المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شهادة المستشرق الفرنسي «ماسينيون» للغة العربية



عبد الرؤوف
10-28-2008, 03:10 PM
شهادة المستشرق الفرنسي «ماسينيون» للغة العربية
بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود



وهذه شهادة أخرى للمستشرق الفرنسي «لويس ماسينيون» عن كفاية اللغة العربية وقدرتها في حمل الحضارة وتقديمها للإنسانية؛ يقول: «يبدو أن هناك تضاداً بين الحضارة من جهة وما يلازمها من ثقافة من جهة أخرى، وذلك باعتبار أن لفظة حضارة ذاتها مشتقة من الحَضَر والحاضرة. والحاضرة في معاجم اللغة ضد البادية.
ولكن هذا التضاد اللغوي غير مسلَّم به في واقع التاريخ، وبخاصة فيما يتعلق ببادية العرب، ونشوء الثقافة بها؛ وذلك لأن هذه البادية قد كانت دار هجرة نزحت إليها أقوام حاملة معها ما تملك من نفائس مادية وروحية، وفي نجاد «مُضَر» وجبال «قَحْطان»، أقام أولئك المهاجرون متخذين من الفيافي والقفار الممتدة حولهم دروعاً تحميهم، ولما كانت اللغة هي وعاء الثقافة، فإن دراسة العربية، ومدى قابليتها لتلقي الثقافة يعدّ مفتاحاً لإدراك فوائد تلك الثقافة».
ويضيف «ماسينيون»: «وأخيراً نجد أن اللغة العربية تفْضُل أُخْتَيها (يقصد: السريانية، والعبرية) من الوجهة الثقافية أيضاً؛ وذلك لأن العربية لغة عذبة وحلوة للدموع، أي لدم القلب. والدموع تجري من مشاهدة الحق المجرد. وهذا الحق يجري مجريين: مجرى التجارب النفسية الاجتماعية، ومجرى التجارب العلمية الرياضية.
وفي العربية من الحكم وجوامع الكلم ما يثقب الضمير مثل السيف المسلول، وفيها من الاصطلاحات الرياضية مايدل على مدى تقدم العرب في تلك الدراسات بعد اليونان ـ ومرد المجربيْن واحد ـ وهو تمييز اللغة العربية بالتجرد والانقباض والتصميد والتوحيد، وما في علوم اللغة؛ فإن الفكر السامي لم يصل إلى علم العروض إلا عند العرب، وفي علم النحو كان في تعميم الإعراب من الأسماء إلى الأفعال المضارعة؛ بل إلى الجمل التي لامحل لها من الإعراب، كان في هذا التعميم ما يدل على أن فلسفة توحيد النحو والصرف لم يصل إليها إلا عند العرب، كما أن الأسلوب لم يكن إلا لديهم». مجالات غير مسبوقة

لقد دفع القرآن الكريم العرب إلى مجالات علمية غير مسبوقة، بدءاً مما عرفوه من علوم وآداب، إلى ما نبغوا فيه وأضافوا إليه من علوم طبيعية وتجريبية، بفضل استقامة اللغة العربية على طريقة الأداء الصحيح التي أشار إليها «الرافعي» من قبل.
ويصعب أن نتناول ذلك تفصيلاً الآن، ولكننا نكتفي ببعض الإشارات الدالة، بعد أن أشرنا إلى المجال اللغوي والتوثيقي الخاص بخدمة القرآن الكريم وضبط لغته وإعرابه وبيانه.

التاريخ

يعد التاريخ من أهم المجالات التي نبه إليها القرآن الكريم، وخاصة فيما سرده عن الأمم السابقة، والأنبياء والرسل مع أقوامهم، وصراعهم من أجل العقيدة والتوحيد والإيمان بالله جل وعلا، وكان ما ورد في القرآن من سيرة وتاريخ لأحداث وقعت في صدر الدعوة بين المسلمين والمشركين، حافزاً حفز العلماء والرواة على متابعة السيرة النبوية وأخبار الغزوات وأحداث المجتمع الإسلامي منذ البعثة المحمدية وما بعدها، وتسجيلها وتدوينها، بل إنهم لم يكتفوا بذلك، بل حاولوا أن يرصدوا ما جرى للأمم من حولهم، واتخاذ مصادر عديدة يسجلون ما يصلهم منها، وقد يقارنون بينه، ويمحصونه، ويرجحون ما هو مطابق للبرهان والدليل.
وقد ساعدهم على ذلك منهج المحدثين «رواة الحديث»، واعتمادهم على «السند»، و«تقويم الرجال»، وقد تضمنت الأحاديث النبوية نفسها وقائع وأحداثاً وسيراً وغزوات تعلقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبالصحابة ومن عاش في عصرهم.
لقد سجلوا ماسمعوه عن الجاهليين، وما عرفوه من أنسابهم، وبطونهم، وقبائلهم، وبيوتاتهم، وأصنامهم، وأيامهم، وخطبهم وأشعارهم، ومنافراتهم، ومعمريهم، وفرسانهم. وغير ذلك.
كما سجلوا تاريخ الشعوب التي دخلت الإسلام، ثم توسعوا في الحديث عن التاريخ من خلال عناوين نوعية: ترجمة تاريخ الشعوب غير العربية، تاريخ المدن، فلسفة التاريخ، القصص التاريخية، التاريخ الإنساني العام، التاريخ من خلال صور خيالية... إلى غير ذلك من صور تاريخية.

