عاش العالم لودفيغ بولتزمان في القرن التاسع عشر وتوفي في أوائل القرن العشرين.ما الذي جعل بولتزمان يرقى إلى مصاف العلماء الكبار؟
نعلم اليوم أن الجزيئات والذرات التي تكونها بالغة الصغر وذات أعداد كبيرة جداً كما وتتميز سرعتها بأنها سرعات عشوائية. يعني ذلك أن دراسة ذرة منفردة أو جزيء بحد ذاتها هي دراسة مستحيلة من حيث المبدأ. لقد تحول العلم في القرن التاسع عشر إلى دراسة جمهرة من الذرات والجزيئات وتحديد خصائصها الوسطية الإجمالية. لا يمكن لأي عالم أن يتابع ذرة في حيز غازي باستخدام القوانين التقليدية للحركة بما في ذلك ما تخلفه اصطدامات الذرات ببعضها من آثار. هكذا طرحت مصطلحات وسيطة الطابع تتحدث على سبيل المثال وليس الحصر عن درجة الحرارة لحجم من الغاز أو الضغط الخاص بذلك الحجم. تعكس درجة الحرارة عشوائية سرعات الذرات والجزيئات المكونة للحيز الغازي. كلما ازدادت العشوائية ارتفعت درجات الحرارة. بدوره الضغط هو مؤشر إجمالي أو وسطي للأعداد الهائلة لاصطدامات الذرات ببعضها. تمت صياغة أربعة قوانين أساسية في القرن التاسع عشر تصف السلوك الإجمالي لمنظومة حرارية. نستعرض هذه القوانين في عجالة.
ينص القانون صفر على أن الحرارة تنساب من الساخن إلى البارد وتصبح درجة الحرارة واحدة عند بلوغ التجانس الحراري. يفيدنا القانون الأول بأن الحرارة شكل من أشكال الطاقة وهي تخضع بذلك لقانون انحفاظ الطاقة. أما القانون الثاني فيقرر أن الطبيعة لا تسمح بتحول الطاقة من شكل إلى آخر إن لم يترافق ذلك التحول مع ازدياد درجة الفوضى أي ازدياد الانتروبي وفق المصطلح الفيزيائي. إذا حافظنا على ثبات الانتروبي فإن التحولات من المط المشار إليه تتحق مترافقة مع انخفاض في كمية الطاقة الحرة الجاهزة للعمل يعتبر هذا القانون أهم قانون كوني إلى جانب قانون الجذب الثقالي. يحاول قانون الجذب الثقالي تحقيق النظام المطلق بضم الأجسام الكونية إلى بعضها على العكس يسعى القانون الثاني إلى تفكيك البنى الكونية وبعثرتها . تدور كل الأجسام الكونية حول بعضها بسبب تنازع هذين القانونين.
ينص القانون الثالث على وجود درجة حرارة دنيا هي الصفر المطلق تصبح المادة عندها منظمة بشكل كامل وينتفي أي أثر للفوضى .يستحيل من حيث المبدأ أن تصل درجة حرارة أي جسم إلى الصفر المطلق . تصور العلماء منذ أواخر القرن التاسع عشر استحالة عزل معلومة منفردة لا بل استحالة الوقوع على معلومة منفردة إلا في نطاق التعريف واكتشفوا أن الحديث عن المعلوماتية هو حديث وسطي اجمالي بدوره. وإن كانت الحرارة هي الفوضى بينما المعلوماتية تجسد النظام فلا بد من وضع قوانين اجمالية للمعلوماتية تناظر القونين الحرارية.
القانون المعلوماتي صفر: تؤول أية منظومة معلوماتية إلى التفكك والاندثار والاختلاط بالهباءات الكونية.
القانون المعلوماتي الأول: تخضع المعرفة والفوضى إلى قانون الانحفاظ التالي : الفوضى +المعرفة = ثابت .
