشى كليا مع منطق "الإرادة الحرة" للإنسان التي لا تأتلف مطلقا مع النظرية النيوتونية التي كانت تنظر إلى الكون من نافذة الحتمية. فاليقين يقابله اللايقين، والاحتمالات مشرعة على جميع الاتجاهات والافتراضات، بحيث يمكن القول أن العلم يمكن أن يكون له تفسيرا ميتافيزيقيا شئنا أم أبينا. لذلك صدق من قال: "هناك ثلاث درجات للمعرفة، وأدنى الدرجات هي المعرفة بالنظر الحس. وأرفع الدرجات هي المعرفة بالعقل البحت، فهي تتأمل الكائنات الخالدة، وتتأمل، فوق كل شيء، الفضيلة المطلقة"؟
والحال أن ذلك يعيد للأذهان سؤال من الأسبق الدجاجة أم البيضة على النحو الذي رسمه القديس أوغستين في تساؤله عن من هو الأول في الكون، بحيث يلتقي مع نظرية أينشتاين العلمية، بخاصة عندما يقول أوغستين: "إذا استغرب أي عقل مختل أنك أيها الإله القدير العظيم المعز، صانع السموات والأرض، قد أمسكت طوال هذه الأجيال التي لا تحصى عن صنع هذا العمل الكبير الذي صنعته، فليستيقظ هذا العقل ويدرك أنه يستغرب عن وهم زائف. فمهما تعددت الأجيال التي صنعتها، فأنت مؤلف الأجيال جميعا وأنت خالقها. أين هي تلك الأزمنة التي لم تصنعها؟ أو كيف تمر هذه الأزمنة إذا لم تكن أنت صانعها؟ أما وقد رأينا أنك خالق كل زمان، فكيف نقول إنك امتنعت عن العمل في أي زمن يكون قد سبق خلقك للسموات والأرض؟ أما إذا لم يكن هناك زمن قبل خلقك للسموات والأرض، فكيف يسأل: " ماذا صنعت وقتئذ؟"، ذلك أنه لم يكن هناك زمن؟".


http://www.seed.slb.com/ar/scictr/watch/cosmos/images/einstein.jpg

وهو لعمري ما انتظر قرونا طويلة حتى شرح أينشتاين نظريته الشهيرة على أرصفة ميناء نيويورك عندما وصل لأول مرة إلى أمريكا في سنة 1921، قائلا: "إذا افترضنا أن المادة كلها سوف تختفي من العالم، فإن المرء كان يعتقد قبل النسبية أن الزمان والمكان سوف يستمر وجودهما في العالم المفرغ. إلا أنه طبقا للنظرية النسبية فإنه لن يكون هناك زمن أو مكان إذا اختفت المادة وحركتها". وهو ما يمكن فهمه بالمقارنة مع قول القديس أوغستين أنه إذا لم يكن هناك زمن في الفضاء المطلق المفرغ الذي كان موجودا قبل الخلق، فإنه ليس من المستساغ أن نسأل الله عما كان يفعل وقتئذ قبل أن يبدأ الخلق.


انتهى المقال:eh_s (2):

المصدر:http://www.alarabonline.org/index.asp?fname=%5C2009%5C02%5C02-14%5C402.htm&dismode=cx&ts=14/02/2009%2012:57:38%20%D9%85

كاتب المقال:الباحث الجامعى د. حسن المصدق

مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون
[email protected]

تحياتى:)

rusol
02-14-2009, 10:07 PM
تسلم على هذا الموضوع الرائع

أينشتاينية
02-14-2009, 11:25 PM
شكرا لك اخ محمد مصطفى ..على نقل هذا المقال
تحيـــــــــــــــــــــــــــــيات ي

طالبه جآمعيه
03-23-2009, 09:56 PM
شووووكرا على هالموضوع الرااااائع

ENG.HANADI
04-06-2009, 10:30 PM
شكرااااا عالموضوع ..

ونقل مميز ,, ومفيــد ..

دمت لنا \ ذخراً

علاء خياط
09-13-2009, 02:35 PM
شكرا على البحث القيم والمفيد وبانتظار الجديد انشاء الله

تحياتي