الحكمة

لقد أثر القرآن في نظرة المسلمين إلى الدنيا والآخرة، ووصل تأثيره إلى استلهام آياته في صياغة الحكمة شعراً ونثراً، ويمكن أن نجد في ديوان الشعر العربي، ومجلدات الكتب العربية؛ بل والإسلامية تأثراً ملحوظاً وقوياً، ونكتفي بالإشارة إلى مثالين اثنين. أحدهما من الشعر، والآخر من النثر.
لاتدخلنك ضجرة من سائل
فلخير دهرك أن ترى مسؤولاً
لاتجبهن بالرد وجه مؤمل
فبقاء عزك أن ترى مأمولاً
تلقى الكريم فتستدل ببشره
وترى العُبوس على اللئيم دليلاً
واعلم أنك من قليل صائر
خبراً فكن خبراً يرون جميلاً
يقول أبوبكر بن دريد في حكمة شعرية وعظة حسنة، جاء فيها: «ويقول أحد الحكماء:
ألقِ صاحب الحاجة بالبشر؛ فإن عدمت شكره لم تعدم عذره!».
وكما نرى، فإن أبيات الشعر، والحكمة النثرية، تعتمدان على الآية الكريمة: قٍوًلِ مَّعًرٍوفِ وّمّغًفٌرّةِ خّيًرِ مٌَن صّدّقّةُ يّتًبّعٍهّا أّذْى وّاللَّهٍ غّنٌيِ حّلٌيمِ >263< (البقرة).

الفلسفة الإسلامية
وقد نشأ عن الفتوح الإسلامية، واستقرار العرب المسلمين في البلاد الجديدة، ونزوح ناس من أهل البلاد الذين دخلوا الإسلام إلى البلاد العربية، أثر كبير في نشوء حركة ثقافية ضخمة، كانت في أحد جوانبها تهتم بدراسة الأديان والشرائع، وتناقش المشكلات السياسية والفرق الدينية، سواء التي نتجت عن الخلافات بين المسلمين العرب أنفسهم (الخوارج، الشيعة، الزنج، القرامطة...) أو الخلافات التي كانت موجودة أصلاً بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات السماوية أو الوضعية، بالإضافة إلى ما تمت ترجمته عن الحضارتين القديمتين (الفارسية، واليونانية) خاصة «أرسطو»، و«أفلاطون».
نشأ عن كل ذلك اجتهاد كبير، قام به علماء الإسلام متسلحين بالقرآن الكريم والسنة النبوية، للدفاع عن عقيدتهم، ومناقشة ما لدى الآخرين وهضمه، بالاستفادة من العناصر النافعة، وترك العناصر الضارة، وكانت لديهم حججهم وبراهينهم وأدلتهم النقلية والعقلية، واستطاعوا في بعض الأحيان أن يوفقوا بين ما لدى الآخرين، أو ينقدوه ويبطلوه وفقاً لأسس منهجية؛ بل إن تأثير بعض فلاسفة الإسلام على أوروبا كان كبيراً وخطيراً، حين استطاعوا أن يحدثوا انقلاباً أو شرخاً في العلاقة بين الكنيسة والناس، وأن يمهدوا للثورات العديدة التي دفعت الأوروبيين إلى العلم والدرس والمطالبة بالحريات، وإعادة الاعتبار للعقل، كما رأوا عند المسلمين. وكانت الأندلس، وصقلية، وبلاد الشام خير معبر لنقل أفكار علماء الإسلام وتراثهم وفلسفتهم إلى العالم الأوروبي، وبث بذور النهضة في أرجائه، مما جعل بعض المنصفين من الأوروبيين يعترفون بفضل العرب المسلمين على أوروبا بصفة عامة(2).

الخشية من الله
ويمكن القول: إن تأثير القرآن الكريم في العلوم، كان عاماً وشاملاً، فإذا كان أثره من خلال اللغة العربية يظهر بوضوح في العلوم الإنسانية، من خلال المنهجية والموضوعية والتدقيق، والتثبت من النصوص من خلال ما عرف بقضية «الوضع» أو «الانتحال»، فإن الأمر ذاته انعكس على العلوم التجريبية مثل: الفلك، والطب، والكيمياء، وغيرها، حيث كان أعلام هذه العلوم أمثال: (ابن سينا، وابن حيان، وابن زهر، والفارابي...) ينطلقون من مفاهيم إسلامية قرآنية، تدعو إلى العلم والبحث والمعرفة، مع فهم دقيق للغة القرآن ودلالاتها، ولم يكن غائباً عن الجميع قوله تعالى: إنَّمّا يّخًشّى الله مٌنً عٌبّادٌهٌ پًعٍلّمّاءٍ إنَّ الله عّزٌيزِ غّفٍورِ >28< ( فاطر:3).>

الهامشان

(1) أثر القرآن في اللغة العربية، 211 ــ 215 .
(2) وفي مقدمة ابن خلدون عرض مستفيض للعلوم التي أنجزها علماء الإسلام من خلال لغة القرآن، يمكن الرجوع إليها في الجزء الثالث من المقدمة.