القانون المعلوماتي الثاني : لا تبلغ أية منظومة معلوماتية الكمال إذ تقترن وعلى الدوام بها الفوضى والريبة بسبب ازدياد الانتروبي أي .
القانون المعلوماتي الثالث: لا يوجد حد فاصل بين المنظومات المعلوماتية كعلم جديد يربطه بين الانتروبي وبين درجة المعرفة.
صاغ بولتزمان قانونه العام الذي يحدد الانتروبي في منظومة جهارية بما يتناسب مع لوغاريتم عدد البدائل الصغائرية التي يعين كل بديل منها المنظومة الجهارية قيد البحث. أما عامل التناسب لثوابت بولتزمان المعروف في الفيزياء. تنعدم الانتروبي أو الفوضى عند الصفر المطلق. تقاس المعلومات بوحدة البيت. أما المعرفة فوحدة قياسها الإفغوت. تقابل البيت 16-10 أرغة من الطاقة لكل درجة حرارة من الفوضى. يتناقض المحتوى المعلوماتي لمنظومة معينة بمعدل كبير جداً بسبب ازدياد العفوي للانتروبي في الكون. إن هذا القانون هو قانون أسي في المنظور الرياضي. يمكن استدراك المنظومة المعلوماتية بحقنها على الدوام بالمعلومات وهذا سيطلب بذل طاقة تمثل القطاع المعلوماتي بالإدارة الهادفة إلى عمل بناء.
كان بولتزمان أول من طرح نموذج البنيوية الذرية للمادة. لقد ربط بولتزمان بين الانتروبي في الفيزياء ودرجة الفوضى في منظور الرياضي من جهة والمعلوماتية من جهة أخرى. نثبت هنا أن البحث عن معنى درجة الحرارة والانتروبي للمادة قاد ولا شك إلى اكتشاف الذرة . كان بولتزمان وراء ذلك البحث. بشكل مماثل تمخض البحث عن معنى درجة الحرارة والانتروبي للإشعاع إلى اكتشاف جسيمات الطاقة أي الفوتونات. مرة أخرى نقول إن بولتزمان كان وراء ذلك البحث. وفي أيامنا هذه يجري البحث عن معنى درجة الحرارة والانتروبي للثقوب السوداء والذي يأمل العلماء في نهايته أن يضعوا اليد على حقيقة البنيوية الذرية أو الأولية للمكان والفضاء باعتباره كينونة هندسية. إن إنجاز بولتزمان هو الذي يدفع العلماء المعاصرين إلى البحث المذكور.
كانت حياة بولتزمان وإنجازاته حافلة بعدم الاستقرار. لربما أن هذه الحقيقة جعلته ينظر إلى المادة كموج متلاطم . كانت هناك معارضة شديدة لبولتزمان, من أهم معارضيه ارنست ماخ الذي كان يرى في الكون وحدة متلاطمة يستحيل أن تكون مبنية على قاعدة من الذرات وجزيئات متصادمة فوضوية. كذا عارضه بوانكاريه , ذهب بوانكاريه في معارضته لبولتزمان إلى حد صياغة وبرهنة نظرية رياضية تفيد بأن أية منظومة تعود إلى وضعها المتناظر المتجانس بعد فترة زمنية كافية. لكن عالماً بعد بوانكاريه اكتشف خطأ في سياق البرهان جعل النظرية تخرج من قائمة النظريات المقبولة في الرياضيات, لم بكن عمل بولتزمان مستقراً فقد انتقل بين عدد كبير من الجامعات في النمسا وألمانية
توفي بولتزمان في ايطاليا عام 1906 أثناء إجازة صيفية بعد إقدامه على الانتحار. وكان قد حاول الانتحار عدة مرات لكن محاولاته باءت بالفشل, نقشت على قبره في فيينا معادلته التاريخية التي تربط بين المعلوماتية والمعرفة وبين درجة الفوضى والانتروبي.
مواقع النشر (المفضلة)